الباحث القرآني

ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَمَثَلُهم حِينَئِذٍ كَمَن تَبِعَ أعْمى في طَرِيقٍ وعِرٍ خَفِيٍّ [فِي فَلَواتٍ ] شاسِعَةٍ كَثِيرَةِ الخَطَرِ عَطَفَ عَلَيْهِ ما يُرْشِدُ إلى تَقْدِيرِهِ مِن قَوْلِهِ مُنَبِّهًا عَلى أنَّهم صارُوا بِهَذا كالبَهائِمِ بَلْ أضَلُّ لِأنَّها وإنْ كانَتْ لا تَعْقِلُ فَهي تَسْمَعُ وتُبْصِرُ فَتَهْتَدِي إلى مَنافِعِها ﴿ومَثَلُ﴾ وبَيَّنَ الوَصْفَ الَّذِي حَمَلَهم عَلى هَذا الجَهْلِ بِقَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ: سَتَرُوا ما يَعْلَمُونَ مِن عَظَمَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى وقُدْرَتِهِ وعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ بِما عِنْدَهم مِنَ الهَوى في أنَّهم لا يَسْمَعُونَ مِنَ الدُّعاءِ إلّا جَرْسَ النَّغْمَةِ ودَوِيَّ الصَّوْتِ مِن غَيْرِ إلْقاءِ أذْهانٍ ولا اسْتِبْصارٍ ﴿كَمَثَلِ﴾ (p-٣٣٢)قالَ الحَرالِّيُّ: المَثَلُ ما يَتَحَصَّلُ في باطِنِ الإدْراكِ مِن حَقائِقِ الأشْياءِ المَحْسُوسَةِ فَيَكُونُ ألْطَفَ مِنَ الشَّيْءِ المَحْسُوسِ فَيَقَعُ لِذَلِكَ جالِيًا لِمَعْنى مِثْلِ المَعْنى المَعْقُولِ ويَكُونُ الأظْهَرُ مِنهُما مَثَلًا لِلْأخْفى، فَلِذَلِكَ يَأْتِي اسْتِجْلاءُ المَثَلِ بِالمَثَلِ، لِيَكُونَ فِيهِ تَلْطِيفٌ لِلظّاهِرِ المَحْسُوسِ وتَنْزِيلٌ لِلْغائِبِ المَعْلُومِ؛ فَفي هَذِهِ الآيَةِ يَقَعُ الِاسْتِجْلاءُ بَيْنَ المَثَلَيْنِ لا بَيْنَ المَمْثُولَيْنِ لِتَقارُبِ المَثَلَيْنِ يَعْنِي وهو وجْهُ الشَّبَهِ وتَباعُدِ المَمْثُولَيْنِ، وفي ذِكْرِ هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ تَقابُلٌ يُفْهِمُ مَثَلَيْنِ آخَرَيْنِ، فاقْتَضى ذَلِكَ تَمْثِيلَيْنِ في مَثَلٍ واحِدٍ كَأنَّ وفاءَ اللَّفْظِ الَّذِي أفْهَمُهُ [هَذا الإيجازُ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ومَثَلُ راعِيهِمْ كَمَثَلِ الرّاعِي ومَثَلِ ما يُرْعى مِنَ البَهائِمِ وهو مِن أعْلى خِطابِ فُصَحاءِ العَرَبِ، ومَن لا يَصِلُ فَهْمُهُ ] إلى جَمْعِ المَثَلَيْنِ يَقْتَصِرُ عَلى تَأْوِيلِهِ بِمَثَلٍ واحِدٍ فَيُقَدِّرُ في الكَلامِ: ومَثَلُ داعِي الَّذِينَ كَفَرُوا ﴿كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ﴾ أيْ: يَصِيحُ، وذَلِكَ لِأنَّ التَّأْوِيلَ يُحْمَلُ عَلى الإضْمارِ والتَّقْدِيرِ، والفَهْمُ يَمْنَعُ مِنهُ ويُوجِبُ فَهْمَ إيرادِ القُرْآنِ عَلى حَدِّهِ ووَجْهِهِ؛ وقالَ: ﴿بِما﴾ أيْ: بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ البَهائِمِ الَّتِي لا عَقْلَ لَها فَهو ﴿يَسْمَعُ إلا دُعاءً﴾ أيْ: مِنَ النّاطِقِ فِيما (p-٣٣٣)يُدْعى إلَيْهِ مِن قِوامِ غِذائِهِ ونَسْلِهِ ﴿ونِداءً﴾ فِيما ساقَ إلَيْهِ بِمَحَلِّ دُعائِهِ مِن حَيْثُ إنَّ النِّداءَ يُشْعِرُ [بِالبُعْدِ والدُّعاءَ يُشْعِرُ ] بِالشُّرُوعِ في القَصْدِ. انْتَهى. فالكافِرُونَ في كَوْنِهِمْ لا يَرْجِعُونَ عَنْ غَيِّهِمْ لِما يَسْمَعُونَ مِنَ الأدِلَّةِ وهم أُولُو عَقْلٍ وسَمْعٍ وبَصَرٍ كالبُهْمِ الَّتِي تَسْمَعُ (p-٣٣٤)وتُبْصِرُ ولَكِنَّها لِكَوْنِها لا تَعْقِلُ [لا تَرْجِعُ ] بِالكَلامِ لِأنَّها لا تَسْمَعُ إلّا ظاهِرَ الصَّوْتِ ولا تَفْهَمُ ما تَحْتَهُ بَلْ بِالحَجَرِ والعَصا، فَإنَّ الرّاعِيَ إذا أرادَ رُجُوعَها عَنْ ناحِيَةٍ صاحَ بِها ورَمى بِحَجَرٍ إلى ما أمامَها فَتَرْجِعُ، فَهي مَحَلُّ مَثَلِهِمُ الَّذِي هو عَدَمُ الإدْراكِ، والبُهْمُ في كَوْنِها لا تَرْجِعُ بِالنِّداءِ بَلْ بِقارِعٍ كالأصَمِّ الأبْكَمِ الأعْمى الَّذِي لا يَرْجِعُ إلّا بِقارِعٍ يَصُكُّهُ في وجْهِهِ فَيَنْكِصُ عَلى عَقِبِهِ فَهو مَحَلُّ مَثَلِها، وداعِيهِمْ في كَوْنِهِ يَتَكَلَّمُ فَلا يُؤَثِّرُ كَلامُهُ مَعَ المُبالَغَةِ فِيهِ كَراعِي البُهْمِ فَهو مَوْضِعُ مَثَلِهِ، وراعِي البُهْمِ مِن حَيْثُ إنَّ بُهْمَهُ لا تَرْجِعُ إلّا بِضَرْبَةٍ بِالحَجَرِ أوْ غَيْرِهِ كالسَّوْطِ الَّذِي يُقْمَعُ بِهِ الأصَمُّ أوْ كَضارِبِ الأصَمِّ المَذْكُورِ فَهو مَحَلُّ مَثَلِهِ؛ فَلِذَلِكَ كانَتْ نَتِيجَةُ التَّمْثِيلِ قَوْلَهُ: ﴿صُمٌّ﴾ أيْ: لا يَسْمَعُونَ ﴿بُكْمٌ﴾ أيْ: لا يَنْطِقُونَ ﴿عُمْيٌ﴾ أيْ: لا يُبْصِرُونَ، وقَدْ عُلِمَ بِهَذا أنَّ الآيَةَ مِنَ الِاحْتِباكِ حُذِفَ مِنَ الأوَّلِ مَثَلُ الدّاعِي لِدَلالَةِ النّاعِقِ عَلَيْهِ ومِنَ الثّانِي المَنعُوقُ بِهِ لِدَلالَةِ المَدْعُوِّينَ عَلَيْهِ. ولَمّا كانَ مَوْجُودُ إدْراكِ العَقْلِ هو حَقائِقُ المَحْسُوساتِ وقَدْ نَفى عَنْهُمُ الحِسَّ المُدْرِكَ لِلْمَحْسُوساتِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (p-٣٣٥)﴿فَهُمْ﴾ بِالفاءِ رَبْطًا وتَعْقِيبًا وتَسْبِيبًا ﴿لا يَعْقِلُونَ﴾ لِأنَّهم لا يَنْتَفِعُونَ بِعُقُولِهِمْ كَما أنَّ هَذا الأصَمَّ كَذَلِكَ، ونَفاهُ بِلا النّافِيَةِ لِلْمُمْتَنِعِ وصِيغَةِ المُضارِعِ المُنْبِئَةُ عَنِ الدَّوامِ، قالَهُ الحَرالِّيُّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب