الباحث القرآني

(p-١٣) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وما تَغِيضُ الأرْحامُ وما تَزْدادُ وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ﴾ ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ الكَبِيرُ المُتَعالِ﴾ ﴿سَواءٌ مِنكم مَن أسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ ومَن هو مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وسارِبٌ بِالنَّهارِ﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: في وجْهِ النَّظْمِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنْهم أنَّهم طَلَبُوا آياتٍ أُخْرى غَيْرَ ما أتى بِهِ الرَّسُولُ ﷺ بَيَّنَ أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، فَيَعْلَمُ مِن حالِهِمْ أنَّهم هَلْ طَلَبُوا الآيَةَ الأُخْرى لِلِاسْتِرْشادِ وطَلَبِ البَيانِ، أوْ لِأجْلِ التَّعَنُّتِ والعِنادِ؟ وهَلْ يَنْتَفِعُونَ بِظُهُورِ تِلْكَ الآياتِ، أوْ يَزْدادُ إصْرارُهم واسْتِكْبارُهُمْ؟ فَلَوْ عَلِمَ تَعالى أنَّهم طَلَبُوا ذَلِكَ لِأجْلِ الِاسْتِرْشادِ وطَلَبِ البَيانِ ومَزِيدِ الفائِدَةِ، لَأظْهَرَهُ اللَّهُ تَعالى وما مَنَعَهم عَنْهُ، لَكِنَّهُ تَعالى لَمّا عَلِمَ أنَّهم لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ إلّا لِأجَلِ مَحْضِ العِنادِ، لا جَرَمَ أنَّهُ تَعالى مَنَعَهم عَنْ ذَلِكَ وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ فَقُلْ إنَّما الغَيْبُ لِلَّهِ فانْتَظِرُوا﴾ [يُونُسَ: ٢٠] وقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّما الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ . [الأنْعامِ: ١٠٩] . والثّانِي: أنَّ وجْهَ النَّظْمِ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿وإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ في إنْكارِ البَعْثِ وذَلِكَ لِأنَّهم أنْكَرُوا البَعْثَ بِسَبَبِ أنَّ أجْزاءَ أبْدانِ الحَيَواناتِ عِنْدَ تَفَرُّقِها وتَفَتُّتِها يَخْتَلِطُ بَعْضُها بِبَعْضٍ ولا يَبْقى الِامْتِيازُ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ إنَّما لا يُبْقِي الِامْتِيازَ في حَقِّ مَن لا يَكُونُ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، أمّا في حَقِّ مَن كانَ عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، فَإنَّهُ يُبْقِي تِلْكَ الأجْزاءَ بِحَيْثُ يَمْتازُ بَعْضُها عَنِ البَعْضِ، ثُمَّ احْتَجَّ عَلى كَوْنِهِ تَعالى عالِمًا بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ بِأنَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وما تَغِيضُ الأرْحامُ. الثّالِثُ: أنَّ هَذا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: ﴿ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الحَسَنَةِ﴾ والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ، فَهو تَعالى إنَّما يُنْزِلُ العَذابَ بِحَسَبِ ما يَعْلَمُ كَوْنَهُ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، واللَّهُ أعْلَمُ. المسألة الثّانِيَةُ: لَفْظُ ”ما“ في قَوْلِهِ: ﴿ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وما تَغِيضُ الأرْحامُ وما تَزْدادُ﴾ ] إمّا أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وإمّا أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَإنْ كانَتْ مَوْصُولَةً، فالمَعْنى: أنَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُهُ مِنَ الوَلَدِ أنَّهُ مِن أيِّ الأقْسامِ؛ أهُوَ ذَكَرٌ أمْ أُنْثى، وتامٌّ أوْ ناقِصٌ، وحَسَنٌ أوْ قَبِيحٌ وطَوِيلٌ أوْ قَصِيرٌ، وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الأحْوالِ الحاضِرَةِ والمُتَرَقَّبَةِ فِيهِ. ثم قال: ﴿وما تَغِيضُ الأرْحامُ﴾ والغَيْضُ هو النُّقْصانُ سَواءٌ كانَ لازِمًا أوْ مُتَعَدِّيًا، يُقالُ: غاضَ الماءُ وغِضْتُهُ أنا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وغِيضَ الماءُ﴾ [هُودٍ: ٤٤] والمُرادُ مِنَ الآيَةِ وما تَغِيضُهُ الأرْحامُ، إلّا أنَّهُ حَذَفَ الضَّمِيرَ الرّاجِعَ، وقَوْلُهُ: ﴿وما تَزْدادُ﴾ أيْ تَأْخُذُهُ زِيادَةً، تَقُولُ: أخَذْتُ مِنهُ حَقِّي وازْدَدْتُ مِنهُ كَذا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وازْدادُوا تِسْعًا﴾ [الكَهْفِ: ٢٥] ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيما تَغِيضُهُ الرَّحِمُ وتَزْدادُهُ عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: عَدَدُ الوَلَدِ، فَإنَّ الرَّحِمَ قَدْ يَشْتَمِلُ عَلى واحِدٍ، واثْنَيْنِ، وعَلى ثَلاثَةٍ، وأرْبَعَةٍ، يُرْوى أنَّ شَرِيكًا كانَ رابِعَ أرْبَعَةٍ في بَطْنِ أُمِّهِ. الثّانِي: الوَلَدُ قَدْ يَكُونُ مُخَدَّجًا، وقَدْ يَكُونُ تامًّا. الثّالِثُ: مُدَّةُ وِلادَتِهِ قَدْ تَكُونُ تِسْعَةَ أشْهُرٍ وأزْيَدَ عَلَيْها إلى سَنَتَيْنِ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى، وإلى أرْبَعَةٍ عِنْدَ الشّافِعِيِّ، وإلى خَمْسٍ عِنْدَ مالِكٍ، وقِيلَ: إنَّ الضَّحّاكَ وُلِدَ لِسَنَتَيْنِ، وهَرِمُ بْنُ حَيّانَ بَقِيَ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعَ سِنِينَ، ولِذَلِكَ سُمِّيَ هَرِمًا. الرّابِعُ: الدَّمُ فَإنَّهُ تارَةً يَقِلُّ وتارَةً يَكْثُرُ. الخامِسُ: ما يَنْقُصُ بِالسَّقْطِ مِن غَيْرِ أنْ يَتِمَّ وما يَزْدادُ بِالتَّمامِ. السّادِسُ: ما يَنْقُصُ بِظُهُورِ دَمِ الحَيْضِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ إذا سالَ الدَّمُ في وقْتِ الحَمْلِ ضَعُفَ الوَلَدُ ونَقَصَ، وبِمِقْدارِ حُصُولِ ذَلِكَ النُّقْصانِ يَزْدادُ أيّامَ الحَمْلِ، لِتَصِيرَ هَذِهِ الزِّيادَةُ جابِرَةً لِذَلِكَ النُّقْصانِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: كُلَّما سالَ الحَيْضُ في وقْتِ (p-١٤)الحَمْلِ يَوْمًا زادَ في مُدَّةِ الحَمْلِ يَوْمًا لِيَحْصُلَ بِهِ الجَبْرُ ويَعْتَدِلَ الأمْرُ. السّابِعُ: أنَّ دَمَ الحَيْضِ فَضْلَةٌ تَجْتَمِعُ في بَطْنِ المَرْأةِ، فَإذا امْتَلَأتْ عُرُوقُها مِن تِلْكَ الفَضَلاتِ فاضَتْ وخَرَجَتْ، وسالَتْ مِن دَواخِلِ تِلْكَ العُرُوقِ، ثُمَّ إذا سالَتْ تِلْكَ المَوادُّ امْتَلَأتْ تِلْكَ العُرُوقُ مَرَّةً أُخْرى، هَذا كُلُّهُ إذا قُلْنا: إنَّ كَلِمَةَ ”ما“ مَوْصُولَةٌ، أمّا إذا قُلْنا: إنَّها مَصْدَرِيَّةٌ فالمَعْنى: أنَّهُ تَعالى يَعْلَمُ حَمْلَ كُلِّ أُنْثى ويَعْلَمُ غَيْضَ الأرْحامِ وازْدِيادَها، لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ ولا مِن أوْقاتِهِ وأحْوالِهِ. وأما قوله تَعالى: ﴿وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ﴾ فَمَعْناهُ: بِقَدَرٍ واحِدٍ لا يُجاوِزُهُ ولا يَنْقُصُ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿إنّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ﴾ [القَمَرِ: ٤٩] وقَوْلُهُ في أوَّلِ الفُرْقانِ: ﴿وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفُرْقانِ: ٢]. واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ العِنْدِيَّةِ العِلْمَ ومَعْناهُ: أنَّهُ تَعالى يَعْلَمُ كَمِّيَّةَ كُلِّ شَيْءٍ وكَيْفِيَّتَهُ عَلى الوجه المُفَصَّلِ المُبَيَّنِ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ وُقُوعُ التَّغْيِيرِ في تِلْكَ المَعْلُوماتِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ العِنْدِيَّةِ أنَّهُ تَعالى خَصَّصَ كُلَّ حادِثٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ وحالَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِمَشِيئَتِهِ الأزَلِيَّةِ وإرادَتِهِ السَّرْمَدِيَّةِ، وعِنْدَ حُكَماءِ الإسْلامِ أنَّهُ تَعالى وضَعَ أشْياءَ كُلِّيَّةً وأوْدَعَ فِيها قُوًى وخَواصَّ، وحَرَّكَها بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِن حَرَكاتِها المُقَدَّرَةِ بِالمَقادِيرِ المَخْصُوصَةِ أحْوالٌ جُزْئِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ ومُناسَباتٌ مَخْصُوصَةٌ مُقَدَّرَةٌ، ويَدْخُلُ في هَذِهِ الآيَةِ أفْعالُ العِبادِ وأحْوالُهم وخَواطِرُهم، وهو مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ. * * * ثم قال تَعالى: ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: يُرِيدُ عَلِمَ ما غابَ عَنْهُ خَلْقُهُ وما شَهِدُوهُ. قالَ الواحِدِيُّ: فَعَلى هَذا [الغَيْبُ] مَصْدَرٌ يُرِيدُ بِهِ الغائِبَ، [والشَّهادَةُ] أرادَ بِها الشّاهِدَ، واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِالغائِبِ والشّاهِدِ، قالَ بَعْضُهم: الغائِبُ هو المَعْلُومُ، والشّاهِدُ هو المَوْجُودُ، وقالَ آخَرُونَ: الغائِبُ ما غابَ عَنِ الحِسِّ، والشّاهِدُ ما حَضَرَ، وقالَ آخَرُونَ: الغائِبُ ما لا يَعْرِفُهُ الخَلْقُ، والشّاهِدُ ما يَعْرِفُهُ الخَلْقُ. ونَقُولُ: المَعْلُوماتُ قِسْمانِ: المَعْدُوماتُ والمَوْجُوداتُ، والمَعْدُوماتُ مِنها مَعْدُوماتٌ يَمْتَنِعُ وُجُودُها ومِنها مَعْدُوماتٌ لا يَمْتَنِعُ وُجُودُها، والمَوْجُوداتُ أيْضًا قِسْمانِ: مَوْجُوداتٌ يَمْتَنِعُ عَدَمُها، ومَوْجُوداتٌ لا يَمْتَنِعُ عَدَمُها، وكُلُّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأقْسامِ الأرْبَعَةِ لَهُ أحْكامٌ وخَواصُّ، والكُلُّ مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعالى، وحَكى الشَّيْخُ الإمامُ الوالِدُ عَنْ أبِي القاسِمِ الأنْصارِيِّ عَنْ إمامِ الحَرَمَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: أنَّهُ كانَ يَقُولُ: لِلَّهِ تَعالى مَعْلُوماتٌ لا نِهايَةَ لَها، ولَهُ في كُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ المَعْلُوماتِ مَعْلُوماتٌ أُخْرى لا نِهايَةَ لَها؛ لِأنَّ الجَوْهَرَ الفَرْدَ يَعْلَمُ اللَّهُ تَعالى مِن حالِهِ أنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ في أحْيازٍ لا نِهايَةَ لَها عَلى البَدَلِ، ومَوْصُوفًا بِصِفاتٍ لا نِهايَةَ لَها عَلى البَدَلِ، وهو تَعالى عالِمٌ بِكُلِّ الأحْوالِ عَلى التَّفْصِيلِ، وكُلُّ هَذِهِ الأقْسامِ داخِلٌ تَحْتِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ . ثُمَّ إنَّهُ تَعالى ذَكَرَ عَقِيبَهُ قَوْلَهُ: ﴿الكَبِيرُ﴾ وهو تَعالى يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ كَبِيرًا بِحَسَبِ الجُثَّةِ والحَجْمِ والمِقْدارِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كَبِيرًا بِحَسَبِ القُدْرَةِ والمَقادِيرِ الإلَهِيَّةِ، ثُمَّ وصَفَ تَعالى نَفْسَهُ بِأنَّهُ المُتَعالِ، وهو المُتَنَزِّهُ عَنْ كُلِّ ما لا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مُنَزَّهًا في ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ، فَهَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى كَوْنِهِ تَعالى مَوْصُوفًا بِالعِلْمِ الكامِلِ والقُدْرَةِ التّامَّةِ، ومُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ ما لا يَنْبَغِي، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ تَعالى قادِرًا عَلى البَعْثِ الَّذِي أنْكَرُوهُ وعَلى الآياتِ الَّتِي اقْتَرَحُوها وعَلى العَذابِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ، وأنَّهُ إنَّما يُؤَخِّرُ ذَلِكَ بِحَسَبِ المَشِيئَةِ الإلَهِيَّةِ عِنْدَ قَوْمٍ وبِحَسَبِ المَصْلَحَةِ عِنْدَ آخَرِينَ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ [المُتَعالِي] بِإثْباتِ الياءِ في (p-١٥)الوَقْفِ والوَصْلِ عَلى الأصْلِ، والباقُونَ بِحَذْفِ الياءِ في الحالَتَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ. * * * ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أكَّدَ بَيانَ كَوْنِهِ عالِمًا بِكُلِّ المَعْلُوماتِ، فَقالَ: ﴿سَواءٌ مِنكم مَن أسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ ومَن هو مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وسارِبٌ بِالنَّهارِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: لَفْظُ [سَواءٌ] يَطْلُبُ اثْنَيْنِ تَقُولُ: سَواءٌ زَيْدٌ وعَمْرٌو، ثُمَّ فِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ سَواءً مَصْدَرٌ، والمَعْنى: ذُو سَواءٍ كَما تَقُولُ: عَدْلٌ زَيْدٌ وعَمْرٌو، أيْ ذَوا عَدْلٍ. الثّانِي: أنْ يَكُونَ سَواءٌ بِمَعْنى مُسْتَوٍ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَلا حاجَةَ إلى الإضْمارِ، إلّا أنَّ سِيبَوَيْهِ يَسْتَقْبِحُ أنْ يَقُولَ: مُسْتَوٍ زَيْدٌ وعَمْرٌو؛ لِأنَّ أسْماءَ الفاعِلِينَ إذا كانَتْ نَكِراتٍ لا يُبْدَأُ بِها. ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: بَلْ هَذا الوجه أوْلى لِأنَّ حَمْلَ الكَلامِ عَلَيْهِ يُغْنِي عَنِ التِزامِ الإضْمارِ الَّذِي هو خِلافُ الأصْلِ. المسألة الثّانِيَةُ: في المُسْتَخْفِي والسّارِبِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: يُقالُ: أخْفَيْتُ الشَّيْءَ أُخْفِيهِ إخْفاءً، فَخَفِيَ واسْتَخْفى فُلانٌ مِن فُلانٍ، أيْ تَوارى واسْتَتَرَ. وقَوْلُهُ: ﴿وسارِبٌ بِالنَّهارِ﴾ قالَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: ظاهِرٌ بِالنَّهارِ في سَرْبِهِ أيْ طَرِيقِهِ. يُقالُ: خَلا لَهُ سَرْبُهُ، أيْ طَرِيقُهُ. وقالَ الأزْهَرِيُّ: تَقُولُ العَرَبُ سَرَبَتِ الإبِلُ تَسْرُبُ سَرَبًا، أيْ مَضَتْ في الأرْضِ ظاهِرَةً حَيْثُ شاءَتْ، فَإذا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَمَعْنى الآيَةِ: سَواءٌ كانَ الإنْسانُ مُسْتَخْفِيًا في الظُّلُماتِ أوْ كانَ ظاهِرًا في الطُّرُقاتِ، فَعِلْمُ اللَّهِ تَعالى مُحِيطٌ بِالكُلِّ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: سَواءٌ ما أضْمَرَتْهُ القُلُوبُ وأظْهَرَتْهُ الألْسِنَةُ، وقالَ مُجاهِدٌ: سَواءٌ مَن يُقْدِمُ عَلى القَبائِحِ في ظُلُماتِ اللَّيالِي، ومَن يَأْتِي بِها في النَّهارِ الظّاهِرِ عَلى سَبِيلِ التَّوالِي. والقَوْلُ الثّانِي: نَقَلَهُ الواحِدِيُّ عَنِ الأخْفَشِ وقُطْرُبٍ أنَّهُ قالَ: المُسْتَخْفِي الظّاهِرُ والسّارِبُ المُتَوارِي، ومِنهُ يُقالُ: خَفَيْتُ الشَّيْءَ وأخْفَيْتُهُ؛ أيْ أظْهَرْتُهُ. واخْتَفَيْتُ الشَّيْءَ اسْتَخْرَجْتُهُ، ويُسَمّى النَّبّاشُ المُسْتَخْفِي، والسّارِبُ المُتَوارِي، ومِنهُ يُقالُ لِلدّاخِلِ سَرِبًا، والسَّرَبُ الوَحْشُ إذا دَخَلَ في السِّرْبِ أيْ في كِناسِهِ. قالَ الواحِدِيُّ: وهَذا الوجه صَحِيحٌ في اللُّغَةِ، إلّا أنَّ الِاخْتِيارَ هو الوجه الأوَّلُ لِإطْباقِ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ عَلَيْهِ، وأيْضًا فاللَّيْلُ يَدُلُّ عَلى الِاسْتِتارِ، والنَّهارُ عَلى الظُّهُورِ والِانْتِشارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب