الباحث القرآني

تَضَمَّنَ هَذا المَثَلَ ناعِقًا أيْ مُصَوِّتًا بِالغَنَمِ وغَيْرِها، ومَنعُوقًا بِهِ وهو الدَّوابُّ، فَقِيلَ: النّاعِقُ العابِدُ وهو الدّاعِي لِلصَّنَمِ، والصَّنَمُ هو المَنعُوقُ بِهِ المَدْعُوُّ، وإنَّ حالَ الكافِرِ في دُعائِهِ كَحالِ مَن يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُهُ، هَذا قَوْلُ طائِفَةٍ مِنهم عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهُ. واسْتَشْكَلَ صاحِبُ الكَشّافِ وجَماعَةٌ مَعَهُ هَذا القَوْلَ، وقالُوا: قَوْلُهُ: ﴿إلا دُعاءً ونِداءً﴾ [البقرة: ١٧١] لا يُساعِدُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ الأصْنامَ لا تَسْمَعُ دُعاءً ولا نِداءً. وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذا الِاسْتِشْكالِ بِثَلاثَةِ أجْوِبَةٍ: أحَدُها: أنَّ " إلّا " زائِدَةٌ، والمَعْنى بِما لا يَسْمَعُ دُعاءً ونِداءً، قالُوا: وقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الأصْمَعِيُّ في قَوْلِ الشّاعِرِ: حَراجِيجُ ما تَنْفَكُّ إلّا مُناخَةً أيْ ما تَنْفَكُّ مُناخَةً، وهَذا جَوابٌ فاسِدٌ، فَإنَّ " إلّا " لا تُزادُ في الكَلامِ. الجَوابُ الثّانِي: أنَّ التَّشْبِيهَ وقَعَ في مُطْلَقِ الدُّعاءِ لا في خُصُوصِيّاتِ المَدْعُوِّ. الجَوابُ الثّالِثُ: أنَّ المَعْنى أنَّ مَثَلَ هَؤُلاءِ في دُعائِهِمْ آلِهَتَهم الَّتِي لا تَفْقَهُ دُعاءَهم كَمَثَلِ النّاعِقِ بِغَنَمِهِ، فَلا يَنْتَفِعُ مِن نَعِيقِهِ بِشَيْءٍ، غَيْرَ أنَّهُ هو في دُعاءٍ ونِداءٍ، وكَذَلِكَ المُشْرِكُ لَيْسَ لَهُ مِن دُعائِهِ وعِبادَتِهِ إلّا العَناءُ. وَقِيلَ: المَعْنى ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كالبَهائِمِ الَّتِي لا تَفْقَهُ مِمّا يَقُولُ الرّاعِي أكْثَرَ مِن الصَّوْتِ؛ فالرّاعِي هو داعِي الكُفّارِ، والكُفّارُ هم البَهائِمُ المَنعُوقُ بِها. قالَ سِيبَوَيْهِ: المَعْنى ومَثَلُك يا مُحَمَّدُ ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ النّاعِقِ والمَنعُوقِ بِهِ؛ وعَلى قَوْلِهِ فَيَكُونُ المَعْنى: ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا وداعِيهمْ كَمَثَلِ الغَنَمِ والنّاعِقِ بِها. وَلَك أنْ تَجْعَلَ هَذا مِن التَّشْبِيهِ المُرَكَّبِ، وأنْ تَجْعَلَهُ مِن التَّشْبِيهِ المُفَرَّقِ، فَإنْ جَعَلْتَهُ مِن المُرَكَّبِ كانَ تَشْبِيهًا لِلْكُفّارِ في عَدَمِ فِقْهِهِمْ وانْتِفاعِهِمْ بِالغَنَمِ الَّتِي يَنْعَقُ بِها الرّاعِي فَلا تَفْقَهُ مِن قَوْلِهِ شَيْئًا غَيْرَ الصَّوْتِ المُجَرَّدِ هو الدُّعاءُ والنِّداءُ، وإنْ جَعَلْتَهُ مِن التَّشْبِيهِ المُفَرَّقِ فاَلَّذِينَ كَفَرُوا بِمَنزِلَةِ البَهائِمِ، ودُعاءُ داعِيهمْ إلى الطَّرِيقِ والهُدى بِمَنزِلَةِ الَّذِي يَنْعِقُ بِها، ودُعاؤُهم إلى الهُدى بِمَنزِلَةِ النَّعْقِ، وإدْراكُهم مُجَرَّدَ الدُّعاءِ والنِّداءِ كَإدْراكِ البَهائِمِ مُجَرَّدَ صَوْتِ النّاعِقِ، واللَّهُ أعْلَمُ قوله تعالى ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهم لا يَعْقِلُونَ﴾ وقال تعالى في الكفار: ﴿صُم بُكْم عُمْى فَهم لا يرْجَعُونَ﴾ فالكافر لم يعقل، والمنافق أبصر ثم عمي وعرف ثم تجاهل وأقر ثم أنكر وآمن، ثم كفر، ومن كان هكذا كان أشد كفرًا وأخبث قلبًا وأعتى على الله ورسله، فاستحق الدرك الأسفل. وفيه معنى آخر أيضًا وهو أن الحامل لهم على النفاق طلب العز والجاه بين الطائفتين فيرضوا المؤمنين ليعزوهم، ويرضوا الكفار ليعزوهم أيضًا. ومن هاهنا دخل عليهم البلاءُ، فإنهم أرادوا العزتين من الطائفتين، ولم يكن لهم غرض في الإيمان والإسلام ولا طاعة الله ورسوله، بل كان ميلهم وصغوهم وجهتهم إلى الكفار، فقوبلوا على ذلك بأعظم الذل وهو أن جعل مستقرهم في أسفل السافلين تحت الكفار، فما اتصف به المنافقون من مخادعة الله ورسوله والذين آمنوا، والاستهزاءِ بأهل الإيمان والكذب والتلاعب بالدين وإظهار أنهم من المؤمنين وأبطنوا قلوبهم فتغلظ كفرهم به، فاستحقوا الدرك الأسفل من النار ولهذا لما ذكر تعالى أقسام الخلق في أول سورة [البقرة: ٢-٢٠] فقسمهم إلى مؤمن ظاهرًا وباطنًا، وكافر ظاهرًا وباطنًا، ومؤمن في الظاهر كافر في الباطن وهم المنافقون، وذكر في حق المؤمنين ثلاث آيات [٣-٥] وفي حق الكفار آيتين [٦-٧]. فلما انتهى إلى ذكر المنافقين ذكر فيهم بضع عشرة آية [٨-٢٠] ذمهم فيها غاية الذم وكشف عوراتهم وقبحهم وفضحهم، وأخبر أنهم هم السفهاءُ المفسدون في الأرض المخادعون المستهزئون المغبونون في اشترائهم الضلالة بالهدى، وأنهم صم بكم عمى فهم لا يرجعون، وأنهم مرضى القلوب وأن الله يزيدهم مرضًا إلى مرضهم، فلم يدع ذمًا ولا عيبًا إلا ذمهم به، وهذا يدل على شدة مقته سبحانه لهم، وبغضه إياهم، وعداوته لهم، وأنهم أبغض أعدائه إليه. فظهرت حكمته الباهرة في تخصص هذه الطبقة بالدرك الأسفل من النار. نعوذ بالله من مثل حالهم، ونسأله معافاته ورحمته. ومن تأمل ما وصف الله به المنافقين في القرآن من صفات الذم علم أنهم أحق بالدرك الأسفل فإنه وصفهم بمخادعته ومخادعة عباده ووصف قلوبهم بالمرض وهو مرض الشبهات والشكوك. ووصفهم بالإفساد في الأرض وبالاستهزاءِ بدينه وبعباده، وبالطغيان، واشتراءِ الضلالة بالهدى والصمم والبكم والعمي والحيرة والكسل عند عبادته، والزنا وقلة ذكره، والتردد - والتذبذب - بين المؤمنين والكفار، فلا إلى هؤلاءِ ولا إلى هؤلاءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب