الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطْواتِ الشَّيْطانِ ومَن يَتَّبِعْ خُطْواتِ الشَّيْطانِ فَإنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ والمُنْكَرِ ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ ما زَكى مِنكم مِن أحَدٍ أبَدًا ولَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشاءُ واللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ العَشْرِ الآياتِ المُتَقَدِّمَةِ، فالجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ، ووُقُوعُهُ عَقِبَ الآياتِ العَشْرِ الَّتِي في قَضِيَّةِ الإفْكِ مُشِيرٌ إلى أنَّ ما تَضَمَّنَتْهُ تِلْكَ الآياتُ مِنَ المَناهِي وظُنُونِ السُّوءِ ومَحَبَّةِ شُيُوعِ الفاحِشَةِ كُلُّهُ مِن وساوِسِ الشَّيْطانِ، فَشَبَّهَ حالَ فاعِلِها في كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطانِ بِهَيْئَةِ الشَّيْطانِ يَمْشِي والعامِلُ بِأمْرِهِ يَتَّبِعُ خُطى ذَلِكَ الشَّيْطانِ. فَفي قَوْلِهِ: ﴿لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ومَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ تَمْثِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلى تَشْبِيهِ حالَةٍ مَحْسُوسَةٍ بِحالَةٍ مُفَعْوِلَةٍ إذْ لا يَعْرِفُ السّامِعُونَ لِلشَّيْطانِ خُطُواتٍ حَتّى يُنْهَوْا عَلى اتِّباعِها. (p-١٨٧)وفِيهِ تَشْبِيهُ وسْوَسَةِ الشَّيْطانِ في نُفُوسِ الَّذِينَ جاءُوا بِالإفْكِ بِالمَشْيِ. و(خُطُواتِ) جَمْعُ خُطْوَةٍ بِضَمِّ الخاءِ. قَرَأهُ نافِعٌ وأبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ والبَزِّيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِسُكُونِ الطّاءِ كَما هي في المُفْرَدِ فَهو جَمْعُ سَلامَةٍ. وقَرَأهُ مَن عَداهم بِضَمِّ الطّاءِ؛ لِأنَّ تَحْرِيكَ العَيْنِ السّاكِنَةِ أوْ الواقِعَةِ بَعْدَ فاءِ الِاسْمِ المَضْمُومَةِ أوِ المَكْسُورَةِ جائِزٌ كَثِيرٌ. والخُطْوَةُ بِضَمِّ الخاءِ: اسْمٌ لِنَقْلِ الماشِي إحْدى قَدَمَيْهِ الَّتِي كانَتْ مُتَأخِّرَةً عَنِ القَدَمِ الأُخْرى وجَعَلَها مُتَقَدِّمَةً عَلَيْها. وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ﴾ [البقرة: ٢٠٨] في سُورَةِ البَقَرَةِ. و(مَن) شَرْطِيَّةٌ، ولِذَلِكَ وقَعَ فِعْلُ (يَتِّبِعُ) مَجْزُومًا بِاتِّفاقِ القُرّاءِ. وجُمْلَةُ ﴿فَإنَّهُ يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ والمُنْكَرِ﴾ جَوابُ الشَّرْطِ، والرّابِطُ هو مَفْعُولُ (يَأْمُرُ) المَحْذُوفُ لِقَصْدِ العُمُومِ، فَإنَّ عُمُومَهُ يَشْمَلُ فاعِلَ فِعْلِ الشَّرْطِ فَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الرَّبْطُ بَيْنَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ وجُمْلَةِ الجَوابِ. وضَمِيرا (فَإنَّهُ يَأْمُرُ) عائِدانِ إلى الشَّيْطانِ. والمَعْنى: ومَن يَتِّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ يَفْعَلُ الفَحْشاءَ والمُنْكَرَ؛ لِأنَّ الشَّيْطانَ يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ والمُنْكَرِ؛ أيْ: بِفِعْلِهِما، فَمَن يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ يَقَعْ في الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ؛ لِأنَّهُ مِن أفْرادِ العُمُومِ. والفَحْشاءُ: كُلُّ فِعْلٍ أوْ قَوْلٍ قَبِيحٍ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما يَأْمُرُكم بِالسُّوءِ والفَحْشاءِ﴾ [البقرة: ١٦٩] في سُورَةِ البَقَرَةِ. والمُنْكَرُ: ما تُنْكِرُهُ الشَّرِيعَةُ ويُنْكِرُهُ أهْلُ الخَبَرِ. وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١٠٤] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وقَوْلُهُ: ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ [النور: ٢٠] الآيَةَ، أيْ لَوْلا فَضْلُهُ بِأنْ هَداكم إلى الخَيْرِ ورَحْمَتُهُ بِالمَغْفِرَةِ عِنْدَ التَّوْبَةِ ما كانَ أحَدٌ مِنَ النّاسِ زاكِيًا؛ لِأنَّ فِتْنَةَ الشَّيْطانِ عَظِيمَةٌ لا يَكادُ يَسْلَمُ مِنها النّاسُ لَوْلا إرْشادُ الدِّينِ، قالَ تَعالى حِكايَةً عَنِ الشَّيْطانِ: ﴿قالَ فَبِعِزَّتِكَ لِأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ إلّا عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ [ص: ٨٢] . (p-١٨٨)و(زَكى) بِتَخْفِيفِ الكافِ عَلى المَشْهُورِ مِنَ القِراءاتِ. وقَدْ كُتِبَ (زَكى) في المُصْحَفِ بِألْفِ فِيٍ صُورَةِ الياءِ. وكانَ شَأْنُهُ أنْ يُكْتَبَ بِالألِفِ الخالِصَةِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ مُمالٍ ولا أصْلُهُ ياءٌ فَإنَّهُ واوِيُّ اللّامِ، ورَسْمُ المُصْحَفِ قَدْ لا يَجْرِي عَلى القِياسِ. ولا تُعَدُّ قِراءَتُهُ بِتَخْفِيفِ الكافِ مُخالِفَةً لِرَسْمِ المُصْحَفِ؛ لِأنَّ المُخالِفَةَ المُضْعِفَةَ لِلْقِراءَةِ هي المُخالَفَةُ المُؤَدِّيَةُ إلى اخْتِلافِ النُّطْقِ بِحُرُوفِ الكَلِمَةِ، وأمّا مِثْلُ هَذا فَمِمّا يَرْجِعُ إلى الأداءِ، والرِّوايَةُ تَعْصِمُ مِنَ الخَطَأِ فِيهِ. وقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ تَذْيِيلٌ بَيْنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ، أيْ سَمِيعٌ لِمَن يُشِيعُ الفاحِشَةَ، عَلِيمٌ بِما في نَفْسِهِ مِن مَحَبَّةِ إشاعَتِها، وسَمِيعٌ لِمَن يُنْكِرُ عَلى ذَلِكَ، عَلِيمٌ لِما في نَفْسِهِ مِن كَراهَةِ ذَلِكَ، فَيُجازِي كُلًّا عَلى عَمَلِهِ. وإظْهارُ اسْمِ الجَلالَةِ فِيهِ لِيَكُونَ التَّذْيِيلُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ؛ لِأنَّهُ مِمّا يَجْرِي مَجْرى المَثَلِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب