الباحث القرآني
* بابُ الحَكَمَيْنِ كَيْفَ يَعْمَلانِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَمًا مِن أهْلِهِ وحَكَمًا مِن أهْلِها﴾ وقَدِ اخْتُلِفَ في المُخاطَبِينَ بِهَذِهِ الآيَةِ مَن هم، فَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والضَّحّاكِ: " أنَّهُ السُّلْطانُ الَّذِي يَتَرافَعانِ إلَيْهِ " وقالَ السُّدِّيُّ: " الرَّجُلُ والمَرْأةُ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ: ﴿واللاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ [النساء: ٣٤] هو خِطابٌ لِلْأزْواجِ لِما في نَسَقِ الآيَةِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿واهْجُرُوهُنَّ في المَضاجِعِ﴾ [النساء: ٣٤] وقَوْلُهُ: ﴿وإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما﴾ الأوْلى أنْ يَكُونَ خِطابًا لِلْحاكِمِ النّاظِرِ بَيْنَ الخَصْمَيْنِ والمانِعِ مِنَ التَّعَدِّي والظُّلْمِ وذَلِكَ؛ لِأنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أمْرَ الزَّوْجِ وأمَرَهُ بِوَعْظِها وتَخْوِيفِها بِاَللَّهِ ثُمَّ بِهُجْرانِها في المَضْجَعِ إنْ لَمْ تَنْزَجِرْ ثُمَّ بِضَرْبِها إنْ أقامَتْ عَلى نُشُوزِها، (p-١٥١)ثُمَّ لَمْ يَجْعَلْ بَعْدَ الضَّرْبِ لِلزَّوْجِ إلّا المُحاكَمَةَ إلى مَن يُنْصِفُ المَظْلُومَ مِنهُما مِنَ الظّالِمِ ويَتَوَجَّهُ حُكْمُهُ عَلَيْهِما.
ورَوى شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةٍ قالَ: سَألْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ الحَكَمَيْنِ، فَغَضِبَ وقالَ: " ما وُلِدْتُ؛ إذْ ذاكَ "؛ فَقُلْتُ: إنَّما أعْنِي حَكَمَيْ شِقاقٍ، قالَ: " إذا كانَ بَيْنَ الرَّجُلِ وامْرَأتِهِ دَرْءٌ وتَدارُؤٌ بَعَثُوا حَكَمَيْنِ فَأقْبَلا عَلى الَّذِي جاءَ التَّدارُؤُ مِن قِبَلِهِ فَوَعَظاهُ، فَإنْ أطاعَهُما وإلّا أقْبَلا عَلى الآخَرِ، فَإنْ سَمِعَ مِنهُما وأقْبَلَ إلى الَّذِي يُرِيدانِ وإلّا حَكَما بَيْنَهُما، فَما حَكَما مِن شَيْءٍ فَهو جائِزٌ " .
ورَوى عَبْدُ الوَهّابِ قالَ: حَدَّثَنا أيُّوبٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ في المُخْتَلِعَةِ: " يَعِظُها فَإنِ انْتَهَتْ وإلّا هَجَرَها وإلّا ضَرَبَها، فَإنِ انْتَهَتْ وإلّا رَفَعَ أمْرَها إلى السُّلْطانِ، فَيَبْعَثُ حَكَمًا مِن أهْلِها وحَكَمًا مِن أهْلِهِ، فَيَقُولُ الحَكَمُ الَّذِي مِن أهْلِها يَفْعَلُ كَذا ويَفْعَلُ كَذا، ويَقُولُ الحَكَمُ الَّذِي مِن أهْلِهِ تَفْعَلُ بِهِ كَذا وتَفْعَلُ بِهِ كَذا، فَأيُّهُما كانَ أظْلَمَ رَدَّهُ إلى السُّلْطانِ وأخَذَ فَوْقَ يَدِهِ، وإنْ كانَتْ ناشِزًا أمَرُوهُ أنْ يَخْلَعَ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذا نَظِيرُ العِنِّينِ والمَجْبُوبِ والإيلاءِ في بابِ أنَّ الحاكِمَ هو الَّذِي يَتَوَلّى النَّظَرَ في ذَلِكَ والفَصْلَ بَيْنَهُما بِما يُوجِبُهُ حُكْمُ اللَّهِ، فَإذا اخْتَلَفا وادَّعى النُّشُوزَ وادَّعَتْ هي عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وتَقْصِيرَهُ في حُقُوقِها، حِينَئِذٍ بَعَثَ الحاكِمُ حَكَمًا مِن أهْلِهِ وحَكَمًا مِن أهْلِها لِيَتَوَلَّيا النَّظَرَ فِيما بَيْنَهُما ويَرُدّا إلى الحاكِمِ ما يَقِفانِ عَلَيْهِ مِن أمْرِهِما. وإنَّما أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِأنْ يَكُونَ أحَدُ الحَكَمَيْنِ مِن أهْلِها والآخَرُ مِن أهْلِهِ لِئَلّا تَسْبِقَ الظِّنَّةُ إذا كانا أجْنَبِيَّيْنِ بِالمَيْلِ إلى أحَدِهِما، فَإذا كانَ أحَدُهُما مِن قِبَلِهِ والآخَرُ مِن قِبَلِها زالَتِ الظِّنَّةُ وتَكَلَّمَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَمَّنْ هو مِن قِبَلِهِ.
ويَدُلُّ أيْضًا قَوْلُهُ: ﴿فابْعَثُوا حَكَمًا مِن أهْلِهِ وحَكَمًا مِن أهْلِها﴾ عَلى أنَّ الَّذِي مِن أهْلِهِ وكِيلٌ لَهُ، واَلَّذِي مِن أهْلِها وكِيلٌ لَها، كَأنَّهُ قالَ: فابْعَثُوا رَجُلًا مِن قِبَلِهِ ورَجُلًا مِن قِبَلِها؛ فَهَذا يَدُلُّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ لِلْحَكَمَيْنِ أنْ يَجْمَعا إنْ شاءا وإنْ شاءا فَرَّقا بِغَيْرِ أمْرِهِما.
وزَعَمَ إسْماعِيلُ بْنُ إسْحاقَ أنَّهُ حُكِيَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ أنَّهم لَمْ يَعْرِفُوا أمْرَ الحَكَمَيْنِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: هَذا تَكَذُّبٌ عَلَيْهِمْ، وما أوْلى بِالإنْسانِ حِفْظَ لِسانِهِ لا سِيَّما فِيما يَحْكِيهِ عَنِ العُلَماءِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨] ومَن عَلِمَ أنَّهُ مُؤاخَذٌ بِكَلامِهِ قَلَّ كَلامُهُ فِيما لا يَعْنِيهِ.
وأمْرُ الحَكَمَيْنِ في الشِّقاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَنصُوصٌ عَلَيْهِ في الكِتابِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أنْ يَخْفى عَلَيْهِمْ مَعَ مَحَلِّهِمْ مِنَ العِلْمِ والدِّينِ والشَّرِيعَةِ ولَكِنْ عِنْدَهم أنَّ الحَكَمَيْنِ يَنْبَغِي أنْ يَكُونا وكِيلَيْنِ لَهُما، أحَدُهُما وكِيلُ المَرْأةِ والآخَرُ وكِيلُ الزَّوْجِ ؟ وكَذا رُوِيَ عَنْ (p-١٥٢)عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ورَوى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قالَ: أتى عَلِيًّا رَجُلٌ وامْرَأتُهُ مَعَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما فِئامٌ مِنَ النّاسِ، فَقالَ عَلِيٌّ: ما شَأْنُ هَذَيْنِ ؟ قالُوا: بَيْنَهُما شِقاقٌ، قالَ: ﴿فابْعَثُوا حَكَمًا مِن أهْلِهِ وحَكَمًا مِن أهْلِها إنْ يُرِيدا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما﴾ فَقالَ عَلِيٌّ: هَلْ تَدْرِيانِ ما عَلَيْكُما ؟ عَلَيْكُما إنْ رَأيْتُما أنْ تَجْمَعا أنْ تَجْمَعا وإنْ رَأيْتُما أنْ تُفَرِّقا أنْ تَفَرَّقا. فَقالَتِ المَرْأةُ: رَضِيتُ بِكِتابِ اللَّهِ، فَقالَ الرَّجُلُ: أمّا الفُرْقَةُ فَلا، فَقالَ عَلِيٌّ: كَذَبْتَ واَللَّهِ لا تَنْفَلِتُ مِنِّي حَتّى تُقِرَّ كَما أقَرَّتْ. فَأخْبَرَ عَلِيٌّ أنَّ قَوْلَ الحَكَمَيْنِ إنَّما يَكُونُ بِرِضا الزَّوْجَيْنِ
فَقالَ أصْحابُنا: لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ أنْ يُفَرِّقا إلّا أنْ يَرْضى الزَّوْجُ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّ الزَّوْجَ لَوْ أقَرَّ بِالإساءَةِ إلَيْها لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُما ولَمْ يُجْبِرْهُ الحاكِمُ عَلى طَلاقِها قَبْلَ تَحْكِيمِ الحَكَمَيْنِ.
وكَذَلِكَ لَوْ أقَرَّتِ المَرْأةُ بِالنُّشُوزِ لَمْ يُجْبِرْها الحاكِمُ عَلى خُلْعٍ ولا عَلى رَدِّ مَهْرِها؛ فَإذا كانَ كَذَلِكَ حُكْمُهُما قَبْلَ بَعْثِ الحَكَمَيْنِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ بَعْثِهِما لا يَجُوزُ إيقاعُ الطَّلاقِ مِن جِهَتِهِما مِن غَيْرِ رِضى الزَّوْجِ وتَوْكِيلِهِ ولا إخْراجُ المَهْرِ عَنْ مِلْكِها مِن غَيْرِ رِضاها؛ فَلِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا: إنَّهُما لا يَجُوزُ خَلْعُهُما إلّا بِرِضى الزَّوْجَيْنِ، فَقالَ أصْحابُنا: لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ أنْ يُفَرِّقا إلّا بِرِضى الزَّوْجَيْنِ؛ لِأنَّ الحاكِمَ لا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ الحَكَمانِ ؟ وإنَّما الحَكَمانِ وكِيلانِ لَهُما أحَدُهُما وكِيلُ المَرْأةِ والآخَرُ وكِيلُ الزَّوْجِ في الخُلْعِ أوْ في التَّفْرِيقِ بِغَيْرِ جُعْلٍ إنْ كانَ الزَّوْجُ قَدْ جَعَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ.
قالَ إسْماعِيلُ: " الوَكِيلُ لَيْسَ بِحَكَمٍ ولا يَكُونُ حَكَمًا إلّا ويَجُوزُ أمْرُهُ عَلَيْهِ وإنْ أبى " . وهَذا غَلَطٌ مِنهُ؛ لِأنَّ ما ذَكَرَ لا يَنْفِي مَعْنى الوَكالَةِ؛ لِأنَّهُ لا يَكُونُ وكِيلًا أيْضًا إلّا ويَجُوزُ أمْرُهُ عَلَيْهِ فِيما وُكِّلَ بِهِ.
فَجَوازُ أمْرِ الحَكَمَيْنِ عَلَيْهِما لا يُخْرِجُهُما عَنْ حَدِّ الوَكالَةِ، وقَدْ يَحْكُمُ الرَّجُلانِ حُكْمًا في خُصُومَةٍ بَيْنَهُما ويَكُونُ بِمَنزِلَةِ الوَكِيلِ لَهُما فِيما يَتَصَرَّفُ بِهِ عَلَيْهِما، فَإذا حَكَمَ بِشَيْءٍ لَزِمَهُما، بِمَنزِلَةِ اصْطِلاحِهِما عَلى أنَّ الحَكَمَيْنِ في شِقاقِ الزَّوْجَيْنِ لَيْسَ يُغادِرُ أمْرُهُما مِن مَعْنى الوَكالَةِ شَيْئًا؛ وتَحْكِيمُ الحَكَمِ في الخُصُومَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يُشْبِهُ حُكْمَ الحاكِمِ مِن وجْهٍ ويُشِبْهُ الوَكالَةَ مِنَ الوَجْهِ الَّذِي بَيَّنّا.
والحَكَمانِ في الشِّقاقِ إنَّما يَتَصَرَّفانِ بِوَكالَةٍ مَحْضَةٍ كَسائِرِ الوِكالاتِ. قالَ إسْماعِيلُ: " والوَكِيلُ لا يُسَمّى حَكَمًا " . ولَيْسَ ذَلِكَ كَما ظَنَّ؛ لِأنَّهُ إنَّما سُمِّيَ هَهُنا الوَكِيلُ حَكَمًا تَأْكِيدًا لِلْوَكالَةِ الَّتِي فُوِّضَتْ إلَيْهِ. وأمّا قَوْلُهُ: " إنَّ الحَكَمَيْنِ يَجُوزُ أمْرُهُما عَلى الزَّوْجَيْنِ وإنْ أبَيا " فَلَيْسَ كَذَلِكَ، ولا يَجُوزُ أمْرُهُما عَلَيْهِما إذا أبَيا؛ لِأنَّهُما وكِيلانِ، وإنَّما يَحْتاجُ الحاكِمُ أنْ يَأْمُرَهُما بِالنَّظَرِ في أمْرِهِما ويَعْرِفَ (p-١٥٣)أُمُورَ المانِعِ مِنَ الحَقِّ مِنهُما حَتّى يَنْقُلا إلى الحاكِمِ ما عَرَفاهُ مِن أمْرِهِما، فَيَكُونُ قَوْلُهُما مَقْبُولًا في ذَلِكَ إذا اجْتَمَعا، ويَنْهى الظّالِمُ مِنهُما عَنْ ظُلْمِهِ؛ فَجائِزٌ أنْ يَكُونا سُمِّيا حَكَمَيْنِ لِقَبُولِ قَوْلِهِما عَلَيْهِما، وجائِزٌ أنْ يَكُونا سُمِّيا بِذَلِكَ؛ لِأنَّهُما إذا خَلَعا بِتَوْكِيلٍ مِنهُما وكانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلى رَأْيِهِما وتَحَرِّيهِما لِلصَّلاحِ سُمِّيا حَكَمَيْنِ؛ لِأنَّ اسْمَ الحَكَمِ يُفِيدُ تَحَرِّيَ الصَّلاحِ فِيما جُعِلَ إلَيْهِ وإنْفاذَ القَضاءِ بِالحَقِّ والعَدْلِ، فَلَمّا كانَ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلى رَأْيِهِما وأنْفَذا عَلى الزَّوْجَيْنِ حُكْمًا مِن جَمْعٍ أوْ تَفْرِيقٍ مَضى ما أنْفَذاهُ فَسُمِّيا حَكَمَيْنِ مِن هَذا الوَجْهِ.
فَلَمّا أشْبَهَ فِعْلُهُما فِعْلَ الحاكِمِ في القَضاءِ عَلَيْهِما بِما وُكِّلا بِهِ عَلى جِهَةِ تَحَرِّي الخَيْرِ والصَّلاحِ وسُمِّيا حَكَمَيْنِ، ويَكُونانِ مَعَ ذَلِكَ وكِيلَيْنِ لَهُما؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ تَكُونَ لِأحَدٍ وِلايَةٌ عَلى الزَّوْجَيْنِ مِن خُلْعٍ أوْ طَلاقٍ إلّا بِأمْرِهِما. وزَعَمَ أنَّ عَلِيًّا إنَّما ظَهَرَ مِنهُ النَّكِيرُ عَلى الزَّوْجِ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِكِتابِ اللَّهِ، قالَ: " ولَمْ يَأْخُذْهُ بِالتَّوْكِيلِ وإنَّما أخَذَهُ بِعَدَمِ الرِّضا بِكِتابِ اللَّهِ "؛ ولَيْسَ هَذا عَلى ما ذَكَرَ؛ لِأنَّ الرَّجُلَ لَمّا قالَ: " أمّا الفُرْقَةُ فَلا " قالَ عَلِيٌّ: " كَذَبْتَ أما واَللَّهِ لا تَنْفَلِتُ مِنِّي حَتّى تُقِرَّ كَما أقَرَّتْ " فَإنَّما أنْكَرَ عَلى الزَّوْجِ تَرْكَ التَّوْكِيلِ بِالفُرْقَةِ وأمَرَهُ بِأنْ يُوَكِّلَ بِالفُرْقَةِ، وما قالَ الرَّجُلُ لا أرْضى بِكِتابِ اللَّهِ حَتّى يُنْكِرَ عَلَيْهِ، وإنَّما قالَ لا أرْضى بِالفُرْقَةِ بَعْدَ رِضى المَرْأةِ بِالتَّحْكِيمِ؛ وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ الفُرْقَةَ عَلَيْهِ غَيْرُ نافِذَةٍ إلّا بَعْدَ تَوْكِيلِهِ بِها.
قالَ: " ولَمّا قالَ: ﴿إنْ يُرِيدا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما﴾ عَلِمْنا أنَّ الحَكَمَيْنِ يُمْضِيانِ أمْرَهُما وأنَّهُما إنْ قَصَدا الحَقَّ وفَّقَهُما اللَّهُ لِلصَّوابِ مِنَ الحُكْمِ. قالَ: وهَذا لا يُقالُ لِلْوَكِيلَيْنِ؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ لِواحِدٍ مِنهُما أنْ يَتَعَدّى ما أُمِرَ بِهِ " . واَلَّذِي ذَكَرَهُ لا يَنْفِي مَعْنى الوَكالَةِ؛ لِأنَّ الوَكِيلَيْنِ إذا كانا مُوَكَّلَيْنِ بِما رَأيا مِن جَمْعٍ أوْ تَفْرِيقٍ عَلى جِهَةِ تَحَرِّي الصَّلاحِ والخَيْرِ فَعَلَيْهِما الِاجْتِهادُ فِيما يُمْضِيانِهِ مِن ذَلِكَ، وأخْبَرَ اللَّهُ أنَّهُ يُوَفِّقُهُما لِلصَّلاحِ إنْ صَلُحَتْ نِيّاتُهُما، فَلا فَرْقَ بَيْنَ الوَكِيلِ والحَكَمِ؛ إذْ كُلُّ مَن فُوِّضَ إلَيْهِ أمْرٌ يُمْضِيهِ عَلى جِهَةِ تَحَرِّي الخَيْرِ والصَّلاحِ، فَهَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي وصَفَهُ اللَّهُ بِها لاحِقَةٌ بِهِ.
قالَ: وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وأبِي سَلَمَةَ وطاوُسٍ وإبْراهِيمَ قالُوا: " ما قَضى بِهِ الحَكَمانِ مِن شَيْءٍ فَهو جائِزٌ "، وهَذا عِنْدَنا كَذَلِكَ أيْضًا. ولا دَلالَةَ فِيهِ عَلى مُوافَقَةِ قَوْلِهِ؛ لِأنَّهم لَمْ يَقُولُوا إنَّ فِعْلَ الحَكَمَيْنِ في التَّفْرِيقِ والخُلْعِ جائِزٌ بِغَيْرِ رِضى الزَّوْجَيْنِ، بَلْ جائِزٌ أنْ يَكُونَ مَذْهَبُهم أنَّ الحَكَمَيْنِ لا يَمْلِكانِ التَّفْرِيقَ إلّا بِرِضى الزَّوْجَيْنِ بِالتَّوْكِيلِ ولا يَكُونانِ حَكَمَيْنِ إلّا بِذَلِكَ، ثُمَّ ما حَكَما بَعْدَ ذَلِكَ مِن شَيْءٍ فَهو جائِزٌ؛ وكَيْفَ (p-١٥٤)يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ أنْ يَخْلَعا بِغَيْرِ رِضاهُ ويُخْرِجا المالَ عَنْ مِلْكِها وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإنْ طِبْنَ لَكم عَنْ شَيْءٍ مِنهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ [النساء: ٤] وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا يَحِلُّ لَكم أنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلا أنْ يَخافا ألا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإنْ خِفْتُمْ ألا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيما افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: ٢٢٩] وهَذا الخَوْفُ المَذْكُورُ هَهُنا هو المَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فابْعَثُوا حَكَمًا مِن أهْلِهِ وحَكَمًا مِن أهْلِها﴾ وحَظَرَ اللَّهُ عَلى الزَّوْجِ أخْذَ شَيْءٍ مِمّا أعْطاها إلّا عَلى شَرِيطَةِ الخَوْفِ مِنهُما ألّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، فَأباحَ حِينَئِذٍ أنْ تَفْتَدِيَ بِما شاءَتْ وأحَلَّ لِلزَّوْجِ أخْذَهُ فَكَيْفَ يَجُوزُ لِلْحَكَمَيْنِ أنْ يُوقِعا خُلْعًا أوْ طَلاقًا مِن غَيْرِ رِضاهُما وقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلى أنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ أخْذُ شَيْءٍ مِمّا أعْطى إلّا بِطِيبَةٍ مِن نَفْسِها ولا أنْ تَفْتَدِيَ بِهِ فالقائِلُ بِأنَّ لِلْحَكَمَيْنِ أنْ يَخْلَعا بِغَيْرِ تَوْكِيلٍ مِنَ الزَّوْجِ مُخالِفٌ لِنَصِّ الكِتابِ.
وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] فَمَنَعَ كُلَّ أحَدٍ أنْ يَأْكُلَ مالَ غَيْرِهِ إلّا بِرِضاهُ. وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ وتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ﴾ [البقرة: ١٨٨] فَأخْبَرَ تَعالى أنَّ الحاكِمَ وغَيْرَهُ سَواءٌ في أنَّهُ لا يَمْلِكُ أخْذَ مالِ أحَدٍ ودَفْعَهُ إلى غَيْرِهِ. وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا يَحِلُّ مالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بِطِيبَةٍ مِن نَفْسِهِ»، وقالَ ﷺ: «فَمَن قَضَيْتُ لَهُ مِن حَقِّ أخِيهِ بِشَيْءٍ فَإنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النّارِ»، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ الحاكِمَ لا يَمْلِكُ أخْذَ مالِها ودَفْعَهُ إلى زَوْجِها، ولا يَمْلِكُ إيقاعَ طَلاقٍ عَلى الزَّوْجِ بِغَيْرِ تَوْكِيلِهِ ولا رِضاهُ؛ وهَذا حُكْمُ الكِتابِ والسُّنَّةِ وإجْماعِ الأُمَّةِ في أنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْحاكِمِ في غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الحُقُوقِ إسْقاطُهُ ونَقْلُهُ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ مِن غَيْرِ رِضا مَن هو لَهُ، فالحَكَمانِ إنَّما يُبْعَثانِ لِلصُّلْحِ بَيْنَهُما ولِيَشْهَدا عَلى الظّالِمِ مِنهُما كَما رَوى سَعِيدٌ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما﴾ الآيَةَ، قالَ: " إنَّما يُبْعَثُ الحَكَمانِ لِيُصْلَحا، فَإنْ أعْياهُما أنْ يُصْلِحا شَهِدا عَلى الظّالِمِ بِظُلْمِهِ، ولَيْسَ بِأيْدِيهِما الفُرْقَةُ ولا يَمْلِكانِ ذَلِكَ " وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَطاءٍ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وفي فَحْوى الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ لِلْحَكَمَيْنِ أنْ يُفَرِّقا، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ يُرِيدا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما﴾ ولَمْ يَقُلْ: إنْ يُرِيدا فُرْقَةً، وإنَّما يُوَجَّهُ الحَكَمانِ لِيَعِظا الظّالِمَ مِنهُما ويُنْكِرا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وإعْلامِ الحاكِمِ بِذَلِكَ لِيَأْخُذَ هو عَلى يَدِهِ، فَإنْ كانَ الزَّوْجُ هو الظّالِمَ أنْكَرا عَلَيْهِ ظُلْمَهُ وقالا لَهُ لا يَحِلُّ لَكَ أنْ تُؤْذِيَها لِتَخْلَعَ مِنكَ، وإنْ كانَتْ هي الظّالِمَةُ قالا لَها قَدْ حَلَّتْ لَكَ الفِدْيَةُ، وكانَ في أخْذِها مَعْذُورًا لِما ظْهَرَ لِلْحَكَمَيْنِ مِن نُشُوزِها، فَإذا جَعَلَ (p-١٥٥)كُلُّ واحِدٍ مِنهُما إلى الحَكَمِ الَّذِي مِن قِبَلِهِ ما لَهُ مِنَ التَّفْرِيقِ والخُلْعِ؛ كانا مَعَ ما ذَكَرْنا مِن أمْرِهِما وكِيلَيْنِ جائِزٌ لَهُما أنْ يَخْلَعا إنْ رَأيا وأنْ يَجْمَعا إنْ رَأيا ذَلِكَ صَلاحًا، فَهُما في حالٍ شاهِدانِ، وفي حالٍ مُصْلِحانِ وفي حالٍ آمِرانِ بِمَعْرُوفٍ وناهِيانِ عَنْ مُنْكَرٍ ووَكِيلانِ في حالٍ إذا فُوِّضَ إلَيْهِما الجَمْعُ والتَّفْرِيقُ. وأمّا قَوْلُ مَن قالَ إنَّهُما يُفَرِّقانِ ويَخْلَعانِ مِن غَيْرِ تَوْكِيلٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، فَهو تَعَسُّفٌ خارِجٌ عَنْ حُكْمِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، واَللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
{"ayah":"وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَیۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُوا۟ حَكَمࣰا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمࣰا مِّنۡ أَهۡلِهَاۤ إِن یُرِیدَاۤ إِصۡلَـٰحࣰا یُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَیۡنَهُمَاۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا خَبِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق