قوله عزّ وجلّ:
﴿اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وما تَغِيضُ الأرْحامُ وما تَزْدادُ وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ﴾ ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَهادَةِ الكَبِيرُ المُتَعالِ﴾ ﴿سَواءٌ مِنكم مَن أسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ ومَن هو مُسْتَخْفٍ بِاللَيْلِ وسارِبٌ بِالنَهارِ﴾
لَمّا تَقَدَّمَ تَعَجُّبُ الكُفّارِ واسْتِبْعادُهُمُ البَعْثَ مِنَ القُبُورِ نَصَّ اللهُ في هَذِهِ الآياتِ الأمْثالَ المُنَبِّهَةَ عَلى قَدْرِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى القاضِيَةَ بِتَجْوِيزِ البَعْثِ، فَمِن ذَلِكَ هَذِهِ الواحِدَةُ مِنَ الخَمْسِ الَّتِي هي مِن مَفاتِيحِ الغَيْبِ، وهي أنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى انْفَرَدَ بِمَعْرِفَةِ ما تَحْمِلُ كُلُّ الإناثِ مِنَ الأجِنَّةِ مِن كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الحَيَوانِ، وهَذِهِ البَدْأةُ تُبَيِّنُ أنَّهُ لا تَتَعَذَّرُ عَلى القادِرِ عَلَيْها الإعادَةُ.
و"ما" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما تَحْمِلُ﴾ يَصِحُّ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى الَّذِي مَفْعُولَةً بِـ "يَعْلَمُ"، ويَصِحُّ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، مَفْعُولَةً أيْضًا بِـ "يَعْلَمُ"، ويَصِحُّ أنَّ تَكُونَ اسْتِفْهامًا في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ "تَحْمِلُ"، وفي هَذا الوَجْهِ ضَعْفٌ. وفي مُصْحَفٍ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وما تَضَعُ".
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما تَغِيضُ الأرْحامُ﴾ مَعْناهُ: ما تَنْقُصُ، وذَلِكَ مِن مَعْنى ﴿وَغِيضَ الماءُ﴾ [هود: ٤٤] وهو مِن مَعْنى النُضُوبِ، فَهي هاهُنا بِمَعْنى زَوالِ شَيْءٍ عَنِ الرَحِمِ وذَهابِهِ، (p-١٨١)فَلَمّا قابَلَهُ قَوْلُهُ: ﴿وَما تَزْدادُ﴾ فُسِّرَ بِمَعْنى النُقْصانِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في صُورَةِ الزِيادَةِ والنُقْصانِ -فَقالَ مُجاهِدٌ: غَيْضُ الرَحِمِ أنْ تُهَرِيقَ دَمًا عَلى الحَمْلِ، فَإذا كانَ ذَلِكَ ضَعُفَ الوَلَدُ في البَطْنِ وشَحُبَ، فَإذا أكْمَلَتِ الحامِلُ تِسْعَةَ أشْهُرٍ لَمْ تَضَعْ، وبَقِيَ الوَلَدُ في بَطْنِها زِيادَةً مِنَ الزَمَنِ يُكْمِلُ فِيها مِن جِسْمِهِ وصِحَّتِهِ ما نَقَصَ بِهِراقَةِ الدَمِ، فَهَذا هو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وَما تَغِيضُ الأرْحامُ وما تَزْدادُ﴾. وجُمْهُورُ المُتَأوِّلِينَ عَلى أنَّ غَيْضَ الرَحِمِ إرْسالُ الدَمِ عَلى الحَمْلِ، وذَهَبَ بَعْضُ الناسِ إلى أنَّ غَيْضَهُ هو نُضُوبُ الدَمِ فِيهِ وإمْساكُهُ بَعْدَ عادَةِ إرْسالِهِ بِالحَيْضِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿وَما تَزْدادُ﴾ بَعْدَ ذَلِكَ جارِيًا مَجْرى "تَغِيضُ" عَلى غَيْرِ مُقابَلَةٍ، بَلْ غَيْضُ الرَحِمِ هو بِمَعْنى الزِيادَةِ فِيهِ. وقالَ الضَحّاكُ: غَيْضُ الرَحِمِ أنْ تُسْقِطَ المَرْأةُ الوَلَدَ، والزِيادَةُ أنْ تَضَعَهُ لِمُدَّةٍ كامِلَةٍ تامًّا في خَلْقِهِ. وقالَ قَتادَةُ: الغَيْضُ: السِقْطُ، والزِيادَةُ البَقاءُ فَوْقَ تِسْعَةِ أشْهُرٍ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ﴾ لَفْظٌ عامٌّ في كُلِّ ما يَدْخُلُهُ التَقْدِيرُ.
و"الغَيْبِ": ما غابَ عَنِ الإدْراكاتِ، و"الشَهادَةِ": ما شُوهِدَ مِنَ الأُمُورِ، ووَضَعَ المَصادِرَ مَوْضِعَ الأشْياءِ الَّتِي كَلُّ واحِدٍ مِنها لا بُدَّ أنْ يَتَّصِفَ بِإحْدى الحالَتَيْنِ.
وقَوْلُهُ: "الكَبِيرُ" صِفَةُ تَعْظِيمٍ عَلى الإطْلاقِ، و"المُتَعالِ" مِنَ العُلُوِّ، واخْتَلَفَ القُرّاءُ في الوَقْفِ عَلى "المُتَعالِ" -فَأثْبَتَ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو - في بَعْضِ ما رُوِيَ عنهُ- الياءَ في الوَصْلِ والوَقْفِ، ولَمْ يُثْبِتْها الباقُونَ في وصْلٍ ولا وقْفٍ، وإثْباتُها هو الوَجْهُ والبابُ. واسْتَسْهَلَ سِيبَوَيْهِ حَذْفَها في الفَواصِلِ كَهَذِهِ الآيَةِ قِياسًا عَلى القَوافِي في الشِعْرِ، ويَقْبُحُ حَذْفُها في غَيْرِ فاصِلَةٍ ولا شِعْرٍ، ولَكِنَّ وجْهَهُ أنَّهُ لَمّا كانَ التَنْوِينُ يُعاقِبُ الألِفَ واللامَ أبَدًا، وكانَتْ هَذِهِ الياءُ تُحْذَفُ مَعَ التَنْوِينِ حَسُنَ أنْ تُحْذَفَ مَعَ مُعاقِبِها.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ويَتَّصِلُ بِهَذِهِ الآيَةِ فِقْهٌ يَحْسُنُ ذِكْرُهُ.
فَمِن ذَلِكَ اخْتِلافُ الفُقَهاءِ في الدَمِ الَّذِي تَراهُ الحامِلُ -فَذَهَبَ مالِكٌ وأصْحابُهُ والشافِعِيُّ وأصْحابُهُ وجَماعَةٌ إلى أنَّهُ حَيْضٌ. وقالَتْ فِرْقَةٌ عَظِيمَةٌ: لَيْسَ بِحَيْضٍ، ولَوْ كانَ حَيْضًا لَما صَحَّ اسْتِبْراءُ الأمَةِ بِحَيْضٍ وهو إجْماعٌ. ورُوِيَ عن مالِكٍ في كِتابِ مُحَمَّدٍ ما يَقْتَضِي أنَّهُ لَيْسَ بِحَيْضٍ، ومِن ذَلِكَ أنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلى أنَّ أقَلَّ مُدَّةِ الحَمْلِ سِتَّةُ (p-١٨٢)أشْهَرٍ، وذَلِكَ مُنْتَزَعٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿وَحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: ١٥] مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والوالِداتُ يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٣٣] وهَذِهِ السِتَّةُ أشْهُرٍ هي بِالأهِلَّةِ كَسائِرِ أشْهُرِ الشَرِيعَةِ، ولِذَلِكَ قَدْ رُوِيَ في المَذْهَبِ عن بَعْضِ أصْحابِ مالِكٍ -وَأظُنُّهُ في كِتابِ ابْنِ حارِثٍ- أنَّهُ إنْ نَقَصَ مِنَ الأشْهُرِ السِتَّةِ ثَلاثَةُ أيّامٍ، فَإنَّ الوَلَدَ يُلْحَقُ لِعِلَّةِ نَقْصِ الشُهُورِ وزِيادَتِها.
واخْتُلَفَ في أكْثَرِ الحَمْلِ فَقِيلَ: تِسْعَةُ أشْهُرٍ، وهَذا ضَعِيفٌ، وقالَتْ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها- وجَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: أكْثَرُهُ حَوْلانِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: ثَلاثَةُ أعْوامٍ، وفي المُدَوَّنَةِ: أرْبَعَةُ أعْوامٍ وخَمْسَةُ أعْوامٍ، وقالَ ابْنُ شِهابٍ وغَيْرُهُ: سَبْعَةُ أعْوامٍ، ورُوِيَ أنَّ ابْنَ عَجْلانَ ولَدَتِ امْرَأتُهُ لِسَبْعَةِ أعْوامٍ، ورُوِيَ أنَّ الضِحّاكَ بْنَ مُزاحِمٍ بَقِيَ حَوْلَيْنِ، قالَ: فَوُلِدْتُ وقَدْ نَبَتَتْ ثَنايايَ، ورُوِيَ أنَّ عَبْدَ المَلِكِ بْنَ مَرْوانَ وُلِدَ لِسِتَّةِ أشْهُرٍ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَواءٌ مِنكُمْ﴾ الآيَةَ. سَواءٌ مَصْدَرٌ، وهو يَطْلُبُ بَعْدَهُ شَيْئَيْنِ يَتَماثَلانِ، ورَفْعُهُ عَلى خَبَرِ الِابْتِداءِ الَّذِي هو "مَن"، والمَصْدَرُ لا يَكُونُ خَبَرًا إلّا بِإضْمارٍ كَما قالَتِ الخَنْساءُ:
.....................
؎ فَإنَّما هي إقْبالٌ وإدْبارٌ
أيْ: ذاتُ إقْبالٍ وإدْبارٍ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: هُنا المَعْنى: "ذُو سَواءٍ"، قالَ الزُجاجُ: كَثُرَ اسْتِعْمالُ (سَواءٍ) في كَلامِ العَرَبِ حَتّى جَرى مَجْرى اسْمِ الفاعِلِ فَلا يَحْتاجُ إلى إضْمارٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهُوَ عِنْدِي كَعَدْلٍ وزُورٍ وضَيْفٍ.
(p-١٨٣)وَقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْنى: "مُسْتَوٍ مِنكُمْ"، فَلا يَحْتاجُ إلى إضْمارٍ، وضَعَّفَ هَذا سِيبَوَيْهِ بِأنَّهُ ابْتِداءٌ بِنَكِرَةٍ. ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ: مُعْتَدِلٌ مِنكم في إحاطَةِ اللهِ تَعالى وعَلِمِهِ مَن أسَرَّ قَوْلَهُ فَهَمَسَ بِهِ في نَفْسِهِ ومَن جَهَرَ بِهِ فَأسْمَعَ، لا يَخْفى عَلى اللهِ تَعالى شَيْءٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن هو مُسْتَخْفٍ بِاللَيْلِ﴾ مَعْناهُ: مَن هو بِاللَيْلِ في غايَةِ الِاخْتِفاءِ ومَن هو مُتَصَرِّفٌ بِالنَهارِ ذاهِبٌ لِوَجْهِهِ سَواءٌ في عِلْمِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى وإحاطَتِهِ بِهِما. وذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ إلى مَعْنًى مُقْتَضاهُ: أنَّ المُسْتَخْفِيَ بِاللَيْلِ والسارِبَ بِالنَهارِ هو رَجُلٌ واحِدٌ مُرِيبٌ بِاللَيْلِ ويُظْهِرُ بِالنَهارِ البَراءَةَ في التَصَرُّفِ مَعَ الناسِ، فَهَذا قِسْمٌ واحِدٌ جَعَلَ اللَيْلَ نَهارَ راحَةٍ، والمَعْنى: هَذا والَّذِي أمْرُهُ كُلُّهُ واحِدٌ بَرِيءٌ مِنَ الرَيْبِ سَواءٌ في اطِّلاعِ اللهِ تَعالى عَلى الكُلِّ. ويُؤَيِّدُ هَذا التَأْوِيلَ عَطْفُ السارِبِ دُونَ تَكْرارِ "مَن"، ولا يَأْتِي حَذْفُها إلّا في ضَرُورَةِ الشِعْرِ.
والسارِبُ في اللُغَةِ المُتَصَرِّفُ كَيْفَ شاءَ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ أرى كُلَّ قَوْمٍ كارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ∗∗∗ ∗∗∗ ونَحْنُ حَلَلْنا قَيْدَهُ فَهْوَ سارِبُ
أيْ مُنْصَرِفٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ عن جِهَةٍ، وهَذا رَجُلٌ يَفْخَرُ بِعِزَّةِ قَوْمِهِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الآخَرِ:
؎ أنّى سَرَبْتِ وكُنْتِ غَيْرَ سَرُوبِ ∗∗∗ ∗∗∗ وتُقَرِّبُ الأحْلامُ غَيْرَ قَرِيبِ
وتَحْتَمِلُ الآيَةُ أنْ تَتَضَمَّنَ ثَلاثَةَ أصْنافٍ، فالَّذِي يُسِرُّ طَرَفٌ، والَّذِي يَجْهَرُ طَرَفٌ (p-١٨٤)مُضادٌّ لِلْأوَّلِ، والثالِثُ مُتَوَسِّطٌ مُتَلَوِّنٌ يَعْصِي بِاللَيْلِ مُسْتَخْفِيًا ويُظْهِرُ البَراءَةَ بِالنَهارِ، والقَوْلُ في الآيَةِ يَطَّرِدُ مَعْناهُ في الأعْمالِ، وقالَ قُطْرُبٌ - فِيما حَكى الزَجّاجُ -: "مُسْتَخْفٍ" مَعْناهُ: ظاهِرٌ، مِن قَوْلِهِمْ: "خَفَيْتُ الشَيْءَ" إذا أظْهَرْتُهُ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:
؎ خَفاهُنَّ مِن أنْفاقِهِنَّ كَأنَّما ∗∗∗ ∗∗∗ خَفّاهُنَّ ودْقٌ مِن عَشِيٍّ مُجَلِّبِ
قالَ: و"سارِبٌ" مَعْناهُ: مُتَوارٍ في سِرْبٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا القَوْلُ وإنْ كانَ تَعَلُّقُهُ بِاللُغَةِ بَيِّنًا فَضَعِيفٌ، لِأنَّ اقْتِرانَ اللَيْلِ بِالمُسْتَخْفِي والنَهارِ بِالسارِبِ يَرُدُّ عَلى هَذا القَوْلِ.
{"ayahs_start":8,"ayahs":["ٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِیضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَیۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ","عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلۡكَبِیرُ ٱلۡمُتَعَالِ","سَوَاۤءࣱ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّیۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ"],"ayah":"سَوَاۤءࣱ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّیۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ"}