الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فابْعَثُوا حَكَمًا مِن أهْلِهِ وحَكَمًا مِن أهْلِها إنْ يُرِيدا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ [٣٥]
﴿وإنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما﴾ أصْلُهُ شِقاقًا بَيْنَهُما فَأُضِيفَ الشِّقاقُ إلى الظَّرْفِ، إمّا عَلى إجْرائِهِ مَجْرى المَفْعُولِ بِهِ اتِّساعًا، كَقَوْلِهِ: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ والنَّهارِ﴾ [سبإ: ٣٣] [سَبَأٍ: ٣٣] أصْلُهُ بَلْ مَكْرٌ في اللَّيْلِ والنَّهارِ، أوْ مَجْرى الفاعِلِ بِجَعْلِ البَيْنِ مُشاقًّا واللَّيْلِ والنَّهارِ ماكِرَيْنِ، كَما في قَوْلِكَ: نَهارُكَ صائِمٌ، والضَّمِيرُ لِلزَّوْجَيْنِ، ولَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُما لِجَرْيِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِما، وهو الرِّجالُ والنِّساءُ، أيْ: إنْ عَلِمْتُمْ مُخالَفَةً مُفَرِّقَةً بَيْنَهُما، واشْتَبَهَ عَلَيْكم أنَّهُ مِن جِهَتِهِ أوْ مِن جِهَتِها، ولا يَفْعَلُ الزَّوْجُ الصُّلْحَ ولا الصَّفْحَ ولا الفُرْقَةَ، ولا تُؤَدِّي المَرْأةُ الحَقَّ ولا الفِدْيَةَ ﴿فابْعَثُوا﴾ أيْ: إلى الزَّوْجَيْنِ لِإصْلاحِ ذاتِ البَيْنِ وتَبَيُّنِ الأمْرِ ﴿حَكَمًا﴾ رَجُلًا صالِحًا لِلْحُكُومَةِ والإصْلاحِ ومَنعِ الظّالِمِ مِنَ الظُّلْمِ ﴿مِن أهْلِهِ﴾ أيْ: أقارِبِ الزَّوْجِ: ﴿وحَكَمًا مِن أهْلِها﴾ عَلى صِفَةِ الأوَّلِ، فَإنَّ الأقارِبَ أعْرَفُ بِبَواطِنِ الأحْوالِ، وأطْلَبُ لِلْإصْلاحِ، فَيَلْزَمُهُما أنْ يَخْلُوا ويَسْتَكْشِفا حَقِيقَةَ الحالِ فَيَعْرِفا أنَّ رَغْبَتَهُما في الإقامَةِ أوِ الفُرْقَةِ ﴿إنْ يُرِيدا﴾ أيِ: الحَكَمانِ ﴿إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما﴾ أيْ: يُوقِعْ بَيْنَهُما المُوافَقَةَ فَيَتَّفِقانِ عَلى الكَلِمَةِ الواحِدَةِ ويَتَسانَدانِ في طَلَبِ الوِفاقِ حَتّى يَحْصُلَ الغَرَضُ ويَتِمَّ المُرادُ، أوِ الضَّمِيرُ الأوَّلُ لِلْحَكَمَيْنِ، والثّانِي لِلزَّوْجَيْنِ، أيْ: إنْ قَصْدا (p-١٢٢٤)إصْلاحَ ذاتِ البَيْنِ وكانَتْ نِيَّتُهُما صَحِيحَةً وقُلُوبُهُما ناصِحَةً لِوَجْهِ اللَّهِ، بُورِكَ في وساطَتِهِما، وأوْقَعَ اللَّهُ بِحُسْنِ سَعْيِهِما بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الوِفاقَ والأُلْفَةَ، وألْقى في نُفُوسِهِما المَوَدَّةَ والرَّحْمَةَ.
﴿إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾ بِظَواهِرِ الحَكَمَيْنِ وبَواطِنِهِما، إنْ قَصَدا إفْسادًا يُجازِيهِما عَلَيْهِ، وإلّا يُجازِيهِما عَلى الإصْلاحِ.
رَوى ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أمَرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أنْ يَبْعَثُوا رَجُلًا صالِحًا مِن أهْلِ الرَّجُلِ، ومِثْلَهُ مِن أهْلِ المَرْأةِ، فَيَنْظُرانِ أيُّهُما المُسِيءُ، فَإنْ كانَ الرَّجُلُ هو المُسِيءَ حَجَبُوا عَنْهُ امْرَأتَهُ وقَصَرُوهُ عَلى النَّفَقَةِ، وإنْ كانَتِ المَرْأةُ هي المُسِيئَةَ قَصَرُوها عَلى زَوْجِها، ومَنَعُوها النَّفَقَةَ، فَإنِ اجْتَمَعَ رَأْيُهُما عَلى أنْ يُفَرِّقا أوْ يَجْمَعا فَأمْرُهُما جائِزٌ، فَإنْ رَأيا أنْ يَجْمَعا فَرَضِيَ أحَدُ الزَّوْجَيْنِ وكَرِهَ الآخَرُ ثُمَّ ماتَ أحَدُهُما فَإنَّ الَّذِي رَضِيَ يَرِثُ الَّذِي لَمْ يَرْضَ، ولا يَرِثِ الكارِهُ الرّاضِيَ.
ورَوى عَبْدُ الرَّزّاقِ في (مُصَنَّفِهِ) عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: بُعِثْتُ أنا ومُعاوِيَةُ حَكَمَيْنِ، قالَ مَعْمَرٌ: بَلَغَنِي أنَّ عُثْمانَ بَعَثَهُما، وقالَ لَهُما: إنْ رَأيْتُما أنْ تَجْمَعا جَمَعْتُما، وإنْ رَأيْتُما أنْ تُفَرِّقا فَفَرِّقا.
(وأُسْنِدَ) عَنِ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ أنَّ عَقِيلَ بْنَ أبِي طالِبٍ تَزَوَّجَ فاطِمَةَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقالَتْ: تَصِيرُ إلَيَّ وأُنْفِقُ عَلَيْكَ، فَكانَ إذا دَخَلَ عَلَيْها، قالَتْ: أيْنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ؟ فَقالَ: عَلى يَسارِكِ في النّارِ إذا دَخَلْتِ، فَشَدَّتْ عَلَيْها ثِيابَها، فَجاءَتْ عُثْمانَ فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَضَحِكَ، فَأرْسَلَ ابْنَ عَبّاسٍ ومُعاوِيَةَ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَأُفَرِّقَنَّ بَيْنَهُما، فَقالَ مُعاوِيَةُ: ما كُنْتُ لِأُفَرِّقَ بَيْنَ شَخْصَيْنِ مِن بَنِي عَبْدِ مَنافٍ، فَأتَياهُما فَوَجَداهُما قَدْ أغْلَقا عَلَيْهِما أبْوابَهُما، فَرَجَعا.
(p-١٢٢٥)(وأُسْنِدَ) عَنْ عُبَيْدَةَ قالَ: شَهِدْتُ عَلِيًّا وجاءَتْهُ امْرَأةٌ وزَوْجُها مَعَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما فِئامٌ مِنَ النّاسِ، فَأخْرَجَ هَؤُلاءِ حَكَمًا وهَؤُلاءِ حَكَمًا، فَقالَ عَلِيٌّ لِلْحَكَمَيْنِ: أتَدْرِيانِ ما عَلَيْكُما؟ إنَّ عَلَيْكُما إنْ رَأيْتُما أنْ تَجْمَعا جَمَعْتُما، فَقالَتِ المَرْأةُ: رَضِيتُ بِكِتابِ اللَّهِ لِيَّ وعَلَيَّ، وقالَ الزَّوْجُ: أمّا الفُرْقَةُ فَلا، فَقالَ عَلِيٌّ: كَذَبْتَ واللَّهِ! لا تَبْرَحُ حَتّى تَرْضى بِكِتابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لَكَ وعَلَيْكَ. ورَواهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ جَرِيرٍ.
قالَ الحافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وقَدْ أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى أنَّ الحَكَمَيْنِ لَهُما الجَمْعُ والتَّفْرِقَةُ، حَتّى قالَ إبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ: إنْ شاءَ الحَكَمانِ أنْ يُفَرِّقا بَيْنَهُما بِطَلْقَةٍ أوْ بِطَلْقَتَيْنِ أوْ ثَلاثًا فَعَلا، وهو رِوايَةٌ عَنْ مالِكٍ.
وقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: الحَكَمانِ يَحْكُمانِ في الجَمْعِ لا في التَّفْرِقَةِ، وكَذا قالَ قَتادَةُ وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، وبِهِ قالَ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وأبُو ثَوْرٍ، وداوُدُ، ومَأْخَذُهم قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ يُرِيدا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما﴾ ولَمْ يَذْكُرِ التَّفْرِيقَ، وأمّا إذا كانا وكِيلَيْنِ مِن جِهَةِ الزَّوْجَيْنِ فَإنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُهُما في الجَمْعِ والتَّفْرِقَةِ بِلا خِلافٍ، انْتَهى.
وفِي "الإكْلِيلِ": أخْرَجَ ابْنُ مَنصُورٍ أنَّ المَأْمُورَ بِالبَعْثِ الحُكّامُ.
وعَنِ السُّدِّيِّ: إنَّهُ الزَّوْجانِ، فَعَلى الأوَّلِ اسْتَدَلَّ بِهِ مَن قالَ: إنَّهُما مُوَلَّيانِ مِنَ الحاكِمِ، فَلا يُشْتَرَطُ رِضا الزَّوْجَيْنِ عَمّا يَفْعَلانِهِ مِن طَلاقٍ وغَيْرِهِ، وعَلى الثّانِي اسْتَدَلَّ مَن قالَ: إنَّهُما وكِيلانِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ، فَيُشْتَرَطُ.
وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: الجُمْهُورُ عَلى الأوَّلِ - أعْنِي أنَّهُما مَنصُوبانِ مِن جِهَةِ الحاكِمِ - لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فابْعَثُوا حَكَمًا﴾ إلَخْ، فَسَمّاهُما حَكَمَيْنِ، ومِن شَأْنِ الحَكَمِ أنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ رِضا المَحْكُومِ عَلَيْهِ وهَذا ظاهِرُ الآيَةِ.
وذَهَبَ الشّافِعِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ إلى الثّانِي؛ لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلزَّوْجِ (حِينَ قالَ: أمّا الفُرْقَةُ فَلا) فَقالَ: كَذَبْتَ، حَتّى تُقِرَّ بِما أقَرَّتْ بِهِ.
قالُوا: فَلَوْ كانا حَكَمَيْنِ لَما افْتَقَرَ إلى إقْرارِ الزَّوْجِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
وفِي الآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ مَن أصْلَحَ نِيَّتَهُ فِيما يَتَوَخّاهُ، وفَّقَهُ اللَّهُ تَعالى لِمُبْتَغاهُ.
* * *
(p-١٢٢٦)تَنْبِيهٌ:
قالَ الحاكِمُ: في الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ كُلَّ مَن خافَ فُرْقَةً وفِتْنَةً جازَ لَهُ بَعْثُ الحَكَمَيْنِ، وقَدِ اسْتَدَلَّ بِها أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلى الخَوارِجِ فِيما فَعَلَ مِنَ التَّحْكِيمِ، قالَ مَشايِخُ المُعْتَزِلَةِ: لِأنَّ المَصاحِفَ لَمّا رُفِعَتْ، فَظَهَرَتِ الفُرْقَةُ في عَسْكَرِهِ، وخافَ عَلى نَفْسِهِ جازَتِ المُحاكَمَةُ، بَلْ وجَبَتْ، ولِهَذا صالَحَ ﷺ يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ، وعَلى هَذا يُحْمَلُ صُلْحُ الحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلامُ.
{"ayah":"وَإِنۡ خِفۡتُمۡ شِقَاقَ بَیۡنِهِمَا فَٱبۡعَثُوا۟ حَكَمࣰا مِّنۡ أَهۡلِهِۦ وَحَكَمࣰا مِّنۡ أَهۡلِهَاۤ إِن یُرِیدَاۤ إِصۡلَـٰحࣰا یُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَیۡنَهُمَاۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِیمًا خَبِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق