الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ ومَن أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً ونَحْنُ لَهُ عابِدُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ الجَوابَ الثّانِيَ وهو أنْ ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا الدِّينِ ذَكَرَ بَعْدَهُ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ دَلائِلَ هَذا الدِّينِ واضِحَةٌ جَلِيَّةٌ فَقالَ: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ ثُمَّ في الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: الصَّبْغُ ما يُلَوَّنُ بِهِ الثِّيابُ ويُقالُ: صَبَغَ الثَّوْبَ يَصْبُغُهُ بِفَتْحِ الباءِ وكَسْرِها وضَمِّها ثَلاثُ لُغاتٍ صَبْغًا بِفَتْحِ الصّادِ وكَسْرِها لُغَتانِ.
والصِّبْغَةُ: فِعْلَةٌ مِن صَبَغَ كالجِلْسَةِ مِن جَلَسَ، وهي الحالَةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْها الصَّبْغُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في المُرادِ بِصِبْغَةِ اللَّهِ عَلى أقْوالٍ:
الأوَّلُ: أنَّهُ دِينُ اللَّهِ وذَكَرُوا في أنَّهُ لِمَ سُمِّيَ دِينَ اللَّهِ وُجُوهًا:
أحَدُها: أنَّ بَعْضَ النَّصارى كانُوا يَغْمِسُونَ أوْلادَهم في ماءٍ أصْفَرَ يُسَمُّونَهُ المَعْمُودِيَّةَ ويَقُولُونَ: هو تَطْهِيرٌ لَهم. وإذا فَعَلَ الواحِدُ بِوَلَدِهِ ذَلِكَ قالَ: الآنَ صارَ نَصْرانِيًّا. فَقالَ اللَّهُ تَعالى: اطْلُبُوا صِبْغَةَ اللَّهِ وهي الدِّينُ، والإسْلامُ لا صِبْغَتَهم، والسَّبَبُ في إطْلاقِ لَفْظِ الصِّبْغَةِ عَلى الدِّينِ طَرِيقَةُ المُشاكَلَةِ كَما تَقُولُ لِمَن يَغْرِسُ الأشْجارَ وأنْتَ تُرِيدُ أنْ تَأْمُرَهُ بِالكَرَمِ: اغْرِسْ كَما يَغْرِسُ فُلانٌ تُرِيدُ رَجُلًا مُواظِبًا عَلى الكَرَمِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البَقَرَةِ: ١٥، ١٤]، ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ وهو خادِعُهُمْ﴾ [النِّساءِ: (p-٧٩)١٤٢ ]، ﴿ومَكَرُوا ومَكَرَ اللَّهُ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٥٤]، ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشُّورى: ٤٠]، ﴿إنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإنّا نَسْخَرُ مِنكُمْ﴾ [هُودٍ: ٣٨] .
وثانِيها: اليَهُودُ تَصْبُغُ أوْلادَها يَهُودًا والنَّصارى تَصْبُغُ أوْلادَها نَصارى بِمَعْنى يُلْقُونَهم فَيَصْبُغُونَهم بِذَلِكَ لِما يُشْرِبُونَ في قُلُوبِهِمْ، عَنْ قَتادَةَ قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: يُقالُ: فُلانٌ يَصْبُغُ فُلانًا في الشَّيْءِ، أيْ يُدْخِلُهُ فِيهِ ويُلْزِمُهُ إيّاهُ كَما يُجْعَلُ الصَّبْغُ لازِمًا لِلثَّوْبِ وأنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
؎دَعِ الشَّرَّ وانْزِلْ بِالنَّجاةِ تَحَرُّزًا إذا أنْتَ لَمْ يَصْبُغْكَ في الشَّرِّ صابِغُ
وثالِثُها: سُمِّيَ الدِّينُ صِبْغَةً لِأنَّ هَيْئَتَهُ تَظْهَرُ بِالمُشاهَدَةِ مِن أثَرِ الطَّهارَةِ والصَّلاةِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿سِيماهم في وُجُوهِهِمْ مِن أثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفَتْحِ: ٢٩] .
ورابِعُها: قالَ القاضِي قَوْلُهُ: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿قُولُوا آمَنّا بِاللَّهِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ فَوَصَفَ هَذا الإيمانَ مِنهم بِأنَّهُ صِبْغَةُ اللَّهِ تَعالى لِيُبَيِّنَ أنَّ المُبايَنَةَ بَيْنَ هَذا الدِّينِ الَّذِي اخْتارَهُ اللَّهُ، وبَيْنَ الدِّينِ الَّذِي اخْتارَهُ المُبْطِلُ ظاهِرَةٌ جَلِيَّةٌ، كَما تَظْهَرُ المُبايَنَةُ بَيْنَ الألْوانِ والأصْباغِ لِذِي الحِسِّ السَّلِيمِ.
القَوْلُ الثّانِي: أنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ فِطْرَتُهُ وهو كَقَوْلِهِ: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الرُّومِ: ٣٠] ومَعْنى هَذا الوَجْهِ أنَّ الإنْسانَ مَوْسُومٌ في تَرْكِيبِهِ وبِنْيَتِهِ بِالعَجْزِ والفاقَةِ، والآثارُ الشّاهِدَةُ عَلَيْهِ بِالحُدُوثِ والِافْتِقارِ إلى الخالِقِ فَهَذِهِ الآثارُ كالصِّبْغَةِ لَهُ وكالسِّمَةِ اللّازِمَةِ.
قالَ القاضِي: مَن حَمَلَ قَوْلَهُ: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ عَلى الفِطْرَةِ فَهو مُقارِبٌ في المَعْنى، لِقَوْلِ مَن يَقُولُ: هو دِينُ اللَّهِ لِأنَّ الفِطْرَةَ الَّتِي أُمِرُوا بِها هو الَّذِي تَقْتَضِيهِ الأدِلَّةُ مِن عَقْلٍ وشَرْعٍ، وهو الدِّينُ أيْضًا، لَكِنَّ الدِّينَ أظْهَرُ لِأنَّ المُرادَ عَلى ما بَيَّنّا هو الَّذِي وصَفُوا أنْفُسَهم بِهِ في قَوْلِهِ ﴿قُولُوا آمَنّا بِاللَّهِ﴾ فَكَأنَّهُ تَعالى قالَ في ذَلِكَ: إنَّ دِينَ اللَّهِ الَّذِي ألْزَمَكُمُ التَّمَسُّكَ بِهِ فالنَّفْعُ بِهِ سَيَظْهَرُ دِينًا ودُنْيا كَظُهُورِ حُسْنِ الصِّبْغَةِ، وإذا حُمِلَ الكَلامُ عَلى ما ذَكَرْناهُ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّما قالَ ذَلِكَ لِعادَةٍ جارِيَةٍ لِلْيَهُودِ والنَّصارى في صَبْغٍ يَسْتَعْمِلُونَهُ في أوْلادِهِمْ مَعْنًى، لِأنَّ الكَلامَ إذا اسْتَقامَ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ بِدُونِهِ فَلا فائِدَةَ فِيهِ ولْنَذْكُرِ الآنَ بَقِيَّةَ أقْوالِ المُفَسِّرِينَ:
القَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ هي الخِتانُ، الَّذِي هو تَطْهِيرٌ، أيْ كَما أنَّ المَخْصُوصَ الَّذِي لِلنَّصارى تَطْهِيرٌ لَهم فَكَذَلِكَ الخِتانُ تَطْهِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ أبِي العالِيَةِ.
القَوْلُ الرّابِعُ: إنَّهُ حُجَّةُ اللَّهِ، عَنِ الأصَمِّ، وقِيلَ: إنَّهُ سُنَّةُ اللَّهِ، عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ، والقَوْلُ الجَيِّدُ هو الأوَّلُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في نَصْبِ ”صِبْغَةَ“ أقْوالٌ:
أحَدُها: أنَّهُ بَدَلٌ مِن ”مِلَّةَ“ وتَفْسِيرٌ لَها.
الثّانِي: اتَّبِعُوا صِبْغَةَ اللَّهِ.
الثّالِثُ: قالَ سِيبَوَيْهِ: إنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ فَيَنْتَصِبُ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿آمَنّا بِاللَّهِ﴾ كَما انْتَصَبَ وعْدُ اللَّهِ عَمّا تَقَدَّمَهُ.
أمّا قَوْلُهُ: ﴿ومَن أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ فالمُرادُ أنَّهُ يَصْبُغُ عِبادَهُ بِالإيمانِ ويُطَهِّرُهم بِهِ مِن أوْساخِ الكُفْرِ، فَلا صِبْغَةَ أحْسَنُ مِن صِبْغَتِهِ.
أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونَحْنُ لَهُ عابِدُونَ﴾ فَقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: إنَّهُ عَطْفٌ عَلى: ”آمَنّا بِاللَّهِ“ وهَذا يَرُدُّ قَوْلَ مَن يَزْعُمُ أنَّ صِبْغَةَ اللَّهِ بَدَلٌ مِن مِلَّةِ إبْراهِيمَ أوْ نُصِبَ عَلى الإغْراءِ بِمَعْنى عَلَيْكم صِبْغَةَ اللَّهِ لِما فِيهِ مِن فَكِّ النَّظْمِ وانْتِصابُها عَلى أنَّها مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ هو الَّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، والقَوْلُ ما قالَتْ حِذامُ
{"ayah":"صِبۡغَةَ ٱللَّهِ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبۡغَةࣰۖ وَنَحۡنُ لَهُۥ عَـٰبِدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق