الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ قال سعيد بن المسيب: كان الرجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبدًا، فكان يتركها بذلك لا أَيَّمًا ولا ذاتَ بعلٍ، يُضَارُّها، وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية وفي الإسلام، فجعل الله تعالى الأجل الذي يُعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1038، والواحدي في "أسباب النزول" ص 80، 81، وابن حجر في "العجاب" 1/ 579. وذكره بنصه بلا نسبة الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 300 - 301، وروى سعيد بن منصور 2/ 51 [ط. حبيب الرحمن] والطبراني == في "المعجم الكبير" 11/ 127، والواحدي في "أسباب النزول" ص 80، 81 عن ابن عباس قال: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين، وأكثر من ذلك، فوقت الله أربعة أشهر.]]. ويقال: آلى يُولي إِيلاء، وتألّي يَتَألَّى تألِّيًا وائتلى يَأتلي ائتلاءً، قالت الخنساء: فآليْتُ آسَى عَلَى هَالِكِ ... وأسْألُ نَائِحَةً مَالَهَا [[البيت للخنساء في رثاء أخيها صخر، ينظر ديوانها ص120. تقول: لا أبكي على هالك بعده فقد شغلني عن غيره.]] وقال زيد الفوارس [[هو زيد بن حصين بن ضرار الضبي، فارس شاعر جاهلي، أورد البغدادي قليلًا من أخباره وأبياتاً له، واختار أبو تمام في "الحماسة" أبياتاً أخرى من شعره. ينظر "خزانة الأدب" للبغدادي 1/ 516، 517، "الأعلام" 3/ 58.]]: تالى ابنُ أوسٍ حَلْفةً ليَرُدَّني ... إلى نِسوَةٍ كأنَّهُنَّ مقائد [[البيت ذكره في "الدر المصون" 8/ 394.]] ومن هذا قراءة من قرأ: ﴿ولا يتأل أولوا الفضل منكم﴾ [النور: 22] وقراءة العامة (ولا يأتلِ) [[قرأ أبو جعفر: (يتأل) بهمزة مفتوحة بين التاء واللام مع تشديد اللام مفتوحة، وهي قراءة عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة مولاه، وزيد بن أسلم، وقرأ الباقون بهمزة ساكنة بين الياء والتاء وكسر اللام خفيفة، قال في النشر 2/ 331: وذكر الإمام المحقق أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم القراب، في كتابه: "علل القراءات": أنه كتب في المصاحف (يتل) قال: فلذلك ساغ الاختلاف فيه على الوجهين. ينظر النشر2/ 331، و"البدور الزاهرة" ص271.]] من الإيتلاء بمعنى الحلف، ويقال لليمين: الأَلِيَّةَ والأُلوّة والأَلُوّة [[ساقطة من (ش) و (ي).]] كلها بالتشديد، وحكى أبو عمرو [[ساقطة من (ي).]] أَلْوَةٌ وإِلْوَهٌ وأُلوَةٌ ثلاث لغات مخففة في اليمين، وذكرها يعقوب [[ينظر في آلى: "تفسير الطبري" 2/ 417، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 301، "تهذيب اللغة" 15/ 178 - 180، "المفردات" 32، "عمدة الحفاظ" 1/ 120 - 122، "اللسان" 1/ 117 - 120. قال الراغب: وحقيقة الإيلاء والألية: الحلف المقتضي لتقصير في الأمر الذي يحلف عليه. وجعل الإيلاء في الشرع للحلف المانع من جماع المرأة. أي: مدة أربعة أشهر فأكثر.]]. قال كثيّر: قَلِيلُ الأَلايَا حَافِظٌ ليمينه ... فإن سَبَقَتْ منه الأَلِيَّةُ بَرَّتِ [[البيت لكثير عزة في "ديوانه" 2/ 220. وفي "البحر المحيط" 2/ 176، "التفسير الكبير" 6/ 86، وذكره في "اللسان" 1/ 117 بغير نسبة قال: ورواه ابن خالويه: قليل الإلاء. وفيه: وإن سبقت.]] وقوله تعالى: ﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ قال أهل المعاني: الآية مختصرة، وما وقع عليه الإيلاء محذوف، وهو اعتزال النساء، كأنه قيل: للذين يؤلون أن يعتزلوا نسائهم تربص أربعة أشهرٍ، فحذف ما حذف لبيان معناه، وذلك أنه معلوم أن الحلف لا يكون إلّا على شيء يؤكّدُ ويحقق [[في (ي) و (ش) (تحقق).]] [["تفسير الثعلبي" 2/ 1040.]]. و (مِنْ) في [[ساقطة من (ي).]] قوله: ﴿مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ عند بعضهم من صلة التربص، كأنه قيل: للذين يؤلون تربص أربعة أشهر من نسائهم، أي: يتربصون عنهن هذه المدة. وحكى ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة أن (من) هاهنا بمعنى على، وحروف الصفات متعاقبة، والتقدير عنده: للذين يحلفون على وطء أو في وطء نسائهم، فأقام الصفة مقام الصفة، وحذف المضاف، وأقام النساء مقامه [[ينظر في معنى (من): التبيان ص 136، "تفسير الرازي" 6/ 86، "البحر المحيط" 1/ 181 وقال: (من) يتعلق بقوله: يؤلون، وآلى لا يتعدى بمن، فقيل: (من) بمعنى على، وقيل بمعنى في، ويكون ذلك على حذف مضاف، أي: على ترك وطء نسائهم، أو في ترك وطء نسائهم، وقيل: (من) زائدة، والتقدير: يؤلون أن يعتزلوا نساءهم، وقيل يتعلق بمحذوف، والتقدير: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فتتعلق بما تتعلق به لهم المحذوف، قاله الزمخشري، وهذا كله ضعيف ينزه القرآن عنه، وإنما يتعلق بـ يؤلون على أحد وجهين: إما أن يكون (من) للسبب، أي: من يحلفون بسبب نسائهم، وإما أن يضمن الإيلاء معنى الامتناع فيعدى بمن، فكأنه قيل: للذين يمتنعون بالإيلاء من نسائهم.]]. والتربص: التَّلَبُّثُ والانتظار، تَرَبَّصْتُ بالشيء تَرَبُّصًا، ويقال: ما لي على هذا الأمر رُبْصَةٌ، أي: تلبث [[ينظر في تربص: "تهذيب اللغة" 2/ 1344 مادة "ربص"، "تفسير الثعلبي" 2/ 1041، "المفردات" 192، "عمدة الحفاظ" 2/ 68.]]. وإضافة التربص إلى الأربعة أشهر أضافة المصدر، كقولك: بينهما مسيرة يوم، أو مسيرة في يوم، ومثله كثير. وأما تفسير الإيلاء الشرعي وحكمه، فكل [[في (ي) و (ش) (وكل).]] يمين يحلفها الرجل ويصير بها ممتنعًا من جماع امرأته أكثر من أربعة أشهرٍ فهو إيلاء، وما كان دون أربعة أشهر فليس بإيلاء. وإن حلف على أربعة أشهر، فقد اختلف الصحابة فيه، فذهب الأكثرون إلى أنه غير مُوْلي، وذهب ابن عباس إلى أنه مُولٍ. [[ينظر: "مختصر الطحاوي" ص 208، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 360.]] وحالة الرضا والغضب سواء، إلا فيما يحكى عن علي رضى الله عنه أنه كان يقول: الإيلاء يمين في الغضب، فإذا حلف في حال الرضا فليس بإيلاء [[رواه عبد الرزاق في "المصنف" / 451، وابن أبي شيبة في "المصنف" 5/ 141، والطبري في "تفسيره" 2/ 417 - 418، وعزاه في "الدر" 1/ 482 إلى عبد بن حميد.]]. ثم إن جامع قبل مضي أربعة أشهر لزمته [[في (م): (لزمه).]] الكفارة عند عامّة الفقهاء والنكاح ثابت، وذهب الحسن [[في (ي): (أبو الحسن).]] [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 426.]] وقتادة [[المصدر السابق.]] إلى أنه لا كفارة عليه، لقوله: ﴿فَإِن فَاَءُو فَإِنَّ اَللهَ غَفُوُرٌ﴾ رَحِيمٌ، وإن لم يجامع حتى انقضت أربعة أشهر بانت منه بتطليقة عند أبي حنيفة [[ينظر: "مختصر الطحاوي" ص 208، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 360.]]، ولا رجعة له، وهو قول ابن مسعود [[رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 454، وسعيد بن منصور 2/ 51، والطبري في "تفسيره" 2/ 428.]] وزيد بن ثابت [[رواه عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 453، والطبري في "تفسيره" 2/ 428.]] وقتادة [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 428.]] والكلبي [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 1043.]]. وعند الشافعي [[ينظر: "الأم" 5/ 287، و"الرسالة" ص 576.]]: أنه إذا مضت أربعة أشهر والرجل ممتنع، فإن عفت المرأة ولم تطلب حقها من الجماع فلا شيء على الرجل، ولا يقع طلاق، وهما على النكاح ما أقامت على ذلك، وإن طلبت حقها وقف الحاكم زوجها فإما أن يطلق، وإما أن يطأ، فإن أباهما جميعًا طلق الحاكم عليه، وله أن يراجعها. وهذا قول عُمَر [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 433.]]، وعثمان [[رواه البخاري (5291) كتاب: الطلاق، باب: قول الله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ﴾ معلقا على قول عثمان، ورواه الشافعي في "الأم" 5/ 282 موصولا، والطبري في "تفسيره" 2/ 433.]]، وعلي [[رواه البخاري في الموضع السابق معلقا؛ ورواه موصولا: الشافعي في الأم 5/ 282، والطبري في "تفسيره" 2/ 434.]]، وأبي الدرداء [[رواه البخاري في الموضع السابق معلقا، ورواه موصولا عبد الرزاق في "المصنف" 6/ 457، والطبري 2/ 434.]] وابن عُمر [[رواه البخاري في الموضع السابق، والطبري في "تفسيره" 2/ 434.]] وعائشة [[رواه البخاري في الموضع السابق معلقا، ورواه موصولا الشافعي في الأم 5/ 282، والطبري في "تفسيره" 2/ 343.]]، ومذهب مالك [[ينظر "الموطأ" 2/ 556، "والكافي" لابن عبد البر 2/ 599.]]. وأبي ثور [[هو: إبراهيم بن خالد أبو ثور الكلبي البغدادي، الفقيه مفتي العراق، أحد الحفاظ المجتهدين، حجة رغم جرح أبي حاتم الخفيف بسبب أخذه بالرأي، توفي سنة 240 هـ. ينظر "الجرح والتعديل" 2/ 372، "تاريخ بغداد" 6/ 65، و"السير" 12/ 72.]] [[ينظر: "اختلاف العلماء" للمروزي ص 183، و"الإشراف" لابن المنذر 1/ 228.]] وأبي عبيد [[ينظر المرجعين السابقين.]] وأحمد [[ينظر: مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله 3/ 1119.]] وإسحاق [["سنن الترمذي" (1201) كتاب: الطلاق واللعان، باب: ما جاء في الايلاء، والإشراف 1/ 228.]] وعامة أهل الحديث. وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ فَاءُوا﴾ أي: رجعوا، والفَيْءْ في اللغة: الرجوعُ. قال الفراء: يقال: فاء يفيء فيئًا [[في (ش): (فئيًا).]] وفُيُوءًا [[في (ش): (فُؤَرًا).]] [["معاني القرآن" للفراء 1/ 145 بمعناه]] وفَيْئةً، وهي المرَّة [[في (أ) و (م): (المرأة).]] الواحدة [[ينظر في معنى الفيء: "تهذيب اللغة" 3/ 2711، "المفردات" ص 390، وقال: الفيء والفيئة: الرجوع إلى حالة محمودة، "اللسان" 6/ 3495، وذكر الأزهري: أن الفيء في القرآن على ثلاثة معان، مرجعها إلى أصل واحد هو الرجوع، ثم ذكر أولها وهي الفيء في هذه الآية، والثاني: قوله تعالى: ﴿يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ﴾ [النحل: 48]، فالفيء الظل بعد العشي، والثالث: قوله: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [الحشر: 7]، فالفي: ما رد الله تعالى على أهل دينه من أموال من خالف أهل دينه بلا قتال.]]، وإنما يصير راجعًا بالجماع، ويكفى من ذلك تغييب [[في (م): (تغيب).]] الحشفة في فرجها مرة واحدة [[ينظر: "الإشراف" 1/ 288، "والأم" 5/ 287، "تفسير الثعلبي" 2/ 1047.]]. وقال قوم: الفيء باللسان، وهو مذهب النخعي [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 423، وعبد الرزاق في "المصنف" 6/ 462.]]، وإن كان عاجزًا عن الجماع بمرض أو غيبة فاء بلسانه، وأشهد عليه. وقد ذكرنا أنه إذا فاء لزمته الكفّارة إلا عندَ الحسن وقتادة [[سبق تخريجه عنهما.]]، لقوله: ﴿فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ والذين يوجبون الكفارة يقولون: هذا في إسقاط العقوبة لا في الكفارة [["تفسيرالثعلبي" 2/ 1047.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب