(p-٣٦٥١)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[ ١٠ ] ﴿سَواءٌ مِنكم مَن أسَرَّ القَوْلَ ومَن جَهَرَ بِهِ ومَن هو مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وسارِبٌ بِالنَّهارِ﴾
﴿سَواءٌ مِنكم مَن أسَرَّ القَوْلَ﴾ أيْ في نَفْسِهِ ﴿ومَن جَهَرَ بِهِ﴾ أيْ لِغَيْرِهِ ﴿ومَن هو مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ﴾ أيْ: طالِبٌ الخَفاءَ في مُخْتَبَأٍ بِاللَّيْلِ في ظُلْمَتِهِ ﴿وسارِبٌ بِالنَّهارِ﴾ أيْ: ذاهِبٌ في سِرْبِهِ، أيْ في طَرِيقِهِ يُبْصِرُهُ كُلُّ أحَدٍ.
لَطِيفَةٌ:
قِيلَ: إنَّ (سَواءً) بِمَعْنى الِاسْتِواءِ، وهو يَقْتَضِي ذِكْرَ شَيْئَيْنِ، وهُنا إذا كانَ (سارِبٌ) مَعْطُوفًا عَلى جُزْءِ الصِّلَةِ أوِ الصِّفَةِ؛ يَكُونُ شَيْئًا واحِدًا.
وأُجِيبَ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ: (الأوَّلُ) أنَّ (سارِبٌ) مَعْطُوفٌ عَلى (مَن هُوَ) لا عَلى (مُسْتَخْفٍ) كَأنَّهُ قِيلَ: سَواءٌ مِنكم إنْسانٌ هو مُسْتَخْفٍ وآخَرُ هو سارِبٌ. و(الثّانِي) أنَّهُ عَطْفٌ عَلى (مُسْتَخْفٍ)، إلّا أنَّ (مَن) في مَعْنى الِاثْنَيْنِ، كَقَوْلِهِ:
؎نَكُنْ مِثْلَ مَن يا ذِئْبُ يَصْطَحِبانِ
كَأنَّهُ قِيلَ: سَواءٌ مِنكُمُ اثْنانِ هُما مُسْتَخْفٍ وسارِبٌ. وعَلى الوَجْهَيْنِ (مَن) مَوْصُوفَةٌ لا مَوْصُولَةٌ. فَيُحْمَلُ الأوَّلانِ عَلى ذَلِكَ لِيَتَوافَقَ الكُلُّ.
وهُناكَ وجْهٌ آخَرُ وهو أنْ يَكُونَ المَوْصُولُ مَحْذُوفًا وصِلَتُهُ باقِيَةٌ، والمَعْنى: ومَن هو مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ومَن هو سارِبٌ بِالنَّهارِ. وحَذْفُ المَوْصُولِ المَعْطُوفِ وبَقاءُ صِلَتِهِ شائِعٌ، خُصُوصًا وقَدْ (p-٣٦٥٢)تَكَرَّرَ المَوْصُولُ في الآيَةِ ثَلاثًا. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما أدْرِي ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٩] والأصْلُ: ولا ما يُفْعَلُ بِكم. وإلّا كانَ حَرْفُ النَّفْيِ دَخِيلًا في غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ لِأنَّ الجُمْلَةَ الثّانِيَةَ لَوْ قُدِّرَتْ داخِلَةً في صِلَةِ الأوَّلِ بِواسِطَةِ العاطِفِ، لَمْ يَكُنْ لِلنَّفْيِ مَوْقِعٌ، وإنَّما صَحِبَ في الأوَّلِ المَوْصُولَ لا الصِّلَةَ، ومِنهُ قَوْلُ حَسّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
؎فَمَن يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنكم ∗∗∗ ويَمْدَحُهُ ويَنْصُرُهُ سَواءٌ!
أيْ: ومَن يَمْدَحُهُ ويَنْصُرُهُ.
وهَذا الأخِيرُ نَقَلَهُ النّاصِرُ في (الِانْتِصافِ) وهو وجِيهٌ جِدًّا. وأمّا تَضْعِيفُ غَيْرِهِ لَهُ بِلُزُومِ حَذْفِ المَوْصُولِ وصَدْرِ الصِّلَةِ مَعًا، وأنَّ النَّجاةَ، وإنْ ذَكَرُوا جَوازَ كُلٍّ مِنهُما، لَكِنَّ اجْتِماعَهُما مُنْكَرٌ؛ فَهو المُنْكَرُ؛ لِأنَّ أُسْلُوبَ التَّنْزِيلِ هو الحُجَّةُ، وإلَيْهِ التَّحاكُمُ في كُلِّ فَنٍّ ومَحَجَّةٍ. والجُمُودُ عَلى القَواعِدِ ورَدِّ ما خالَفَها، إلَيْها -مِنَ التَّعَصُّبِ واللَّجاجِ، والغَفْلَةِ عَنْ مَقامِ التَّنْزِيلِ في الِاحْتِجاجِ!.
وقَوْلُهُ تَعالى:
{"ayah":"سَوَاۤءࣱ مِّنكُم مَّنۡ أَسَرَّ ٱلۡقَوۡلَ وَمَن جَهَرَ بِهِۦ وَمَنۡ هُوَ مُسۡتَخۡفِۭ بِٱلَّیۡلِ وَسَارِبُۢ بِٱلنَّهَارِ"}