الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ويُؤْتِ مِن لَدُنْهُ أجْرًا عَظِيمًا﴾ (p-٥٥٤)"مِثْقالَ" مِفْعالٌ مِنَ الثِقْلِ، والذَرَّةُ: الصَغِيرَةُ الحَمْراءُ مِنَ النَمْلِ، وهي أصْغَرُ ما يَكُونُ إذا مَرَّ عَلَيْها حَوْلٌ، لِأنَّها تَصْغُرُ وتَجْرِي كَما تَفْعَلُ الأفْعى. تَقُولُ العَرَبُ: أفْعى جارِيَةٌ، وهي أشَدُّها، وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎ مِنَ القاصِراتِ الطَرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ مِنَ الذَرِّ فَوْقَ الأتْبِ مِنها لَأثَّرا فالمُحْوِلُ: الَّذِي أتى عَلَيْهِ الحَوْلُ،. وقالَ حَسّانٌ: ؎ لَوْ يَدِبُّ الحَوْلِيُّ مِن ولَدِ الذَ ∗∗∗ رِّ عَلَيْها لَأنْدَبَتْها الكُلُومُ وعَبَّرَ عَنِ الذَرَّةِ يَزِيدُ بْنُ هارُونَ بِأنَّها دُودَةٌ حَمْراءُ، وهي عِبارَةٌ فاسِدَةٌ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: الذَرَّةُ: رَأْسُ النَمْلَةِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ "إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ نَمْلَةٍ"، "مِثْقالَ": مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ "يَظْلِمُ"، والأوَّلُ مُضْمَرٌ، التَقْدِيرُ: إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ أحَدًا مِثْقالَ. و"يَظْلِمُ"، لا يَتَعَدّى إلّا إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، وإنَّما عُدِّيَ هُنا إلى مَفْعُولَيْنِ بِأنْ يُقَدَّرَ في مَعْنى ما يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ، كَأنَّهُ قالَ: إنَّ اللهَ لا يَنْقُصُ، أو لا يَبْخَسُ، أو لا يَغْصِبُ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ نَصْبُ "مِثْقالَ" عَلى أنَّهُ بَيانٌ وصِفَةٌ لِمِقْدارِ الظُلْمِ المَنفِيِّ، فَيَجِيءُ -عَلى هَذا- نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، التَقْدِيرُ: إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ ظُلْمًا مِثْقالَ ذَرَّةٍ، كَما تَقُولُ: إنَّ الأمِيرَ لا يَظْلِمُ قَلِيلًا ولا كَثِيرًا، أيْ: لا يَظْلِمُ ظُلْمًا قَلِيلًا ولا كَثِيرًا، فَعَلى هَذا وقَفَ "يَظْلِمُ" عَلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، وقالَ قَتادَةُ عن نَفْسِهِ -وَرَواهُ عن بَعْضِ العُلَماءِ- لَأنْ تَفْضُلَ حَسَناتِي سَيِّئاتِي بِمِثْقالِ ذَرَّةٍ أحَبُّ إلَيَّ مِنَ الدُنْيا جَمِيعًا. وحُذِفَتِ النُونُ مِن "تَكُنْ" لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، وشَبَهِها خِفَّةً بِحُرُوفِ المَدِّ واللِينِ. (p-٥٥٥)وَقَرَأ جُمْهُورُ السَبْعَةِ "حَسَنَةً" بِالنَصْبِ عَلى نُقْصانِ "كانَ"، واسْمُها مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وإنْ تَكُ زِنَةُ الذَرَّةِ حَسَنَةً، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ "حَسَنَةٌ" بِالرَفْعِ عَلى تَمامِ "كانَ". التَقْدِيرُ: وإنْ تَقَعْ حَسَنَةٌ، أو تُوجَدْ حَسَنَةٌ، و"يُضاعِفْها" جَوابُ الشَرْطِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ: "يُضَعِّفْها" مُشَدَّدَةَ العَيْنِ بِغَيْرِ ألِفٍ، قالَ أبُو عَلِيٍّ: المَعْنى فِيهِما واحِدٌ، وهُما لُغَتانِ، وقَرَأ الحَسَنُ: "يُضْعِفْها" بِسُكُونِ الضادِ وتَخْفِيفِ العَيْنِ. ومُضاعَفَةُ الشَيْءِ في كَلامِ العَرَبِ: زِيادَةُ مِثْلِهِ إلَيْهِ، فَإذا قُلْتَ: "ضَعَّفْتُ"، فَقَدْ أتَيْتَ بِبِنْيَةِ التَكْثِيرِ، وإذا كانَتْ صِيغَةُ الفِعْلِ دُونَ التَكْثِيرِ تَقْتَضِي الطَيَّ مَرَّتَيْنِ فَبِناءُ التَكْثِيرِ بِبِنْيَةِ التَكْثِيرِ، وإذا كانَتْ صِيغَةُ الفِعْلِ دُونَ التَكْثِيرِ تَقْتَضِي الطَيَّ مَرَّتَيْنِ فَبِناءُ التَكْثِيرِ يَقْتَضِي أكْثَرَ مِنَ المَرَّتَيْنِ إلى أقْصى ما تُرِيدُ مِنَ العَدَدِ، وإذا قُلْتَ: "ضاعَفْتُ" فَلَيْسَ بِبِنْيَةِ تَكْثِيرٍ، ولَكِنَّهُ فِعْلٌ صِيغَتُهُ دالَّةٌ عَلى الطَيِّ مَرَّتَيْنِ فَما زادَ. هَذِهِ أُصُولُ هَذا البابِ عَلى مَذْهَبِ الخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ، وقَدْ ذَكَرَ أبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ المُثَنّى في كِتابِ المَجازِ أنَّ "ضاعَفْتُ" يَقْتَضِي مِرارًا كَثِيرَةً. و"ضَعَّفْتُ" يَقْتَضِي مَرَّتَيْنِ، وقالَ مِثْلَهُ الطَبَرِيُّ، ومِنهُ نَقَلَ، ويَدُلُّكَ عَلى تَقارُبِ الأمْرِ في المَعْنى ما قُرِئَ بِهِ في قَوْلِهِ ﴿فَيُضاعِفَهُ لَهُ أضْعافًا كَثِيرَةً﴾ [البقرة: ٢٤٥] فَإنَّهُ قُرِئَ: "يُضاعِفَهُ"، و"يُضَعِّفَهُ"، وما قُرِئَ بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: "يُضاعَفْ لَها العَذابُ ضِعْفَيْنِ" فَإنَّهُ قُرِئَ: "يُضَعَّفْ لَها العَذابُ ضِعْفَيْنِ". وقالَ بَعْضُ المُتَأوِّلِينَ: هَذِهِ الآيَةُ خُصَّ بِها المُهاجِرُونَ، لِأنَّ اللهَ أعْلَمَ في كِتابِهِ أنَّ الحَسَنَةَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مُضاعَفَةٌ عَشْرَ مِرارٍ، وأعْلَمَ في هَذِهِ أنَّها مُضاعَفَةٌ مِرارًا كَثِيرَةً جِدًّا حَسَبَ ما رَوى أبُو هُرَيْرَةَ مِن أنَّها تُضاعَفُ ألْفَيْ ألْفِ مَرَّةٍ، ورَوى غَيْرُهُ مِن أنَّها تُضاعَفُ ألْفَ ألْفِ مَرَّةٍ، ولا يَسْتَقِيمُ أنْ يَتَضادَّ الخَبَرانِ، فَهَذِهِ مَخْصُوصَةٌ لِلْمُهاجِرِينَ السابِقِينَ، حَسْبَما رَوى عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: أنَّها لَمّا نَزَلَتْ: ﴿مَن جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ (p-٥٥٦)أمْثالِها﴾ [الأنعام: ١٦٠] في الناسِ كافَّةً، قالَ رَجُلٌ، فَما لِلْمُهاجِرِينَ؟ فَقالَ ما هو أعْظَمُ مِن هَذا ﴿إنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ﴾ الآيَةَ. فَخُصُّوا بِهَذا كَما خُصَّتْ نَفَقَةُ سَبِيلِ اللهِ بِتَضْعِيفِ سَبْعِمِائَةِ مَرَّةٍ، ولا يَقَعُ تَضادٌّ في الخَبَرِ. وقالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ وعَدَ بِذَلِكَ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ، ورُوِيَ في ذَلِكَ أحادِيثُ وهِيَ: "أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَجْمَعُ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ في صَعِيدٍ واحِدٍ، فَيُنادِي: هَذا فُلانُ بْنُ فُلانٍ، فَمَن كانَ لَهُ عِنْدَهُ حَقٌّ فَلْيَقُمْ قالَ: فَيُحِبُّ الإنْسانُ أنْ لَوْ كانَ لَهُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ عَلى أبِيهِ وابْنِهِ، فَيَأْتِي كُلُّ مَن لَهُ حَقٌّ فَيَأْخُذُ مِن حَسَناتِهِ حَتّى يَقَعَ الِانْتِصافُ، ولا يَبْقى لَهُ إلّا وزْنُ الذَرَّةِ، فَيَقُولُ اللهُ تَعالى: أضْعِفُوها لِعَبْدِي، واذْهَبُوا بِهِ إلى الجَنَّةِ"، وهَذا يَجْمَعُ مَعانِيَ ما رُوِيَ مِمّا لَمْ نَذْكُرْهُ. والآيَةُ تَعُمُّ المُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ، فَأمّا المُؤْمِنُونَ فَيُجازَوْنَ في الآخِرَةِ عَلى مَثاقِيلِ الذَرِّ فَما زادَ، وأمّا الكافِرُونَ فَما يَفْعَلُونَ مِن خَيْرٍ فَتَقَعُ المُكافَأةُ عَلَيْهِ بِنِعَمِ الدُنْيا، ويَجِيئُونَ يَوْمَ القِيامَةِ ولا حَسَنَةَ لَهم. و"لَدُنْهُ" مَعْناهُ: مِن عِنْدِهِ، قالَ سِيبَوَيْهِ: هي لِابْتِداءِ الغايَةِ فَهي تُناسِبُ أحَدَ مَواضِعِ "مِن"، ولِذَلِكَ التَأما، ودَخَلَتْ "مِن" عَلَيْها. والأجْرُ العَظِيمُ: الجَنَّةُ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وابْنُ زَيْدٍ، واللهُ إذا مَنَّ بِتَفَضُّلِهِ بَلَغَ بِعَبْدِهِ الغايَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب