الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إلّا دُعاءً ونِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهم لا يَعْقِلُونَ﴾ . (p-٨)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنِ الكُفّارِ أنَّهم عِنْدَ الدُّعاءِ إلى اتِّباعِ ما أنْزَلَ اللَّهُ تَرَكُوا النَّظَرَ والتَّدَبُّرَ، وأخْلَدُوا إلى التَّقْلِيدِ، وقالُوا: ﴿بَلْ نَتَّبِعُ ما ألْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا﴾ ضَرَبَ لَهم هَذا المَثَلَ تَنْبِيهًا لِلسّامِعِينَ لَهم أنَّهم إنَّما وقَعُوا فِيما وقَعُوا فِيهِ بِسَبَبِ تَرْكِ الإصْغاءِ، وقِلَّةِ الِاهْتِمامِ بِالدِّينِ، فَصَيَّرَهم مِن هَذا الوَجْهِ بِمَنزِلِ الأنْعامِ، ومِثْلُ هَذا المَثَلِ يَزِيدُ السّامِعَ مَعْرِفَةً بِأحْوالِ الكُفّارِ، ويُحَقِّرُ إلى الكافِرِ نَفْسَهُ إذا سَمِعَ ذَلِكَ، فَيَكُونُ كَسْرًا لِقَلْبِهِ، وتَضْيِيقًا لِصَدْرِهِ، حَيْثُ صَيَّرَهُ كالبَهِيمَةِ، فَيَكُونُ في ذَلِكَ نِهايَةُ الزَّجْرِ والرَّدْعِ لِمَن يَسْمَعُهُ عَنْ أنْ يَسْلُكَ مِثْلَ طَرِيقِهِ في التَّقْلِيدِ، وهَهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: نَعَقَ الرّاعِي بِالغَنَمِ إذا صاحَ بِها، وأمّا نَغَقَ الغُرابُ فَبِالغَيْنِ المُعْجَمَةِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِلْعُلَماءِ مِن أهْلِ التَّأْوِيلِ في هَذِهِ الآيَةِ طَرِيقانِ: أحَدُهُما: تَصْحِيحُ المَعْنى بِالإضْمارِ في الآيَةِ. والثّانِي: إجْراءُ الآيَةِ عَلى ظاهِرِها مِن غَيْرِ إضْمارٍ. أمّا الَّذِينَ أضْمَرُوا فَذَكَرُوا وُجُوهًا: الأوَّلُ: وهو قَوْلُ الأخْفَشِ والزَّجّاجِ وابْنِ قُتَيْبَةَ، كَأنَّهُ قالَ: ومَثَلُ مَن يَدْعُو الَّذِينَ كَفَرُوا إلى الحَقِّ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ، فَصارَ النّاعِقُ الَّذِي هو الرّاعِي بِمَنزِلَةِ الدّاعِي إلى الحَقِّ، وهو الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وسائِرُ الدُّعاةِ إلى الحَقِّ، وصارَ الكُفّارُ بِمَنزِلَةِ الغَنَمِ المَنعُوقِ بِها، ووَجْهُ التَّشْبِيهِ أنَّ البَهِيمَةَ تَسْمَعُ الصَّوْتَ ولا تَفْهَمُ المُرادَ، وهَؤُلاءِ الكُفّارُ كانُوا يَسْمَعُونَ صَوْتَ الرَّسُولِ وألْفاظَهُ، وما كانُوا يَنْتَفِعُونَ بِها وبِمَعانِيها، لا جَرَمَ حَصَلَ وجْهُ التَّشْبِيهِ. الثّانِي: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دُعائِهِمْ آلِهَتَهم مِنَ الأوْثانِ كَمَثَلِ النّاعِقِ في دُعائِهِ ما لا يَسْمَعُ كالغَنَمِ، وما يَجْرِي مَجْراهُ مِنَ الكَلامِ، والبَهائِمُ لا تَفْهَمُ: فَشَبَّهُ الأصْنامَ في أنَّها لا تَفْهَمُ بِهَذِهِ البَهائِمِ، فَإذا كانَ لا شَكَّ أنَّ هَهُنا المَحْذُوفَ هو المَدْعُوُّ، وفي القَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ المَحْذُوفُ هو الدّاعِي، وفِيهِ سُؤالٌ، وهو أنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا دُعاءً ونِداءً﴾ لا يُساعِدُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ الأصْنامَ لا تَسْمَعُ شَيْئًا. الثّالِثُ: قالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دُعائِهِمْ آلِهَتَهم كَمَثَلِ النّاعِقِ في دُعائِهِ عِنْدَ الجَبَلِ، فَإنَّهُ لا يَسْمَعُ إلّا صَدى صَوْتِهِ فَإذا قالَ: يا زَيْدُ يَسْمَعُ مِنَ الصَّدى: يا زَيْدُ. فَكَذَلِكَ هَؤُلاءِ الكُفّارُ إذا دَعَوْا هَذِهِ الأوْثانَ لا يَسْمَعُونَ إلّا ما تَلَفَّظُوا بِهِ مِنَ الدُّعاءِ والنِّداءِ. الطَّرِيقُ الثّانِي: في الآيَةِ وهو إجْراؤُها عَلى ظاهِرِها مِن غَيْرِ إضْمارٍ وفِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يَقُولَ: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في قِلَّةِ عَقْلِهِمْ في عِبادَتِهِمْ لِهَذِهِ الأوْثانِ، كَمَثَلِ الرّاعِي إذا تَكَلَّمَ مَعَ البَهائِمِ فَكَما أنَّهُ يُقْضى عَلى ذَلِكَ الرّاعِي بِقِلَّةِ العَقْلِ، فَكَذا هَهُنا. الثّانِي: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في اتِّباعِهِمْ آباءَهم وتَقْلِيدِهِمْ لَهم، كَمَثَلِ الرّاعِي إذا تَكَلَّمَ مَعَ البَهائِمِ، فَكَما أنَّ الكَلامَ مَعَ البَهائِمِ عَبَثٌ عَدِيمُ الفائِدَةِ، فَكَذا التَّقْلِيدُ عَبَثٌ عَدِيمُ الفائِدَةِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ فاعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَبَّهَهم بِالبَهائِمِ زادَ في تَبْكِيتِهِمْ، فَقالَ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ لِأنَّهم صارُوا بِمَنزِلَةِ الصُّمِّ في أنَّ الَّذِي سَمِعُوهُ كَأنَّهم لَمْ يَسْمَعُوهُ، وبِمَنزِلَةِ البُكْمِ في أنْ لا يَسْتَجِيبُوا لِما دُعُوا إلَيْهِ، وبِمَنزِلَةِ العُمْيِ مِن حَيْثُ إنَّهم أعْرَضُوا عَنِ الدَّلائِلِ فَصارُوا كَأنَّهم لَمْ يُشاهِدُوها، قالَ النَّحْوِيُّونَ ﴿صُمٌّ﴾ أيْ هم صُمٌّ وهو رَفْعٌ عَلى الذَّمِّ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَهم لا يَعْقِلُونَ﴾ فالمُرادُ العَقْلُ الِاكْتِسابِيُّ؛ لِأنَّ العَقْلَ المَطْبُوعَ كانَ حاصِلًا لَهم، قالَ: العَقْلُ عَقْلانِ مَطْبُوعٌ ومَسْمُوعٌ. ولَمّا كانَ طَرِيقُ اكْتِسابِ العَقْلِ المُكْتَسَبِ هو الِاسْتِعانَةُ بِهَذِهِ القُوى الثَّلاثَةِ فَلَمّا أعْرَضُوا عَنْها فَقَدُوا العَقْلَ المُكْتَسَبَ، ولِهَذا قِيلَ: مَن فَقَدَ حِسًّا فَقَدَ عِلْمًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب