الباحث القرآني

ولَمّا قَدَّمَ تَعالى ما أمَرَهم بِهِ وكانَ عَيْنَ الهُدى تَسَبَّبَ عَنْهُ قَوْلُهُ مُعَبِّرًا بِأداةِ الشَّكِّ إشارَةً إلى أنَّ إيمانَهم لِما لَهم مِنَ الكَثافَةِ والغِلْظَةِ والجَلافَةِ في غايَةِ البُعْدِ: ﴿فَإنْ آمَنُوا﴾ أيْ: أهْلُ الكِتابِ الَّذِينَ أرادُوا أنْ يَسْتَتْبِعُوكم ﴿بِمِثْلِ﴾ أيْ: بِنَفْسِ وحَقِيقَةِ ﴿ما آمَنتُمْ بِهِ﴾ كَما يَأْتِي بَيانُهُ في ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] مِنَ الشُّورى، فَكانُوا تَبَعًا لَكم ﴿فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ عَكْسَ ما قالُوا مِثْلُنا تَهْتَدُوا، وعَبَّرَ بِفِعْلِ المُطاوَعَةِ لِكَوْنِ الإيمانِ مَعَ ظُهُورِهِ بِظُهُورِ دَلائِلِهِ مُوافِقًا لِلْفِطْرَةِ الأُولى، وأمّا الكُفْرُ فَإنَّهُ لَمّا كانَ لِأجَلِ (p-١٩٢)ظُهُورِ الإيمانِ وانْطِباعِهِ في الجِنانِ بَعِيدًا عَنِ المِزاجِ لا يَكُونُ إلّا بِنَوْعٍ مِنَ العِلاجِ بَيْنَ الهَوى والعَقْلِ وكانَ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ الإعْراضِ عَنِ الإيمانِ وغَيْبَتِهِ عَنِ العِيانِ عَبَّرَ عَنِ ارْتِكابِهِ بِما يُشْعِرُ بِذَلِكَ بِصِيغَةِ التَّفَعُّلِ فَقالَ: ﴿وإنْ تَوَلَّوْا﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: فِيهِ إشْعارٌ بِإيمانِ مُؤْمِنٍ مِنهم وتَوَلِّي مُتَوَلٍّ مِنهم، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى إذا صُنِّفَ الخِطابُ كانَ نَبَأً عَنْ تَصْنِيفِ الكِيانِ، فَهو تَعالى لا يُخْرِجُ نَبَأهُ عَلى غَيْرِ كائِنٍ فَيَكُونُ نَبَأً لا كَوْنَ لَهُ، إنَّما ذَلِكَ أدْنى أوْصافِ بَعْضِ الخَلْقِ ﴿فَإنَّما هم في شِقاقٍ﴾ أيْ: يُرِيدُونَ أنْ يَكُونُوا في شِقٍّ غَيْرِ شِقِّكم، لِأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّ الهُدى لَيْسَ في شَيْءٍ غَيْرِهِ كَما اقْتَضَتْهُ ”إنَّما“ . ولَمّا كانَ اللّازِمُ لِمُشاقَّتِهِمْ عَلى هَذا الحالِ المُكايَدَةَ والمُحارَبَةَ وكانَ ذَلِكَ عَلى وجْهِ العِنادِ لَمْ يَكِلْ سُبْحانَهُ كِفايَةَ أوْلِيائِهِ إلى غَيْرِهِ فَسَبَّبَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ أيْ: بِوَعْدٍ لا خُلْفَ فِيهِ أصْلًا وإنْ تَأخَّرَ شَيْئًا مِن تَأخُّرٍ بِما لَهُ مِن قُدْرَةٍ وغَيْرِها مِن صِفاتِ الكَمالِ الَّتِي أفْهَمَها الِاسْمُ الشَّرِيفُ، والكِفايَةُ إغْناءُ المُقاوِمِ عَنْ مُقاوَمَةِ عَدُوِّهِ بِما لا يُحْوِجُهُ إلى (p-١٩٣)دَفْعٍ لَهُ - قالَهُ الحَرالِّيُّ. ولَمّا كانَ المُناوِئُ لِشَخْصٍ إمّا أنْ يَكِيدَهُ بِقَوْلِهِ أوْ بِفِعْلِهِ وكانَ الفِعْلُ مَسْبُوقًا بِالِارْتِسامِ في الضَّمِيرِ وكانَ الكافِي لِشَخْصٍ إنَّما يَتَوَقَّفُ كِفايَتُهُ عَلى العِلْمِ بِما يُصْلِحُهُ قالَ: ﴿وهُوَ السَّمِيعُ﴾ أيْ: لِما يَقُولُ أعْداؤُكم ﴿العَلِيمُ﴾ بِما يُضْمِرُونَ فَهو يُسَبِّبُ لِكُلِّ قَوْلٍ وضَمِيرٍ مِنهم ما يَرُدُّ ضَرَرَهُ عَلَيْهِ، فَحَظُّكم مِنهم مَقْصُورٌ عَلى أذًى في القَوْلِ وسُوءٍ في وُدٍّ في الضَّمِيرِ، وحَظُّهم مِنكم قَهْرُهم وسَبْيُهم والِاسْتِيلاءُ عَلى دِيارِهِمْ وأمْوالِهِمْ. وجَعَلَ الحَرالِّيُّ ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ﴾ أيْ: هَيْئَةَ صَبْغِ المَلِكِ الأعْلى الَّتِي هي حِلْيَةُ المُسْلِمِ وفِطْرَتُهُ كَما أنَّ الصِّبْغَةَ حِلْيَةُ المَصْبُوغِ حالًا تَقاضاها مَعْنى الكَلامِ، وعابَ عَلى النُّحاةِ كَوْنَهم لا يَعْرِفُونَ الحالَ إلّا مِنَ الكَلِمِ المُفْرَدَةِ ولا يَكادُونَ يَتَفَهَّمُونَ الأحْوالَ مِن جُمْلَةِ الكَلامِ، وقالَ: الصِّيغَةُ تَطْوِيرٌ مُعاجِلٌ بِسُرْعَةِ وحْيِهِ، وقالَ: فَلَمّا كانَ هَذا التَّلْقِينُ تَلْقِينًا وحْيًا سَرِيعَ التَّصْيِيرِ مِن حالِ الضَّلالِ المُبِينِ الَّذِي كانَتْ فِيهِ العَرَبُ في جاهِلِيَّتِها إلى حالِ الهُدى المُبِينِ الَّذِي كانَتْ فِيهِ الأنْبِياءُ في هِدايَتِها مِن غَيْرِ مُدَّةٍ جَعَلَهُ تَعالى صِبْغَةً (p-١٩٤)كَما يُصْبَغُ الثَّوْبُ في الوَقْتِ فَيَسْتَحِيلُ مِن لَوْنٍ إلى لَوْنٍ في مُقابَلَةِ ما يَصْبُغُهُ أهْلُ الكِتابِ بِأتْباعِهِمُ المُتَّبِعِينَ لَهم في أهْوائِهِمْ في نَحْوِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الغِطاسَ ﴿ومَن أحْسَنُ مِنَ اللَّهِ﴾ أيِ: الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ (p-١٩٥)﴿صِبْغَةَ﴾ لِأنَّها صِبْغَةُ قَلْبٍ لا تَزُولُ لِثَباتِها بِما تَوَلّاها الحَفِيظُ العَلِيمُ، وتِلْكَ صِبْغَةُ جِسْمٍ لا تَنْفَعُ، وفِيهِ إفْهامٌ بِما يَخْتَصُّ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ انْقِلابِ جَوْهَرِهِمْ نُورًا، كَما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي نُورًا» ! فَكانَ ما انْقَلَبَ إلَيْهِ جَوْهَرُ الأئِمَّةِ انْصَبَغَتْ بِهِ قُلُوبُ الأُمَّةِ ﴿ونَحْنُ لَهُ﴾ أيْ: خاصَّةً ﴿عابِدُونَ﴾ تَكْمِلَةً لِرَدِّ الخِطابِ عَلى خِطابِ عَهْدِ إسْرائِيلَ حَيْثُ قالَ: ﴿ما تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي﴾ [البقرة: ١٣٣] إلّا أنَّ العِبادَةَ في عَهْدِ إسْرائِيلَ سابِقَةٌ والإسْلامَ حَتْمٌ، والإسْلامُ في هَذا التَّلْقِينِ بَدْءٌ لِتَقَعَ العِبادَةُ شُكْرًا - يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ، وجاءَ بِهِ بِالوَصْفِ الثّابِتِ الدّائِمِ فَفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّ أحَدًا مِنهم لا يَرْتَدُّ عَنْ دِينِهِ سَخْطَةً لَهُ بَعْدَ أنْ خالَطَ الإيمانُ بِشاشَةَ قَلْبِهِ، وهو حَظٌّ عامٌّ مِنَ العِصْمَةِ الثّابِتِ خاصُّها لِلنَّبِيِّ ﷺ في عَلِيِّ أمْرِهِ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب