الباحث القرآني

﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ الصِّبْغَةُ بِالكَسْرِ فِعْلَةٌ مِن صَبَغَ كالجِلْسَةِ مِن جَلَسَ، وهي الحالَةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْها الصَّبْغُ عَبَّرَ بِها عَنِ التَّطْهِيرِ بِالإيمانِ، بِما ذَكَرَ، عَلى الوَجْهِ الَّذِي فَصَّلَ، لِأنَّهُ ظَهَرَ أثَرُهُ عَلَيْهِمْ ظُهُورَ الصَّبْغِ عَلى المَصْبُوغِ، وتَداخَلَ في قُلُوبِهِمْ تَداخُلَهُ فِيهِ، وصارَ حِلْيَةً لَهُمْ، فَهُناكَ اسْتِعارَةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ تَصْرِيحِيَّةٌ، والقَرِينَةُ الإضافَةُ، والجامِعُ ما ذُكِرَ، وقِيلَ: لِلْمُشاكَلَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ فَإنَّ النَّصارى كانُوا يَصْبُغُونَ أوْلادَهم بِماءٍ أصْفَرَ يُسَمُّونَهُ المَعْمُودِيَّةَ، يَزْعُمُونَ أنَّهُ الماءُ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ويَعْتَقِدُونَ أنَّهُ تَطْهِيرٌ لِلْمَوْلُودِ كالخِتانِ لِغَيْرِهِمْ، وقِيلَ: هو ماءٌ يُقَدَّسُ بِما يُتْلى مِنَ الإنْجِيلِ، ثُمَّ تُغْسَلُ بِهِ الحامِلاتُ، ويَرُدُّ عَلى هَذا الوَجْهِ أنَّ الكَلامَ عامٌّ لِلْيَهُودِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالنَّصارى، اللَّهُمَّ إلّا أنْ يُعْتَبَرَ أنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ كائِنٌ فِيما بَيْنَهم في الجُمْلَةِ، ونَصْبُها عَلى أنَّها مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: (آمَنّا)، وهي مِنَ المَصادِرِ المُؤَكِّدَةِ لِأنْفُسِها، فَلا يُنافِي كَوْنَها لِلنَّوْعِ، والعامِلُ فِيها صَبَغَنا، كَأنَّهُ قِيلَ: صَبَغَنا اللَّهُ صِبْغَتَهُ، وقُدِّرَ المَصْدَرُ مُضافًا إلى الفاعِلِ لِتَحَقُّقِ (p-398)شَرْطِ وُجُوبِ حَذْفِ عامِلِهِ مِن كَوْنِهِ مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ، إذْ لَوْ قُدِّرَ مُنْكَرًا لَكانَ مُؤَكِّدًا لِمَضْمُونِ أحَدِ جُزْئَيْهِ، أعْنِي الفِعْلَ فَقَطْ، نَحْوَ ضَرَبْتُ ضَرْبًا، وقِيلَ: إنَّها مَنصُوبَةٌ بِفِعْلِ الإغْراءِ، أيِ الزَمُوا صِبْغَةَ اللَّهِ، لا عَلَيْكُمْ، وإلّا لَوَجَبَ ذِكْرُهُ، كَما قِيلَ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الواحِدِيُّ، ولا يَجِبُ حِينَئِذٍ إضْمارُ العامِلِ، لِأنَّهُ مُخْتَصٌّ في الإغْراءِ بِصُورَتَيِ التَّكْرارِ أوِ العَطْفِ كالعَهْدِ العَهْدِ، وكالأهْلِ والوَلَدِ، وذَهَبَ الأخْفَشُ والزَّجّاجُ والكِسائِيُّ وغَيْرُهم إلى أنَّها بَدَلٌ مِن مِلَّةِ إبْراهِيمَ، ﴿ومَن أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ، وقَوْلُهُ تَعالى: (صِبْغَةَ) تَمْيِيزٌ مَنقُولٌ مِنَ المُبْتَدَإ، نَحْوُ: زَيْدٌ أحْسَنُ مِن عَمْرٍو وجْهًا، والتَّقْدِيرُ: ومَن صِبْغَتُهُ أحْسَنُ مِن صِبْغَةِ اللَّهِ تَعالى، كَما يُقَدَّرُ: وجْهُ زَيْدٍ أحْسَنُ مِن وجْهِ عَمْرٍو، والتَّفْضِيلُ جارٍ بَيْنَ الصِّبْغَتَيْنِ لا بَيْنَ فاعِلَيْهِما، أيْ لا صِبْغَةَ أحْسَنُ مِن صِبْغَتِهِ تَعالى، عَلى مَعْنى أنَّهُ أحْسَنُ مِن كُلِّ صِبْغَةٍ، وحَيْثُ كانَ مَدارُ التَّفْضِيلِ عَلى تَعْمِيمِ الحُسْنِ لِلْحَقِيقِيِّ والفَرْضِيَّ المَبْنِيِّ عَلى زَعْمِ الكَفَرَةِ، لَمْ يَلْزَمْ أنْ يَكُونَ في صِبْغَةِ غَيْرِهِ تَعالى حُسْنٌ في الجُمْلَةِ، والجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِما في صِبْغَةِ اللَّهِ تَعالى مِنَ التَّبَجُّحِ، والِابْتِهاجِ، أوْ جارِيَةٌ مَجْرى التَّعْلِيلِ لِلْإغْراءِ، ﴿ونَحْنُ لَهُ عابِدُونَ﴾ أيْ مُوَحِّدُونَ أوْ مُطِيعُونَ مُتَّبِعُونَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ، أوْ خاضِعُونَ مُسْتَكِنُّونَ في اتِّباعِ تِلْكَ المِلَّةِ، وتَقْدِيمُ الجارِّ لِإفادَةِ اخْتِصاصِ العِبادَةِ لَهُ تَعالى، وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ لِإفادَةِ قَصْرِ ذَلِكَ الِاخْتِصاصِ عَلَيْهِمْ، وعَدَمِ تَجاوُزِهِ إلى أهْلِ الكِتابِ، فَيَكُونُ تَعْرِيضًا لَهم بِالشِّرْكِ، أوْ عَدَمِ الِانْقِيادِ لَهُ تَعالى بِاتِّباعِ مِلَّةِ إبْراهِيمَ، والجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلى (آمَنّا)، وذَلِكَ يَقْتَضِي دُخُولَ ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ في مَفْعُولِ: قُولُوا، لِئَلّا يَلْزَمَ الفَصْلُ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالأجْنَبِيِّ، وإيثارُ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِلْإشْعارِ بِالدَّوامِ، ولِمَن نَصَبَ (صِبْغَةَ) عَلى الإغْراءِ أوِ البَدَلِ أنْ يُضْمِرَ (قُولُوا) قَبْلَ هَذِهِ الجُمْلَةِ مَعْطُوفًا عَلى الزَمُوا، عَلى تَقْدِيرِ الإغْراءِ، وإضْمارُ القَوْلِ سائِغٌ شائِعٌ، والقَرِينَةُ السِّياقُ، لِأنَّ ما قَبْلَهُ مَقُولُ المُؤْمِنِينَ، وأنْ يُضْمِرَ اتَّبِعُوا في ﴿بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ لا نَتَّبِعُ، ويَكُونُ ﴿قُولُوا آمَنّا﴾ بَدَلًا مِنَ (اتَّبِعُوا) بَدَلَ البَعْضِ، لِأنَّ الإيمانَ داخِلٌ في اتِّباعِ مِلَّةِ إبْراهِيمَ، فَلا يَلْزَمُ الفَصْلُ بَيْنَ المَعْطُوفِ والمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، ولا بَيْنَ البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ بِالأجْنَبِيِّ، وما قِيلَ: إنَّهُ يَلْزَمُ الفَصْلُ بِبَدَلِ الفِعْلِ بَيْنَ المَفْعُولِ والمُبْدَلِ مِنهُ، فَفِيهِ أنَّ (قُولُوا) لَيْسَ بَدَلًا مِنَ الفِعْلِ فَقَطْ، بَلِ الجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنَ الجُمْلَةِ، فَلا مَحْذُورَ، وأمّا القَوْلُ بِأنَّهُ يُمْكِنُ أنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الجُمْلَةُ حالًا مِن لَفْظَةِ اللَّهِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ومَن أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ أيْ صِبْغَتُهُ بِتَطْهِيرِ القَلْبِ، أوِ الإرْشادِ، أوْ حِفْظِ الفِطْرَةِ أحْسَنُ الأصْباغِ حالَ إخْلاصِ العِبادَةِ لَهُ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ كَما لا يَخْفى،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب