الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ الآية. قد ذكرنا أن الظلم يستعمل في معان كثيرة. وهو ههنا بمعنى النقص. قال ابن عباس: يريد لا ينقص مثقال ذرة [[أورده المصنف في "الوسيط" 2/ 550 من رواية عطاء ولم أقف عليه، وانظر: "الكشف والبيان" (4/ 55/ أ).]]. والمثقال مقدار الشيء في الثِّقل. وهو مفعال من الثقل، يقال: هذا على مثقال هذا، أي وزن هذا. ومعنى ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾: أي ما يكون وزنه وزن الذرة [[انظر: "غريب القرآن" لابن قتيبة ص 119، والطبري 5/ 88، "معاني الزجاج" 2/ 52، "النكت والعيون" 1/ 488.]]. وأما الذرة فهي النملة الحميراء الصغيرة في قول أهل اللغة [[انظر: "اللسان" 3/ 1494 (ذرر).]]، وهو قول ابن عباس [[أخرج الأثر عنه - الطبري 5/ 89، وذكره الثعلبي (4/ 55 أ)، وانظر: "زاد المسير" 2/ 85، "الدر المنثور" 2/ 290.]] وابن زيد [[لم أقف على قوله، وقد خرج الطبري مثل هذا القول عن يزيد بن هارون كما في "تفسير الطبري" 5/ 89، فيحتمل أن "يزيد" تصحف من النساخ إلى "ابن زيد" والله أعلم.]]. وروى يزيد بن الأصم [[هو أبو عوف يزيد بن عمرو (الأصم) بن عبيد البكائي المدني، من ثقات التابعين، وهو ابن خالة ابن عباس رضي الله عنهما توفي -رحمه الله- سنة 103هـ. انظر: "تاريخ الثقات" 2/ 360، "التقريب" رقم (7685).]] عن ابن عباس في هذه الآية قال: أدخل ابن عباس يده في التراب، ثم رفعها، ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرَّة [[انظر: "زاد المسير" 2/ 85.]]. والمراد من هذا: لا يظلم قليلًا ولا كثيرًا، ولكن الكلام خرج على أصغر ما يتعارفه الناس، يدل على هذا قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ [يونس: 44]. قال ابن عباس: نزل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ في المنافقين، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً﴾ في المؤمنين. يقول: لا ينقص ﴿مِثْقَالَ﴾ [[ليس في (د).]] ذرة من عمل منافق إلا جازاه بها رواه عطاء عنه [[لم أقف عليه، وانظر: "تنوير المقياس" بهامش المصحف ص 85.]]. وقال آخرون: هذا على العموم [[أي عموم المؤمنين والكافرين.]]. ثم اختلفوا؛ فذهب بعضهم في تأويله إلى ما رواه أنس أن النبي ﷺ قال: "وإن الله لا يظلم حسنة، أما المؤمن فيثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيُطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة" [[أخرجه مسلم (2808) كتاب صفات المنافقين باب: جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة وتعجيل حسنات الكافر في الدنيا.]]. وذهب بعضهم إلى تأويل هذه الآية: إن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على الخصم، بل يأخذ له ومنه، ولا يظلم مثقال ذرة تبقى للخصم، بل يثيبه عليها ويُضعفها له. واحتجوا بما روي عن ابن مسعود أنه قال: يُؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي منادٍ على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان بن فلان، من كان له عليه حق فليأت إلى حقه. ثم يقال له: آت هؤلاء حقوقهم. فيقول: يا رب من أين وقد ذهبت الدنيا. فيقول الله لملائكته في أعماله الصالحة: فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعّفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضل رحمته. ومصداق ذلك في كتاب الله ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ [[أخرجه بنحوه الطبري 5/ 89 - 90 بأكثر من طريق، وابن أبي حاتم ونقله ابن كثير 1/ 544 عنه بإسناده ثم قال: "ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح" وصحح إسناد ابن أبي حاتم أحمد شاكر في تحقيقه للطبري، وقال عن هذا الأثر: "والحديث أثر موقوف على ابن مسعود، ولكني أراه من المرفوع حكمًا، فإن ما ذكره ابن مسعود مما لا يعرف بالرأي، وما كان ابن مسعود ليقول هذا من عند نفسه، وليس هو ممن ينقل عن أهل الكتاب ولا يقبل الإسرائيليات". وانظر: "الدر المنثور" 2/ 290.]]. وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً﴾. الأصل: وإن تكن (بالنون) كقوله: ﴿إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا﴾ [النساء: 135]، وذلك أن النون إذا سكنت [[في (د): (سقطت).]] للجزم وسقطت الواو لسكونها وسكون النون فصار (تكن)، ويجوز حذف النون من تكن؛ لأنها ساكنة وهي تشبه حروف اللين، وحروف اللين إذا وقعت طرفًا سقطت، كقولك: لم أدر، وإن تدع. كذلك حُذفت هذه النون استخفافًا لكثرة الاستعمال كما قالوا: لا أدرِ ولم أبل، والأصل: لم أبال ولا أدري. ووجه شبه النون بحروف اللين أنَّ الغنة التي في النون كاللين الذي في حروف اللين، وأيضًا فإنها تحذف لالتقاء الساكنين، كما حذفوهن كلذلك في نحو: غزا القوم، وتغطي ابنك وتصبو [[هكذا في: (أ) ولعل الصواب بدون ألف.]] المرأة. ألا ترى أنك لم تظهر الألف ولا الباء [[هكذا في: (أ) بالباء الموحدة، ولعل الصواب: "ولا الياء" بالمثناة التحتية، وهو كما في (د).]] ولا الواو في اللفظ، بل حذفتهن لاجتماع الساكنين. وكذلك يفعلون في النون فيقولون: مِلآن، أي: من الآن [[انظر: "سر صناعة الإعراب" 2/ 540، 540، "الخصائص" 1/ 90، "عمدة الحفاظ" ص (505) (كون).]]، وأنشد سيبويه: فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فضل [[الكتاب 1/ 27، وعزا البيت للنجاشي (قيس بن عمرو الحارثي) وهو يصف ذئبًا. انظر: "الخصائص" 1/ 310، "سر صناعة الإعراب" 2/ 440، 541 بتحقيق هنداوي "الإنصاف" ص 546 بتحقيق عبد الحميد.]] وأنشد قُطرب: لم يك الحق سوى أن هاجه ... رسم دار قد تعفى بالسِّرر [[البيت لحسيل بن عرفطة (شاعر جاهلي) والضمير في "هاجه" يعود على عائق في بيت قبله، "السرر" اسم موضع قرب مكة. انظر: "النوادر" لأبي زيد ص (77)، "سر صناعة الإعراب" 2/ 440، 540 بتحقيق هنداوي، "الخصائص" 1/ 90.]] يريد بالأول: ولكن، والثاني: لم يكن، فلم يحرِّكا وحذفا. جعلوا النون أيضًا علمًا للرفع في نحو: يقومان ويقومون وتقومين، كما جعلوا الواو والألف علمًا له، نحو: أخوك وأبوك، والزيدان، والزيدون، إلى غير ذلك مما يطول ذكره [["سر صناعة الإعراب" 2/ 440، وانظر: "الكتاب" 1/ 19.]]. وقرئ قوله: (حسنةٌ) بالرفع والنصب [[بالرفع لأبي جعفر ونافع وابن كثير، وبالنصب لبقية العشرة انظر: "السبعة" ص 233، "الحجة" 3/ 160، "المبسوط" ص (156)، "النشر" 2/ 249.]]، فمن رفع فهي اسم كان ولا خبر لها ههنا، وهي في مذهب التمام. على معنى: وإن تحدث حسنة، أو إن تقع حسنة. ومن نصب كان المعنى: وإن لَكن فعلتُه حسنةً. والنصب حسن، لتقدم ذكر (مثقال ذرة)، فتجعل الذرة اسمًا وحسنة الخبر، على تقدير: وإن تكن الذرة حسنةً يضاعفها الله [[انظر: "الحجة" 3/ 160، "إعراب القراءات السبع" 1/ 133، "معاني القراءات" 1/ 308.]]. قال ابن عباس: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً﴾ يريد: من مؤمن ﴿يُضَاعِفْهَا﴾ يريد: عشرة أضعافها [[أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 551، وانظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 85.]]. وقال السدي: هذا عند الحساب والقصاص (فمن بقي له من الحسنات شيء يضاعفه بسبع مائة، وإلى الأجر العظيم [[لم أقف عليه.]]. ولهذا كان يقول بعض الصالحين: فُصَلت [[هكذا، ولعل الصواب: "لو فضلت".]] حسناتي سيئاتي بمثقال ذرة أحب إلي من الدنيا وما فيها [[هذا القول لقتادة، أخرجه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 160، والطبري 5/ 88.]]) [[ما بين القوسين لم يتضح كاملا في (أ) بسبب الطمس والتآكل في النسخة.]]. وقوله تعالى: ﴿وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ قال عطاء: يريد من عنده أجرًا عظيمًا يتفضل عليه بأكثر من العشرة الأضعاف [[أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 552 دون نسبة لعطاء، ولم أقف عليه.]]. وقال الكلبي: الأجر العظيم الجنة [[انظر: "تنوير المقباس" بهامش المصحف ص 85، وقد ورد هذا التفسير عن ابن مسعود، وسعيد بن جبير وابن زيد. أخرج ذلك عنهم الطبري 5/ 91 - 92.]]. وقال الحسن: هذا أحب إلى العلماء؛ أن لو قال: الحسنة بمائة ألف وهو كقوله: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: 3]، ولم يقل مثل ألف شهر [[لم أقف عليه.]]. وقال أبو عثمان النهدي [[هو عبد الرحمن بن مل -بميم مثلثة ولام ثقيلة- النهدي، مشهور بكنيته، من كبار الرواة الثقاة وهو من المخضرمين، وكان من العباد. توفي -رحمه الله- سنة 95 هـ. وله من العمر 130 سنة أو أكثر. انظر: "سير أعلام النبلاء" 4/ 175، "تقريب التهذيب" ص (351) (4017).]]: بلغني عن أبي هريرة [[تقدمت ترجمته.]] أنه قال: إن الله عز وجل يُعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة. فقضي أن انطلقت حاجًا أو معتمرًا، فلقيته فقلت: بلغني عنك أنك تقول: إن الله عز وجل يُعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة. قال أبو هريرة: لم أقل ذلك، ولكني قلت: إن الحسنة تضاعف ألفي ألف [[في (د): (ألف ألف).]] حسنة ثم تلا هذه الآية وقال: إذا قال الله عز جل: ﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾ فمن يقدر قدره [[أخرجه بنحوه وآخره مرفوعًا الإمام أحمد 2/ 296، والطبري 5/ 91، والثعلبي 4/ 57، وعزاه ابن كثير 1/ 545 إلى ابن أبي حاتم والسيوطي في "الدر المنثور" 2/ 291 إلى ابن أبي شيبة أيضًا.]]. وسنذكر اللغات في لدن والكلام فيه في سورة الكهف إن شاء الله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب