الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجاءُوا أباهم عِشاءً يَبْكُونَ﴾ ﴿قالُوا ياأبانا إنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأكَلَهُ الذِّئْبُ وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا ولَوْ كُنّا صادِقِينَ﴾ ﴿وجاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللَّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّهم لَمّا طَرَحُوا يُوسُفَ في الجُبِّ رَجَعُوا إلى أبِيهِمْ وقْتَ العِشاءِ باكِينَ، ورَواهُ ابْنُ جِنِّي عُشًى بِضَمِّ العَيْنِ والقَصْرِ. وقالَ: عَشَوْا مِنَ البُكاءِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ فَزِعَ يَعْقُوبُ وقالَ: هَلْ أصابَكم في غَنَمِكم شَيْءٌ ؟ قالُوا: لا، قالَ: فَما فَعَلَ يُوسُفُ ؟ قالُوا: ﴿ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ فَبَكى وصاحَ وقالَ: أيْنَ القَمِيصُ ؟ فَطَرَحَهُ عَلى وجْهِهِ حَتّى تَخَضَّبَ وجْهُهُ مِن دَمِ القَمِيصِ. ورُوِيَ أنَّ امْرَأةً تَحاكَمَتْ إلى شُرَيْحٍ فَبَكَتْ فَقالَ الشَّعْبِيُّ: يا أبا أُمَيَّةَ ما تَراها تَبْكِي ؟ قالَ: قَدْ جاءَ إخْوَةُ يُوسُفَ يَبْكُونَ وهم ظَلَمَةٌ كَذَبَةٌ، لا يَنْبَغِي لِلْإنْسانِ أنْ يَقْضِيَ إلّا بِالحَقِّ. واخْتَلَفُوا في مَعْنى الِاسْتِباقِ، قالَ الزَّجّاجُ: يُسابِقُ بَعْضُهم بَعْضًا في الرَّمْيِ، ومِنهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لا سَبَقَ إلّا في خُفٍّ أوْ نَصْلٍ أوْ حافِرٍ» يَعْنِي بِالنَّصْلِ الرَّمْيَ، وأصْلُ السَّبَقِ في الرَّمْيِ بِالسَّهْمِ هو أنْ يَرْمِيَ اثْنانِ لِيَتَبَيَّنَ أيُّهُما يَكُونُ أسْبَقَ سَهْمًا وأبْعَدَ غَلْوَةً، ثُمَّ يُوصَفُ المُتَرامِيانِ بِذَلِكَ فَيُقالُ: اسْتَبَقا وتَسابَقا إذا فَعَلا ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ أيُّهُما أسْبَقُ سَهْمًا، ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا التَّفْسِيرِ ما رُوِيَ أنَّ في قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ ”إنّا ذَهَبْنا نَنْتَضِلُ“ . والقَوْلُ الثّانِي في تَفْسِيرِ الِاسْتِباقِ: ما قالَهُ السُّدِّيُّ ومُقاتِلٌ ”نَسْتَبِقُ“ نَشْتَدُّ ونَعْدُوَ لِيَتَبَيَّنَ أيُّنا أسْرَعُ عَدْوًا. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ جازَ أنْ يَسْتَبِقُوا وهم رِجالٌ بالِغُونَ وهَذا مِن فِعْلِ الصِّبْيانِ ؟ قُلْنا: الِاسْتِباقُ مِنهم كانَ مِثْلَ الِاسْتِباقِ في الخَيْلِ، وكانُوا يُجَرِّبُونَ بِذَلِكَ أنْفُسَهم ويُدَرِّبُونَها عَلى العَدْوِ لِأنَّهُ كالآلَةِ لَهم في مُحارَبَةِ العَدُوِّ ومُدافَعَةِ الذِّئْبِ إذا اخْتَلَسَ الشّاةَ، وقَوْلُهُ: ﴿فَأكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ قِيلَ أكَلَ الذِّئْبُ يُوسُفَ وقِيلَ عَرَّضُوا، وأرادُوا أكَلَ الذِّئْبُ المَتاعَ، والوَجْهُ هو الأوَّلُ. ثُمَّ قالُوا: ﴿وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا ولَوْ كُنّا صادِقِينَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: لَيْسَ المَعْنى أنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ لا يُصَدِّقُ مَن يَعْلَمُ أنَّهُ صادِقٌ، بَلِ المَعْنى: لَوْ كُنّا عِنْدَكَ مِن أهْلِ الثِّقَةِ والصِّدْقِ لاتَّهَمْتَنا في يُوسُفَ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِكَ إيّاهُ ولَظَنَنْتَ أنّا قَدْ كَذَبْنا. والحاصِلُ أنّا وإنْ كُنّا صادِقِينَ لَكِنَّكَ لا تُصَدِّقُنا لِأنَّكَ تَتَّهِمُنا. وقِيلَ: المَعْنى: إنّا وإنْ كُنّا صادِقِينَ فَإنَّكَ لا تُصَدِّقُنا لِأنَّهُ لَمْ تَظْهَرْ عِنْدَكَ أمارَةٌ تَدُلُّ عَلى صِدْقِنا. (p-٨٢)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ الإيمانَ في أصْلِ اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ، لِأنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا﴾ أيْ بِمُصَدِّقٍ. وإذا ثَبَتَ أنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ في أصْلِ اللُّغَةِ وجَبَ أنْ يَبْقى في عُرْفِ الشَّرْعِ كَذَلِكَ، وقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصاءُ فِيهِ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ﴾ [ البَقَرَةِ: ٣] . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وجاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: إنَّما جاءُوا بِهَذا القَمِيصِ المُلَطَّخِ بِالدَّمِ لِيُوهِمَ كَوْنَهم صادِقِينَ في مَقالَتِهِمْ. قِيلَ: ذَبَحُوا جِدْيًا ولَطَّخُوا ذَلِكَ القَمِيصَ بِدَمِهِ. قالَ القاضِي: ولَعَلَّ غَرَضَهم في نَزْعِ قَمِيصِهِ عِنْدَ إلْقائِهِ في غَيابَةِ الجُبِّ أنْ يَفْعَلُوا هَذا تَوْكِيدًا لِصِدْقِهِمْ، لِأنَّهُ يَبْعُدُ أنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ طَمَعًا في نَفْسِ القَمِيصِ ولا بُدَّ في المَعْصِيَةِ مِن أنْ يُقْرَنَ بِهَذا الخِذْلانِ، فَلَوْ خَرَقُوهُ مَعَ لَطْخِهِ بِالدَّمِ لَكانَ الإيهامُ أقْوى، فَلَمّا شاهَدَ القَمِيصَ صَحِيحًا عَلِمَ كَذِبَهم. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وجاءُوا عَلى قَمِيصِهِ﴾ أيْ وجاءُوا فَوْقَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَما يُقالُ: جاءُوا عَلى جِمالِهِمْ بِأحْمالٍ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ أصْحابُ العَرَبِيَّةِ وهُمُ الفَرّاءُ والمُبَرِّدُ والزَّجّاجُ وابْنُ الأنْبارِيِّ: ﴿بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ أيْ مَكْذُوبٍ فِيهِ، إلّا أنَّهُ وُصِفَ بِالمَصْدَرِ عَلى تَقْدِيرِ دَمٍ ذِي كَذِبٍ ولَكِنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ كَذِبًا لِلْمُبالَغَةِ، قالُوا: والمَفْعُولُ والفاعِلُ يُسَمَّيانِ بِالمَصْدَرِ كَما يُقالُ: ماءٌ سَكْبٌ، أيْ مَسْكُوبٌ، ودِرْهَمٌ ضَرْبُ الأمِيرِ وثَوْبٌ نَسْجُ اليَمَنِ، والفاعِلُ كَقَوْلِهِ: ﴿إنْ أصْبَحَ ماؤُكم غَوْرًا﴾ [الملك: ٣٠] ورَجُلٌ عَدْلٌ وصَوْمٌ، ونِساءٌ نَوْحٌ؛ ولَمّا سُمِّيا بِالمَصْدَرِ سُمِّيَ المَصْدَرُ أيْضًا بِهِما فَقالُوا لِلْعَقْلِ المَعْقُولُ، ولِلْجَلْدِ المَجْلُودُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿بِأيِّيكُمُ المَفْتُونُ﴾ [القلم: ٦] وقَوْلُهُ: ﴿إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: ٧] قالَ الشَّعْبِيُّ: قِصَّةُ يُوسُفَ كُلُّها في قَمِيصِهِ، وذَلِكَ لِأنَّهم لَمّا ألْقَوْهُ في الجُبِّ نَزَعُوا قَمِيصَهُ ولَطَّخُوهُ بِالدَّمِ وعَرَضُوهُ عَلى أبِيهِ، ولَمّا شَهِدَ الشّاهِدُ قالَ: ﴿إنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾ [يوسف: ٢٦] ولَمّا أُتِيَ بِقَمِيصِهِ إلى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَأُلْقِيَ عَلى وجْهِهِ ارْتَدَّ بَصِيرًا. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ لَمّا ذَكَرُوا ذَلِكَ الكَلامَ واحْتَجُّوا عَلى صِدْقِهِمْ بِالقَمِيصِ المُلَطَّخِ بِالدَّمِ قالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا﴾ . قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَعْناهُ: بَلْ زَيَّنَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا. والتَّسْوِيلُ تَقْدِيرُ مَعْنًى في النَّفْسِ مَعَ الطَّمَعِ في إتْمامِهِ، قالَ الأزْهَرِيُّ: كَأنَّ التَّسْوِيلَ تَفْعِيلٌ مِن سُؤالِ الإنْسانِ، وهو أُمْنِيَتُهُ الَّتِي يَطْلُبُها فَتُزَيِّنُ لِطالِبِها الباطِلَ وغَيْرَهُ. وأصْلُهُ مَهْمُوزٌ غَيْرَ أنَّ العَرَبَ اسْتَثْقَلُوا فِيهِ الهَمْزَ. وقالَ صاحِبُ الكَشّافِ: ”سَوَّلَتْ“ سَهَّلَتْ مِنَ السَّوْلِ وهو الِاسْتِرْخاءُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ ﴿بَلْ﴾ رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: ﴿أكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ كَأنَّهُ قالَ: لَيْسَ كَما تَقُولُونَ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكُمْ﴾ في شَأْنِهِ ﴿أمْرًا﴾ أيْ زَيَّنَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا غَيْرَ ما تَصِفُونَ، واخْتَلَفُوا في السَّبَبِ الَّذِي بِهِ عَرَفَ كَوْنَهم كاذِبِينَ عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ عَرَفَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أنَّهُ كانَ يَعْرِفُ الحَسَدَ الشَّدِيدَ في قُلُوبِهِمْ. والثّانِي: أنَّهُ كانَ عالِمًا بِأنَّهُ حَيٌّ لِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ لِيُوسُفَ: ﴿وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ [يوسف: ٦] (p-٨٣)وذَلِكَ دَلِيلٌ قاطِعٌ عَلى أنَّهم كاذِبُونَ في ذَلِكَ. القَوْلُ الثّالِثُ: قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمّا جاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ، وما كانَ مُتَخَرِّقًا، قالَ: كَذَبْتُمْ لَوْ أكَلَهُ الذِّئْبُ لَخَرَقَ قَمِيصَهُ، وعَنِ السُّدِّيِّ أنَّهُ قالَ: إنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: إنَّ هَذا الذِّئْبَ كانَ رَحِيمًا، فَكَيْفَ أكَلَ لَحْمَهُ ولَمْ يَخْرِقْ قَمِيصَهُ ؟ وقِيلَ: إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا قالَ ذَلِكَ قالَ بَعْضُهم: بَلْ قَتَلَهُ اللُّصُوصُ. فَقالَ: كَيْفَ قَتَلُوهُ وتَرَكُوا قَمِيصَهُ وهم إلى قَمِيصِهِ أحْوَجُ مِنهُ إلى قَتْلِهِ ؟ فَلَمّا اخْتَلَفَتْ أقْوالُهم عَرَفَ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَذِبَهم. * * * ثُمَّ قالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: مِنهم مَن قالَ: إنَّهُ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أوْلى مِنَ الجَزَعِ، ومِنهم مَن أضْمَرَ المُبْتَدَأ قالَ الخَلِيلُ: الَّذِي أفْعَلُهُ صَبْرٌ جَمِيلٌ. وقالَ قُطْرُبٌ: مَعْناهُ: فَصَبْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ. وقالَ الفَرّاءُ: فَهو صَبْرٌ جَمِيلٌ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: كانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ سَقَطَ حاجِباهُ وكانَ يَرْفَعُهُما بِخِرْقَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: ما هَذا ؟ فَقالَ: طُولُ الزَّمانِ وكَثْرَةُ الأحْزانِ، فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ يا يَعْقُوبُ أتَشْكُونِي ؟ فَقالَ: يا رَبِّ خَطِيئَةٌ أخْطَأْتُها فاغْفِرْها لِي. ورُوِيَ «عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها في قِصَّةِ الإفْكِ أنَّها قالَتْ: واللَّهِ لَئِنْ حَلَفْتُ لا تُصَدِّقُونِي وإنِ اعْتَذَرْتُ لا تَعْذِرُونِي، فَمَثَلِي ومَثَلُكم كَمَثَلِ يَعْقُوبَ ووَلَدِهِ ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللَّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ١٨] فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ في عُذْرِها ما أنْزَلَ» . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ «سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ فَقالَ: ”صَبْرٌ لا شَكْوى فِيهِ فَمَن بَثَّ لَمْ يَصْبِرْ“» ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ القُرْآنِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ﴾ [يوسف: ٨٦] وقالَ مُجاهِدٌ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، أيْ مِن غَيْرِ جَزَعٍ، وقالَ الثَّوْرِيُّ: مِنَ الصَّبْرِ أنْ لا تُحَدِّثَ بِوَجَعِكَ ولا بِمُصِيبَتِكَ، ولا تُزَكِّيَ نَفْسَكَ. وهَهُنا بَحْثٌ وهو أنَّ الصَّبْرَ عَلى قَضاءِ اللَّهِ تَعالى واجِبٌ، فَأمّا الصَّبْرُ عَلى ظُلْمِ الظّالِمِينَ، ومَكْرِ الماكِرِينَ فَغَيْرُ واجِبٍ، بَلِ الواجِبُ إزالَتُهُ لا سِيَّما في الضَّرَرِ العائِدِ إلى الغَيْرِ، وهَهُنا أنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ لَمّا ظَهَرَ كَذِبُهم وخِيانَتُهم فَلِمَ صَبَرَ يَعْقُوبُ عَلى ذَلِكَ ؟ ولِمَ لَمْ يُبالِغْ في التَّفْتِيشِ والبَحْثِ سَعْيًا مِنهُ في تَخْلِيصِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ البَلِيَّةِ والشِّدَّةِ إنْ كانَ في الأحْياءِ وفي إقامَةِ القِصاصِ إنْ صَحَّ أنَّهم قَتَلُوهُ ؟ فَثَبَتَ أنَّ الصَّبْرَ في المَقامِ مَذْمُومٌ. ومِمّا يُقَوِّي هَذا السُّؤالَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ عالِمًا بِأنَّهُ حَيٌّ سَلِيمٌ لِأنَّهُ قالَ لَهُ: ﴿وكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ويُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحادِيثِ﴾ [يوسف: ٦] والظّاهِرُ أنَّهُ إنَّما قالَ هَذا الكَلامَ مِنَ الوَحْيِ، وإذا كانَ عالِمًا بِأنَّهُ حَيٌّ سَلِيمٌ فَكانَ مِنَ الواجِبِ أنْ يَسْعى في طَلَبِهِ، وأيْضًا إنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ رَجُلًا عَظِيمَ القَدْرِ في نَفْسِهِ، وكانَ مِن بَيْتٍ عَظِيمٍ شَرِيفٍ، وأهْلُ العِلْمِ كانُوا يَعْرِفُونَهُ ويَعْتَقِدُونَ فِيهِ ويُعَظِّمُونَهُ فَلَوْ بالَغَ في الطَّلَبِ والتَّفَحُّصِ لَظَهَرَ ذَلِكَ واشْتَهَرَ ولَزالَ وجْهُ التَّلْبِيسِ. فَما السَّبَبُ في أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَ شِدَّةِ رَغْبَتِهِ في حُضُورِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ونِهايَةِ حُبِّهِ لَهُ، لَمْ يَطْلُبْهُ مَعَ أنَّ طَلَبَهُ كانَ مِنَ الواجِباتِ ؟ فَثَبَتَ أنَّ هَذا الصَّبْرَ في هَذا المَقامِ مَذْمُومٌ عَقْلًا وشَرْعًا. (p-٨٤)والجَوابُ عَنْهُ أنْ نَقُولَ: لا جَوابَ عَنْهُ إلّا أنْ يُقالَ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى مَنَعَهُ عَنِ الطَّلَبِ تَشْدِيدًا لِلْمِحْنَةِ عَلَيْهِ، وتَغْلِيظًا لِلْأمْرِ عَلَيْهِ، وأيْضًا لَعَلَّهُ عَرَفَ بِقَرائِنِ الأحْوالِ أنَّ أوْلادَهُ أقْوِياءُ وأنَّهم لا يُمَكِّنُونَهُ مِنَ الطَّلَبِ والتَّفَحُّصِ، وأنَّهُ لَوْ بالَغَ في البَحْثِ فَرُبَّما أقْدَمُوا عَلى إيذائِهِ وقَتْلِهِ، وأيْضًا لَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلِمَ أنَّ اللَّهَ تَعالى يَصُونُ يُوسُفَ عَنِ البَلاءِ والمِحْنَةِ وأنَّ أمْرَهُ سَيُعَظَّمُ بِالآخِرَةِ، ثُمَّ لَمْ يُرِدْ هَتْكَ أسْتارِ سَرائِرِ أوْلادِهِ وما رَضِيَ بِإلْقائِهِمْ في ألْسِنَةِ النّاسِ، وذَلِكَ لِأنَّ أحَدَ الوَلَدَيْنِ إذا ظَلَمَ الآخَرَ وقَعَ الأبُ في العَذابِ الشَّدِيدِ لِأنَّهُ إنْ لَمْ يَنْتَقِمْ يَحْتَرِقْ قَلْبُهُ عَلى الوَلَدِ المَظْلُومِ وإنِ انْتَقَمَ فَإنَّهُ يَحْتَرِقُ قَلْبُهُ عَلى الوَلَدِ الَّذِي يَنْتَقِمُ مِنهُ، فَلَمّا وقَعَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ في هَذِهِ البَلِيَّةِ رَأى أنَّ الأصْوَبَ الصَّبْرُ والسُّكُوتُ وتَفْوِيضُ الأمْرِ إلى اللَّهِ تَعالى بِالكُلِّيَّةِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ الصَّبْرَ عَلى قِسْمَيْنِ: مِنهُ ما قَدْ يَكُونُ جَمِيلًا وما قَدْ يَكُونُ غَيْرَ جَمِيلٍ، فالصَّبْرُ الجَمِيلُ هو أنْ يَعْرِفَ أنَّ مُنْزِلَ ذَلِكَ البَلاءِ هو اللَّهُ تَعالى، ثُمَّ يَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ مالِكُ المُلْكِ ولا اعْتِراضَ عَلى المالِكِ في أنْ يَتَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ اسْتِغْراقُ قَلْبِهِ في هَذا المَقامِ مانِعًا لَهُ مِن إظْهارِ الشِّكايَةِ. والوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ يَعْلَمُ أنَّ مُنْزِلَ هَذا البَلاءِ، حَكِيمٌ لا يَجْهَلُ، وعالِمٌ لا يَغْفُلُ، عَلِيمٌ لا يَنْسى رَحِيمٌ لا يَطْغى، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَكانَ كُلُّ ما صَدَرَ عَنْهُ حِكْمَةً وصَوابًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْكُتُ ولا يَعْتَرِضُ. والوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ يَنْكَشِفُ لَهُ أنَّ هَذا البَلاءَ مِنَ الحَقِّ، فاسْتِغْراقُهُ في شُهُودِ نُورِ المُبْلِي يَمْنَعُهُ مِنَ الِاشْتِغالِ بِالشِّكايَةِ عَنِ البَلاءِ. ولِذَلِكَ قِيلَ: المَحَبَّةُ التّامَّةُ لا تَزْدادُ بِالوَفاءِ ولا تَنْقُصُ بِالجَفاءِ، لِأنَّها لَوِ ازْدادَتْ بِالوَفاءِ لَكانَ المَحْبُوبُ هو النَّصِيبَ والحَظَّ. ومُوصِلُ النَّصِيبِ لا يَكُونُ مَحْبُوبًا بِالذّاتِ بَلْ بِالعَرَضِ، فَهَذا هو الصَّبْرُ الجَمِيلُ. أمّا إذا كانَ الصَّبْرُ لا لِأجْلِ الرِّضا بِقَضاءِ الحَقِّ سُبْحانَهُ بَلْ كانَ لِسائِرِ الأغْراضِ، فَذَلِكَ الصَّبْرُ لا يَكُونُ جَمِيلًا، والضّابِطُ في جَمِيعِ الأفْعالِ والأقْوالِ والِاعْتِقاداتِ أنَّ كُلَّ ما كانَ لِطَلَبِ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعالى كانَ حَسَنًا وإلّا فَلا، وهَهُنا يَظْهَرُ صِدْقُ ما رُوِيَ في الأثَرِ ”اسْتَفْتِ قَلْبَكَ ولَوْ أفْتاكَ المُفْتُونَ“ فَلْيَتَأمَّلِ الرَّجُلُ تَأمُّلًا شافِيًا، أنَّ الَّذِي أتى بِهِ هَلِ الحامِلُ والباعِثُ عَلَيْهِ طَلَبُ العُبُودِيَّةِ أمْ لا ؟ فَإنَّ أهْلَ العِلْمِ لَوْ أفْتَوْنا بِالشَّيْءِ مَعَ أنَّهُ لا يَكُونُ في نَفْسِهِ كَذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ مِنهُ نَفْعٌ البَتَّةَ. ولَمّا ذَكَرَ يَعْقُوبُ قَوْلَهُ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ قالَ: ﴿واللَّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ والمَعْنى: أنَّ إقْدامَهُ عَلى الصَّبْرِ لا يُمْكِنُ إلّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ تَعالى، لِأنَّ الدَّواعِيَ النَّفْسانِيَّةَ تَدْعُوهُ إلى إظْهارِ الجَزَعِ وهي قَوِيَّةٌ، والدَّواعِي الرُّوحانِيَّةُ تَدْعُوهُ إلى الصَّبْرِ والرِّضا، فَكَأنَّهُ وقَعَتِ المُحارَبَةُ بَيْنَ الصِّنْفَيْنِ، فَما لَمْ تَحْصُلْ إعانَةُ اللَّهِ تَعالى لَمْ تَحْصُلِ الغَلَبَةُ، فَقَوْلُهُ: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ يَجْرِي مَجْرى قَوْلِهِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: ٥] وقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ المُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ﴾ يَجْرِي مَجْرى قَوْلِهِ: ﴿وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب