الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ﴾ أَيْ لَا يَبْخَسُهُمْ وَلَا يُنْقِصُهُمْ مِنْ ثَوَابِ عَمَلِهِمْ وَزْنَ ذَرَّةٍ بَلْ يُجَازِيهِمْ بِهَا وَيُثِيبُهُمْ عَلَيْهَا. وَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً [[راجع ج ٨ ص ٣٤٦.]]). وَالذَّرَّةُ: النَّمْلَةُ الْحَمْرَاءُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ، وَهِيَ أَصْغَرُ النَّمْلِ. وَعَنْهُ أَيْضًا رَأْسُ النَّمْلَةِ. وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: زَعَمُوا أَنَّ الذَّرَّةَ لَيْسَ لَهَا وَزْنٌ. وَيُحْكَى أَنَّ رَجُلًا وَضَعَ خُبْزًا حَتَّى عَلَاهُ الذَّرُّ مِقْدَارَ مَا يَسْتُرُهُ ثُمَّ وَزَنَهُ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى وَزْنِ الْخُبْزِ شَيْئًا. قُلْتُ: وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ لِلذَّرَّةِ وَزْنًا، كَمَا أَنَّ لِلدِّينَارِ وَنِصْفِهِ وَزْنًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقِيلَ: الذَّرَّةُ الْخَرْدَلَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها [[راجع ج ١١ ص ٢٩٣.]]). وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا، وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ أَقَلِّ الْأَشْيَاءِ وَأَصْغَرِهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتٍ مَا عَمِلَ لِلَّهِ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا (. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها﴾ أَيْ يُكْثِرُ ثَوَابَهَا. وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ (حَسَنَةٌ) بِالرَّفْعِ، وَالْعَامَّةُ بِالنَّصْبِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ (تَكُ) بِمَعْنَى تَحْدُثُ، فَهِيَ تَامَّةٌ. وَعَلَى الثَّانِي هِيَ النَّاقِصَةُ، أَيْ إِنْ تَكُ فِعْلَتُهُ حَسَنَةً. وَقَرَأَ الْحَسَنُ (نُضَاعِفْهَا) بِنُونِ الْعَظَمَةِ. وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، وَهِيَ أَصَحُّ، لِقَوْلِهِ (وَيُؤْتِ). وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ (يُضَعِّفْهَا)، وَالْبَاقُونَ (يُضاعِفْها) وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا التَّكْثِيرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: (يُضاعِفْها) مَعْنَاهُ يَجْعَلُهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، (وَيُضَعِّفُهَا) بِالتَّشْدِيدِ يَجْعَلُهَا ضِعْفَيْنِ. (مِنْ لَدُنْهُ) مِنْ عِنْدِهِ. وَفِيهِ أَرْبَعُ لُغَاتٍ [[في كتب اللغة أكثر من أربع، منها مع المذكور: لدن ولدن.]]: لَدُنْ وَلُدْنُ وَلَدُ وَلَدَى، فَإِذَا أَضَافُوهُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ شَدَّدُوا النُّونَ، وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ (مِنْ) حَيْثُ كَانَتْ (مِنْ) الدَّاخِلَةُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ وَ (لَدُنْ) كَذَلِكَ، فَلَمَّا تَشَاكَلَا حَسُنَ دُخُولُ (مِنْ) عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي لَدُنْ: إِنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْغَايَةِ. (أَجْراً عَظِيماً) يَعْنِي الْجَنَّةَ. وَفِي صحيح مسلم من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ الطَّوِيلِ- حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ- وَفِيهِ: (حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ فَيُقَالُ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه فيخرجون خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فيها ممن أمرتنا أحدا ثم يقول ارجعوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا (. وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوقَفُ وَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ فَلْيَأْتِ إِلَى حَقِّهِ ثُمَّ يَقُولُ آتِ هَؤُلَاءِ حُقُوقَهُمْ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مِنْ أَيْنَ لِي وَقَدْ ذَهَبَتِ الدُّنْيَا عَنِّي فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ انْظُرُوا إِلَى أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ فَأَعْطُوهُمْ مِنْهَا فَإِنْ بَقِيَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَةٍ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا رَبِّ- وَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ- قَدْ أُعْطِيَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَبَقِيَ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ حَسَنَةٍ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ ضَعِّفُوهَا لِعَبْدِي وَأَدْخِلُوهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِي الْجَنَّةَ وَمِصْدَاقُهُ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) - وَإِنْ كَانَ عَبْدًا شَقِيًّا قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَهَنَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ وَبَقِيَتْ سَيِّئَاتُهُ وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِيرٌ فَيَقُولُ تَعَالَى خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّارِ (. فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الْخُصُومِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ لِلْخَصْمِ عَلَى الْخَصْمِ يَأْخُذُ لَهُ مِنْهُ، وَلَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ تَبْقَى لَهُ بَلْ يُثِيبُهُ عَلَيْهَا وَيُضَعِّفُهَا لَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها﴾. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُعْطِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِالْحَسَنَةِ الْوَاحِدَةِ أَلْفَيْ أَلْفِ حَسَنَةٍ) وَتَلَا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً). قَالَ عُبَيْدَةُ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَإِذَا قَالَ اللَّهُ (أَجْراً عَظِيماً) فَمَنِ الَّذِي يُقَدِّرُ قَدْرَهُ! وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إِحْدَى الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِمَّا طلعت عليه الشمس.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب