الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فَإنْ فاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: ٢٢٦ ـ ٢٢٧].
الإيلاءُ: الحَلِفُ، ويُؤْلُونَ: يَحلِفونَ.
قال الشاعرُ:
قَلِيلُ الأَلايا حافِظٌ لِيَمِينِهِ
وإنْ سَبَقَتْ مِنهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
والإيلاءُ دونَ أربَعةِ أشهُرٍ بلا قصدِ الإضرارِ: جائِزٌ، وقد آلى النبيُّ ﷺ مِن نِسائِهِ شَهْرًا، كما في «الصحيحِ»[[أخرجه البخاري (٣٧٨) (١/٨٥).]].
الإيلاءُ لهجرِ الزوجةِ:
وقد كانتِ العرَبُ في الجاهليَّةِ إذا أرادَ الرجلُ منهم إيذاءَ زوجتِهِ، حلَفَ ألاَّ يدخُلَ عليها سنةً أو أكثرَ، يُضِرُّ بها ويَنكِحُ غيرَها، فجعَلَ اللهُ لذلك حدًّا يَفصِلُ فيه، فلم يحرِّمِ الإيلاءَ كلَّه، لأنّ النفوسَ ربَّما تحتاجُ إليه وتَلجَأُ إليه وتُبتَلى به، فهو يَصُدُّ الرَّجُلَ عنِ الطلاقِ وعن فِراقِ زوجتِهِ، فيجعلُ له حَدًّا يُفارِقُ زوجتَهُ فيه، وذلك في حالَيْنِ:
الأُولـى: الهَجْرُ بلا إيلاءٍ، وهذا له حدٌّ يأتي الكلامُ عليه في سورةِ النِّساءِ بإذنِ اللهِ.
الثانيةُ: الإيلاءُ، وهو الحَلِفُ ألاَّ يدخُلَ عليها، أو لا يَقْرَبَها، وهذا هو المرادُ في الآيةِ.
ولو حرَّم اللهُ الهجرَ والإيلاءَ بإطلاقٍ، لاندَفعَتِ النفوسُ إلى الطلاقِ عندَ أدنى حاجةٍ للبُعْدِ، وفي هذا مِن العَنَتِ والأَذى على الزوجَيْنِ والذُّرِّيَّةِ، ما يَدْفَعُ إلى النَّدَمِ والفِتْنةِ، فجعَلَ اللهُ لحكمَتِه الفُرْقةَ بين الزوجَيْنِ على قَدْرٍ مفصَّلٍ يعالِجُ النفوسَ، ويُبقِي الصلةَ بينَ الزوجَيْنِ.
وقد حَفِظَ اللهُ حقَّ الزوجةِ مِن زوجِها، ورفَعَ ظُلْمَهُ عنها، لأنّ الرَّجُلَ يَقضِي وطَرَهُ بزوجةٍ أخرى، وله في ذلك ثلاثُ زوجاتٍ غيرُها، أو بأَمَتِهِ، ولا حَدَّ له في ذلك، وأمّا الزوجةُ، فلا تَقضِي حاجتَها إلاَّ بزَوْجِها، ولا يَحِلُّ لها أنْ يَقرَبَها عبدُها، فكانَ الأذى عليها في ذلك ظاهرًا، فجَعَلَ اللهُ حَدًّا لذلك، حتّى لا تُظلَمَ ويفسُدَ دِينُها.
وهذه الآيةُ ممّا ليس في السُّنَّةِ شيءٌ يبيِّنُ فيها صفةَ الإيلاءِ وكيفيَّةَ الفَيْءِ، ووقوعَ الطلاقِ وصفتَهُ، ولذا قال الشافعيُّ في «رسالَتِهِ»: «لم يُحفَظْ عن رسولِ اللهِ في هذا شيئًا» [[«الرسالة» (٥٧٨).]].
أنواعُ الإيلاءِ:
والإيلاءُ على نوعَيْنِ، مشروعٍ، وممنوعٍ:
الأولُ: الجائِزُ المشروعُ، ويكونُ بشرطَيْنِ: ألاَّ يتجاوَزَ أربعةَ أشهرٍ، وألاَّ يُقصَدَ به الإضرارُ بالزوجةِ، فإنْ قُصِدَ به الإضرارُ بالزوجةِ، فلا يجوزُ ولو كان دونَ أربعةِ أشهرٍ، كمَن يُؤْلِي مِن نسائِهِ ثلاثةَ أشهرٍ وشيئًا، ثُمَّ يَفِيءُ، ثُمَّ يُؤْلِي مِثلَها، ثُمَّ يَفِيءُ، فيُجامِعُ زوجتَهُ في العامِ ثلاثَ أو أربعَ مرّاتٍ، فالضَّرَرُ محرَّمٌ ولو كان في صُورةِ الجائِزِ، ولا عِبْرةَ بالمُدَّةِ ولو كانت أيّامًا معدوداتٍ، كمَن يَعلَمُ ضَرَرَ زوجتِهِ بتَرْكِها أيّامًا، فقصَدَ ذلك.
وأمّا الإيلاءُ دُونَ أربعةِ أشهُرٍ بلا ضَرَرٍ، وبمقصدٍ شرعيٍّ، كقصدِ التأديبِ والتهذيبِ والإصلاحِ، فلا حرَجَ فيه، لفِعلِ النبيِّ ﷺ له، فقد آلى النبيُّ ﷺ مِن نِسائِهِ شَهْرًا، كما ثبَتَ في «الصحيحِ»، مِن حديثِ أنسٍ[[أخرجه البخاري (٣٧٨) (١/٨٥).]]، وأُمِّ سَلَمةَ[[أخرجه البخاري (١٩١٠) (٣/٢٧).]].
والثاني: الممنوعُ، وهو: الإيلاءُ فوقَ أربعةِ أشهرٍ، قُصِدَ به الإضرارُ أم لم يُقصَدْ به، لتحقُّقِ الضررِ غالبًا، ولو لم يَقصِدْهُ، ولمخالَفَتِهِ لأمرِ اللهِ وحُكْمِه.
وقيَّد بعضُ المفسِّرينَ الإيلاءَ بقصدِ إضرارِ الزوجِ بزوجتِهِ، قالوا: وإذا لم يقصدِ الإضرارَ بها، فهو قَسَمٌ ويمينٌ كسائرِ الأيمانِ، وبعضُهم: جعَلَ كُلَّ حَلِفٍ بعدمِ قُرْبِها إيلاءً ولو لم يقصِدِ الإضرارَ بها:
ذهَبَ إلى المعنى الأوَّلِ: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عبّاسٍ، والحسنُ، وعطاءُ بنُ أبي رَباحٍ، وابنُ شِهابٍ الزُّهْريُّ.
رُوِيَ عن عليٍّ وابنِ عبّاسٍ مِن وجوهٍ، قالا: «لا إيلاءَ إلاَّ بغَضَبٍ»[[«تفسير الطبري» (٤/٤٥ ـ ٤٦).]].
ولذا فهم يَجْعَلُونَ كُلَّ حَلِفٍ سبَبُهُ غيرُ الغَضَبِ يمينًا لا إيلاءً، كمَن يَحلِفُ ألاَّ يَقرَبَ زوجتَهُ لأنّها تُرضِعُ أو لمَرَضِها، يُرِيدُ حَبْسَ نفسِهِ عنها، روى ابنُ جريرٍ، عن ابنِ جُرَيْجٍ، عن عَطاءٍ، قالَ: «إذا حَلَفَ مِن أجْلِ الرَّضاعِ، فَلَيْسَ بِإيلاءٍ»[[«تفسير الطبري» (٤/٤٧).]].
وإنّما قيَّدَ بعضُ السلفِ الإيلاءَ بما كان في الغَضَبِ والضِّرارِ، لأنّ اللهَ إنّما جعَلَ الإيلاءَ مَخْرَجًا للمرأةِ مِن أذِيَّةِ زوجِها لها بتَرْكِ قُرْبِها، وإذا كان حَلِفُهُ بغيرِ غَضَبٍ ولا إضرارٍ، فإنّما فعَلَ ذلك لمصلحةِ زوجَتِه لِتُتِمَّ رَضاعَها أو تَشْفى مِن مَرَضِها، فهذا لحظِّ الزوجةِ، وطلبًا لرِضاها، وليس للإضرارِ بها.
وذهَبَ إلى المعنى الثاني، أيْ: أنّ كُلَّ حَلِفٍ مِن الزوجِ ألاَّ يَقرَبَ زوجتَهُ، فهو إيلاءٌ أيًّا كان سبَبُهُ ـ قصَدَ الإضرارَ أو لم يَقصِدْهُ، كان عن غَضَبٍ أو عن رضًا ـ وقال به الشَّعْبيُّ والنَّخَعيُّ.
روى ابنُ جريرٍ، عن الأَعْمَشِ، عن إبراهيمَ، قالَ: «كُلُّ يَمِينٍ مَنَعَتْ جِماعًا حَتّى تَمْضِيَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ، فَهِيَ إيلاءٌ»[[«تفسير الطبري» (٤/٤٨).]].
وإنّما قالوا بدخولِ كُلِّ قسَمٍ ويمينٍ في الإيلاءِ، ما دام متعلِّقًا بعدمِ قربِ الزوجةِ، مهما كان سبَبُه، لعمومِ الآيةِ، فقد عَمَّتْ كُلَّ مُؤْلٍ مُقْسِمٍ.
والصوابُ: أنّ الإيلاءَ ما أضَرَّ بالزوجةِ مِن يمينِ زوجِها ألاَّ يقْرَبَها، وإنّما قَيَّدَ بعضُ المفسِّرينَ ذلك بالغَضَبِ، لأنّ اليمينَ غالبًا إذا كانت تَضُرُّ الزوجةَ، فهي لا تصدُرُ إلاَّ عن غَضَبٍ.
وصِيَغُ الإيلاءِ لا حَدَّ لها، وتختلِفُ مِن شخصٍ إلى شخصٍ، ومِن بلدٍ إلى آخَرَ، ومِن عُرْفٍ إلى عُرْفٍ، كقولِهم: واللهِ لا أقرَبُكِ، أو واللهِ لا اجتَمعْنا في لِحافٍ ولا فِراشٍ، ونحوِ ذلك وما في معناه، فهو إيلاءٌ.
إيلاءُ العبدِ:
واختلَفَ الفقهاءُ في إيلاءِ العبدِ، هل يستوِي في مُدَّةِ الإيلاءِ مع الحُرِّ أوْ لا؟ على قولَيْنِ عندَهم:
القـولُ الأوَّلُ: أنّ مُدَّةَ إيلائِهِ نِصْفُ الحُرِّ، وبهذا قال الزُّهْريُّ وعَطاءٌ ومالكٌ، وعَلَّلَ بعضُ الفقهاءِ ذلك بالقياسِ على تنصيفِ الحَدِّ عليه، وتنصيفِ طلاقِه كذلك.
القولُ الثاني: أنّ المُدَّةَ في ذلك تتعلَّقُ بالمرأةِ لا بالرجلِ، فإنْ كانتِ المرأةُ أمَةً، فنصفُ مُدَّةِ الإيلاءِ، وإلاَّ فالإيلاءُ كاملٌ ولو كان الزَّوْجُ عبدًا، لأنّ العِدَدَ تتعلَّقُ بالنساءِ، لا بالرجالِ، وبهذا القولِ قال الثَّوْريُّ وأبو حنيفةَ، ومِن السَّلَفِ رُوِيَ عن الشَّعْبيِّ والحَكَمِ.
والأظهَرُ: أنّ الإيلاءَ مُدَّةٌ واحدةٌ لا يختلِفُ الزوجُ الحُرُّ والعبدُ فيها، وذلك لاستوائِهما في مُدَّةِ العُنَّةِ، فإنْ عَجَزَ الزَّوْجُ العبدُ عَنْ جِماعِ زوجتِهِ لِعُنَّةٍ، فيُمهَلُ مِثلَ الحُرِّ، وهذه أشبَهُ بمسألَتِنا مِن قِياسِهِ على الحَدِّ، لأنّ الحدودَ عقوبةٌ، وأصلُ العقوباتِ حَقٌّ للهِ تعالى، والإيلاءُ والعُنَّةُ حَقٌّ للزوجةِ.
واللهُ يُسقِطُ مِن حقِّهِ ما يشاءُ، وحُكْمُهُ بين عِبادِهِ في الحقوقِ واحدٌ.
واللهُ عَلَّقَ الحُكْمَ في الإيلاءِ بالرجالِ، كما في قولِه: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ﴾، ولو عَلَّقَ الحُكْمَ بالنساءِ، ورَبَطَهُ بهنَّ، لَوَجَّهَ الخطابَ إليهنَّ، كما في قولِهِ: ﴿واللاََّّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ﴾ [الطلاق: ٤]، وغيرِ ذلك مِن صِيَغِ خطابِ النساءِ في القرآنِ، وتعليقُ أبي حنيفةَ الحُكْمَ بالنساءِ، ثُمَّ قياسُهُ على عِدَّتِهِنَّ: فيه نظرٌ.
والإيلاءُ يتحقَّقُ بالحَلِفِ باللهِ بالإجماعِ، وإنّما الخِلافُ فيمَن حلَفَ بغيرِ اللهِ ألاَّ يَقْرَبَ زوجتَهُ، فهل يُعدُّ مُؤْلِيًا أو لا؟ هما قولانِ للفقهاءِ:
ذهَبَ الجمهورُ: إلى أنّه إيلاءٌ بأيِّ شيءٍ حَلَفَ.
وقال أحمدُ في روايةٍ: إنّ الإيلاءَ لا يكونُ إلاَّ بالحَلِفِ باللهِ.
ومَن ترَكَ جماعَ زوجتِهِ بلا يمينٍ، فلا يُعَدُّ مُؤْلِيًا عندَ الجمهورِ، وهو قولُ الشافعيَّةِ وجمهورِ الفقهاءِ مِن الحنابِلةِ والمالكِيَّةِ.
وثَمَّةَ قولٌ لمالكٍ، وهو قولٌ في مذهبِ الحنابلةِ: أنّه مُؤْلٍ، ولو لم يَحلِفْ.
وقولُه تعالى: ﴿مِن نِسائِهِمْ﴾ لا خلافَ عندَ الفقهاءِ: أنّ المرادَ بالنساءِ الأزواجُ، وليس الإماءَ، وأمّا الأَمَةُ، فحقُّها على سيِّدها مؤنتُها لا جِماعُها.
وقوله تعالى: ﴿فَإنْ فاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾:
الفَيْءُ: الرجوعُ، ومِن ذلك قولُهُ تعالى: ﴿حَتّى تَفِيءَ إلى أمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات: ٩]، والفيءُ يكونُ بما يخالِفُ معنى الإيلاءِ وينقُضُهُ، وهو الجماعُ، قال بذلك ابنُ عبّاسٍ ومسروقٌ وابنُ المسيَّبِ والشَّعْبيُّ وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ.
الرجوعُ بعد الإيلاءِ، وكيف يتحقَّقُ:
ولا خِلافَ عندَ العلماءِ: أنّ الفيءَ في الآيةِ ينصرِفُ إلى الجماعِ، حكى الإجماعَ غيرُ واحدٍ، كابنِ عبدِ البَرِّ[[«الاستذكار» (١٧/١٠١).]]، وإنّما اختلَفُوا فيما يقومُ مقامَهُ.
وقد قيَّد بعضُهم ذلك بالقُدْرةِ على الجِماعِ وانتفاءِ العُذْرِ، ولكنَّ المحبوسَ والعاجِزَ بمرضٍ يطولُ يكفِيهِ الإشهادُ، وبهذا قال جماعةٌ مِن السلفِ، كابنِ المسيَّبِ، وهو قولُ أحمدَ وأبي ثَوْرٍ.
قال ابنُ شهابٍ: «حَدَّثَنِي سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ: أنَّهُ إذا آلى الرَّجُلُ مِنِ امْرَأَتِهِ، قالَ: فَإنْ كانَ بِهِ مَرَضٌ ولا يَسْتَطِيعُ أنْ يَمَسَّها، أوْ كانَ مُسافِرًا فَحُبِسَ، قالَ: فَإذا فاءَ، وكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، فَأَشْهَدَ عَلى فَيْئِهِ قَبْلَ أنْ تَمْضِيَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ، فَلا نَراهُ إلاَّ قَدْ صَلَحَ لَهُ أنْ يُمْسِكَ امْرَأَتَهُ، ولَمْ يَذْهَبْ مِن طَلاقِها شَيْءٌ»[[«تفسير الطبري» (٤/٥٧).]].
ومِن السَّلَفِ: مَن جعَلَ الفيءَ بالجماعِ، ويُغنِي عنه التصريحُ باللسانِ ولو لم يجامِعْ لعذرٍ، ولو كان عُذْرُهُ يسيرًا، كسَفَرٍ أو مَرَضٍ، أو عدَمِ حاجةٍ، أو لعذرِ المرأةِ بحيضٍ أو نفاسٍ، قال بهذا أصحابُ ابنِ مسعودٍ، كعَلْقَمةَ والأسودِ وغيرِهِما، وكذلك عِكْرِمةُ والحسَنُ والنَّخَعيُّ وأبو وائلٍ والزُّهْريُّ.
ورأى بعضُ السلفِ: الإشهادَ على ذلك، حتّى لا يُؤخَذَ بإيلائِهِ الأوَّلِ، فتَظُنَّ زوجتُهُ ويظنَّ الناسُ أنّه على يمينِهِ، فتطلَّقَ منه، قال بالإشهادِ علقمةُ وابنُ المُسيَّبِ والحسنُ وعِكْرِمةُ والنَّخَعيُّ.
ومِن هؤلاءِ المفسِّرينَ: مَن جعَلَ اللسانَ كافيًا في الرَّجْعةِ ولو كان قادرًا على الجماعِ.
والأظهرُ: أنّ الفيءَ لا يكونُ إلاَّ بجماعٍ، لأنّ اللهَ ذكَرَ الفيءَ وهو الرجوعُ، والرجوعُ يكونُ إلى ما ذهَبَ عنه الحالِفُ، وهو الجِماعُ، ويُستثنى مِن ذلك: مَن كان معذورًا، لأنّ اللهَ لا يكلِّفُ نفسًا إلاَّ وُسْعَها، ثُمَّ إنّ المَقصِدَ هو عدَمُ الإضرارِ بالزوجةِ، وعدمُ العَنَتِ على الرَّجُلِ، ولذلك فإنّ عدَمَ عُذْرِ المحبوسِ والمريضِ مرضًا طويلًا أطولَ مِن مُدَّةِ الإيلاءِ: لا يستقيمُ على قواعدِ الشرعِ.
ثُمَّ إنّ الأمرَ بالفيءِ لحقِّ الغيرِ، وهي الزوجةُ، وحقُّها لا يتحقَّقُ إلاَّ بالجِماعِ، لا بمجرَّدِ الفيئةِ باللسانِ.
ومَن عزَمَ الفيءَ والرجوعَ عَن يمينِهِ في آخِرِ المُدَّةِ، فوجَدَ زوجتَهُ حائِضًا أو نُفَساءَ، وانتِظارُها يُخرِجُها مِن مُدَّةِ الإيلاءِ، فيَكفِيهِ الفيءُ باللسانِ، والإشهادُ على ذلك، لأنّه أرادَ الرجوعَ، ومنَعَهُ الشارعُ، فجماعُ الحائِضِ والنُّفَساءِ لا يجوزُ، فهو فاءَ لأمرِ اللهِ، وامتنَعَ لأمرِه.
ومِثلُ ذلك: مَن أرادَ الرجوعَ قبلَ نهايةِ مُدَّةِ الإيلاءِ، فامتَنعَتْ منه زوجتُهُ أو احتَجَبَتْ واختفَتْ عنه، فرجوعُهُ صحيحٌ، لأنّ مُدَّةَ الإيلاءِ لرفعِ الحَرَجِ عنها، وهي أسقَطَتْ حقَّها بذلك.
وأمّا مَن توسَّعَ في معنى الإيلاءِ مِن السلفِ، فجعَلَ كُلَّ يمينٍ يهجُرُ الرجلُ بها مِن زوجتِهِ شيئًا، فهو إيلاءٌ، كتَرْكِ كلامِها، أو الأكلِ معَها، فهؤلاءِ توسَّعوا فيما يتحقَّقُ به الرجوعُ، تبعًا لتوسُّعِهم فيما يكونُ الإيلاءُ.
وقولُه تعالى: ﴿فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾:
إنْ رجَعَ الزَّوْجُ إلى جماعِ زوجتِهِ بعدَ إيلائِهِ ألاَّ يَقْرَبَها، فاللهُ غفورٌ رحيمٌ، إشارةً إلى ذنبِهِ، فاللهُ يذكُرُ المَغفِرةَ عندَ المخالَفةِ، لبيانِ الذنبِ، وهذا دليلٌ على إثمِ المُؤلِي بقصدِ الإضرارِ لمجرَّدِ قصدِهِ، والوفاءُ بذلك محرَّمٌ، واللهُ يعفُو عمَّنْ ترَكَ يمينَهُ وعَمِلَ بحُكْمِ اللهِ في تركِ الإيلاءِ.
كفارةُ الإيلاءِ:
وقِيلَ: معنى ذلك: لا كفّارةَ عليكُم، وعفا اللهُ عن خَطَئِكُمْ في حقِّ أنفُسِكُمْ وأزواجِكُمْ، وكفارةُ الإيلاءِ هو رجوعُكُمْ عنه إلى أزواجِكُمْ والعدلُ مَعَهُنَّ، فكان معنى المَغْفِرةِ محوَ الذَّنْبِ بمجرَّدِ العودةِ، والرَّحْمةَ بكُم بعدَمِ إلزامِكُمْ بالوفاءِ بمُدَّةِ الإيلاءِ ولا تكليفِكُمْ على ذلك كَفّارةً، وقال بهذا الحَسَنُ والنَّخَعيُّ.
ويقولُ بهذا القولِ كلُّ مَن قال: «لا كَفّارَةَ على كلِّ يمينٍ في البقاءِ عليها حَرَجٌ».
وأكثرُ المفسِّرينَ: على وجوبِ الكفّارةِ، وحَمَلُوا المعنى في ذكرِ اسمِ الغفورِ والرحيمِ في الآيةِ: على عَدَمِ الإلزامِ بالوفاءِ باليمينِ، رحمةً بالزوجةِ والزوجِ، وعدَمِ مُؤاخَذةِ اللهِ لعبادِهِ بما كسَبُوهُ مِن التعدِّي على ما لا يَرْضاه مِن الزوجِ بزوجتِهِ.
وهذا هو الأقرَبُ للصوابِ، صحَّ عن ابنِ عبّاسٍ، وابنِ المسيِّبِ، والنَّخَعيِّ، وقتادةَ، وهو قولُ الشافعيِّ في الجديد.
وهو الذي يَجرِي على القاعدةِ في الأَيْمانِ، أنّ الأصلَ في كلِّ يمينٍ يَحْنَثُ صاحبُها بها تَجِبُ فيها الكَفّارةُ إلاَّ ما استَثْناهُ الدليلُ مِن وجهٍ صحيحٍ صريحٍ.
مضِيُّ أربعةِ أشهرٍ على الإيلاء:
وقولُه تعالى: ﴿وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾:
إنْ مضَتْ أربعةُ أشهرٍ، ولم يَرجِعِ الزوجُ إلى زوجتِهِ، سواءٌ كان إيلاؤُهُ أربعةَ أشهرٍ أو أكثرَ مِن ذلك، فيُوقَفُ ويُؤمَرُ بالرجوعِ إلى زوجتِهِ أو تطليقِها، وهذا ظاهرُ الآيةِ، وبهذا قال أكثرُ الفقهاءِ مِن السلفِ والخلفِ، وقال به مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ.
ومِن الفقهاءِ: مَن جعَلَ انقضاءَ الأربعةِ الأشهرِ التي عليها الإيلاءُ كافيةً بنفسِها في كونِها طلاقًا لامرأتِهِ منه، فهي تقومُ مقامَ الطلاقِ، ولا يَملِكُ الزوجُ بعدَ هذه المُدَّةِ زمنًا يَبقى له فيه حقُّ الطلاقِ، وبهذا القولِ قال أبو حنيفةَ.
وذلك أنّ أبا حنيفةَ يَرى أنّ المُؤْلِيَ على امرأتِهِ لا يكونُ مؤليًا إلاَّ إذا حَلَفَ ألاَّ يَقْرَبَها مُدَّةَ أربعةِ أشهُرٍ فأكثَرَ، وما دونَ ذلك لا يَعُدُّهُ إيلاءً، لأنّه لو عَدَّهُ إيلاءً، لَلَزِمَ على قولِه أنْ تطلُقَ منه امرأتُهُ عندَ نهايةِ الإيلاءِ ولو كان يومًا، لأنّه يَجْعَلُ نهايةَ الأجلِ طلاقًا.
والصوابُ: القولُ الأوَّلُ، فاللهُ ذكَرَ الفيءَ والطلاقَ بعدَ تربُّصِ الأربعةِ الأشهُرِ، ممّا يدلُّ على أنّ الزوجةَ لا تطلُقُ بمجرَّدِ انقضاءِ الأجلِ، حيثُ ذكَرَ الحُكْمَيْنِ معًا، أيْ: يُوقَفُ الزوجُ ويخيَّرُ بينَ الفيءِ والطلاقِ بعدَ الأجلِ.
وجَعْلُ الخيارِ له بعدَ الأَجَلِ ظاهرٌ في عدمِ بَيْنُونةِ زوجتِهِ منه بعدَ الأربعةِ الأشهُرِ.
واللهُ قد بَيَّنَ الطلاقَ في كتابِهِ وفي سُنَّةِ نبيِّهِ ﷺ، وليس فيهما شيءٌ يدلُّ على أنّ الطلاقَ يكونُ بغيرِ ألفاظِهِ، ولا أنّ انقضاءَ مُدَّةٍ بعينِها بلا نِيَّةٍ ولا لفظٍ يكونُ طلاقًا في ذاتِه.
وهذا لا يَجْعَلُ الزوجَ مخيَّرًا بتركِ زوجتِهِ مُدَّةَ أربعةِ أشهرٍ بالإيلاءِ، وهو عازمٌ على طلاقِها بعدَ هذه الأشهُرِ بلا تردُّدٍ، فيريدُ بالإيلاءِ مزيدَ إضرارٍ يَسبِقُ الطلاقَ ليطولَ أمَدُ بقائِها بلا زوجٍ بعدَهُ، فهذا عَضْلٌ محرَّمٌ في صورةِ إيلاءٍ، لأنّ اللَّهَ قال: ﴿وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ﴾، أيْ: بعدَ الأربعةِ الأشهُرِ، لا قبلَها، فالطلاقُ لم يكن عليه العَزْمُ إلاَّ بعد انقضاءِ الأجَلِ.
والفاءُ في قولِه: ﴿فَإنْ فاءُوا﴾، وعطفُ عزمِ الطلاقِ على الفيءِ في قولِه: ﴿وإنْ عَزَمُوا﴾: دليلٌ على عدمِ تبييتِ عزمِ الطلاقِ قبلُ، وعطفُ عزمِ الطلاقِ والفيءِ، لكونِهما في زمنٍ واحدٍ بعدَ الأجلِ، ويخيَّرُ بينَهما الزوجُ، والفاءُ جوابٌ للشرطِ وما هو في معنى الشرطِ.
{"ayahs_start":226,"ayahs":["لِّلَّذِینَ یُؤۡلُونَ مِن نِّسَاۤىِٕهِمۡ تَرَبُّصُ أَرۡبَعَةِ أَشۡهُرࣲۖ فَإِن فَاۤءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ","وَإِنۡ عَزَمُوا۟ ٱلطَّلَـٰقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ"],"ayah":"لِّلَّذِینَ یُؤۡلُونَ مِن نِّسَاۤىِٕهِمۡ تَرَبُّصُ أَرۡبَعَةِ أَشۡهُرࣲۖ فَإِن فَاۤءُو فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق