الباحث القرآني

﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ﴾، قالَ ابْنُ المُسَيَّبِ: كانَ الإيلاءُ ضِرارَ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ، كانَ الرَّجُلُ لا يَتْرُكُ المَرْأةَ، ولا يُحِبُّ أنْ يَتَزَوَّجَها غَيْرُهُ فَيَحْلِفُ أنْ لا يَقْرَبَها، فَيَتْرُكَها لا أيِّمًا ولا ذاتَ زَوْجٍ؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ إيلاءُ أهْلِ الجاهِلِيَّةِ السَّنَةَ والسَّنَتَيْنِ وأكْثَرَ، فَوَقَّتَ اللَّهُ ذَلِكَ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها ظاهِرَةٌ؛ لِأنَّهُ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِن أحْكامِ النِّساءِ، وشَيْءٌ مِن أحْكامِ الأيْمانِ، وهَذِهِ الآيَةُ جَمَعَتْ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: ”لِلَّذِينِ آلُوا“ بِلَفْظِ الماضِي. وقَرَأ أُبَيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ: ”لِلَّذِينِ يُقْسِمُونَ“ . والإيلاءُ: كَما تَقَدَّمَ، هو الحَلِفُ، وقَدْ ذَكَرْنا الإيلاءَ مِنَ النِّساءِ كَيْفَ كانَ في الجاهِلِيَّةِ، وأمّا الإيلاءُ الشَّرْعِيُّ بِسَبَبِ وطْءِ النِّساءِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو الحَلِفُ أنْ لا يَطَأها أبَدًا، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، والنَّخَعِيُّ، وقَتادَةُ، والحَكَمُ، وابْنُ أبِي لَيْلى، وحَمّادُ بْنُ سُلَيْمانَ، وإسْحاقُ: هو الحَلِفُ أنْ لا يَقْرَبَها يَوْمًا أوْ أقَلَّ أوْ أكْثَرَ، ثُمَّ لا (p-١٨١)يَطَؤُها أرْبَعَةَ أشْهُرٍ؛ فَتَبِينَ مِنهُ بِالإيلاءِ. وقالَ الثَّوْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ: هو الحَلِفُ أنْ لا يَطَأ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ، وبَعْدَ مُضِيِّها يَسْقُطُ الإيلاءُ، ويَكُونُ الطَّلاقُ، ولا تَسْقُطُ قَبْلَ المُضِيِّ إلّا بِالفَيْءِ، وهو الجِماعُ في داخِلِ المُدَّةِ. وقالَ الجُمْهُورُ: هو الحَلِفُ أنْ لا يَطَأ أكْثَرَ مِن أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، فَإنْ حَلَفَ عَلى أرْبَعَةِ أشْهُرٍ أوْ ما دُونَها؛ فَلَيْسَ بِمُولٍ، وكانَتْ يَمِينًا مَحْضًا، لَوْ وطِئَ في هَذِهِ المُدَّةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَسائِرِ الأيْمانِ، وهَذا قَوْلُ مالِكٍ، والشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ، وأبِي ثَوْرٍ. والظّاهِرُ مِنَ الآيَةِ أنَّ الإيلاءَ هو الحَلِفُ عَلى الِامْتِناعِ مِن وطْءِ امْرَأتِهِ مُطْلَقًا، غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِزَمانٍ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾ شُمُولُ الحُرِّ والعَبْدِ، والسَّكْرانِ والسَّفِيهِ، والمُوَلّى عَلَيْهِ غَيْرُ المَجْنُونِ، والخَصِيُّ غَيْرُ المَجْبُوبِ ومَن يُرْجى مِنهُ الوَطْءُ، وكَذا الأخْرَسِ بِما يُفْهَمُ عَنْهُ مِن كِنايَةٍ أوْ إشارَةٍ. واخْتُلِفَ في المَجْبُوبِ فَقِيلَ: لا يَصِحُّ إيلاؤُهُ، وقِيلَ: يَصِحُّ، وأجَلُ إيلاءِ العَبْدِ كَأجَلِ إيلاءِ الحُرِّ؛ لِانْدِراجِهِ في عُمُومِ قَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾، وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ. وقالَ عَطاءٌ، والزُّهْرِيُّ، ومالِكٌ، وإسْحاقُ: أجَلُهُ شَهْرانِ. وقالَ الحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ: إيلاؤُهُ مِن زَوْجَتِهِ الأمَةِ شَهْرانِ، ومِنَ الحُرَّةِ أرْبَعَةٌ. وقالَ الشَّعْبِيُّ: أجَلُ إيلاءِ الأمَةِ نِصْفُ إيلاءِ الحُرَّةِ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿يُؤْلُونَ﴾ مُطْلَقُ الإيلاءِ، فَيَحْصُلُ، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ قَصَدَ بِهِ إصْلاحَ ولَدٍ رَضِيعٍ، أوْ لَمْ يَقْصِدْ، وسَواءٌ كانَ في مُغاضَبَةٍ ومُسارَّةٍ أوْ لَمْ يَكُنْ، وقالَ عَطاءٌ، ومالِكٌ: إذا كانَ لِإصْلاحِ ولَدٍ رَضِيعٍ فَلَيْسَ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الإيلاءِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وبِهِ قالَ الشّافِعِيُّ في أحَدِ قَوْلَيْهِ، والقَوْلِ الآخَرِ: إنَّهُ لا اعْتِبارَ بِرَضاعٍ، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ. وقالَ عَلِيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وعَطاءٌ، والشَّعْبِيُّ، واللَّيْثُ: شَرْطُهُ أنْ لا يَكُونَ في غَضَبٍ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ سِيرِينَ، والثَّوْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، الإيلاءُ في غَضَبٍ وغَيْرِ غَضَبٍ. قالَ ابْنُ المُنْذِرِ: وهو الأصَحُّ لِعُمُومِ الآيَةِ، ولِإجْماعِهِمْ عَلى أنَّ الظِّهارَ والطَّلاقَ وسائِرَ الأيْمانِ سَواءٌ في الغَضَبِ والرِّضى، وكَذَلِكَ الإيلاءُ. والجُمْهُورُ حَمَلُوا قَوْلَهُ: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسائِهِمْ﴾ عَلى الحَلِفِ عَلى امْتِناعِ الوَطْءِ فَقَطْ. وقالَ الشَّعْبِيُّ، والقاسِمُ، وسالِمٌ، وابْنُ المُسَيَّبِ: هو الحَلِفُ عَلى الِامْتِناعِ مِن أنْ يَطَأها، أوْ لا يُكَلِّمَها، أوْ أنْ يُضارَّها، أوْ يُغاضِبَها، فَهَذا كُلُّهُ عِنْدَ هَؤُلاءِ إيلاءٌ، إلّا أنَّ ابْنَ المُسَيَّبِ قالَ: إذا حَلَفَ لا يُكَلِّمُها وكانَ يَطَؤُها فَلَيْسَ بِإيلاءٍ، وإنَّما تَكُونُ تِلْكَ إيلاءً إذا اقْتَرَنَ بِها الِامْتِناعُ مِنَ الوَطْءِ. وأقْوالُ مَن ذُكِرَ مَعَ ابْنِ المُسَيَّبِ قالُوا ما مُحْتَمَلُهُ ما قالَهُ ابْنُ المُسَيَّبِ، وما يَحْتَمِلُهُ أنَّ فَسادَ العِشْرَةِ إيلاءٌ، وإلى هَذا الِاحْتِمالِ ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ. وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى مَذْهَبِ هَؤُلاءِ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسائِهِمْ﴾ فَلَمْ يَنُصَّ عَلى وطْءٍ ولا غَيْرِهِ. و”مِن“ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ ﴿يُؤْلُونَ﴾، وآلى لا يَتَعَدّى بِمِن، فَقِيلَ ”مِن“ بِمَعْنى ”عَلى“، وقِيلَ: بِمَعْنى ”في“، ويَكُونُ ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: عَلى تَرْكِ وطْءِ نِسائِهِمْ، أوْ في تَرْكِ وطْءِ نِسائِهِمْ. وقِيلَ: مِن زائِدَةٌ، والتَّقْدِيرُ: يُؤْلُونَ أنْ يَعْتَزِلُوا نِساءَهم. وقِيلَ: يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: لِلَّذِينِ يُؤْلُونَ مِن نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ، فَتَتَعَلَّقُ بِما تَتَعَلَّقُ بِهِ ”لَهُمُ“ المَحْذُوفُ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وهَذا كُلُّهُ ضَعِيفٌ يُنَزَّهُ القُرْآنُ عَنْهُ، وإنَّما يَتَعَلَّقُ بِـ ﴿يُؤْلُونَ﴾ عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ: إمّا أنْ يَكُونَ ”مِن“ لِلسَّبَبِ، أيْ: يَحْلِفُونَ بِسَبَبِ نِسائِهِمْ، وإمّا أنْ يُضَمَّنَ الإيلاءُ مَعْنى الِامْتِناعِ، فَيُعَدّى بِمِن، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لِلَّذِينِ يَمْتَنِعُونَ بِالإيلاءِ مِن نِسائِهِمْ، و﴿مِن نِسائِهِمْ﴾ عامٌّ في الزَّوْجاتِ مِن حُرَّةٍ وأمَةٍ وكِتابِيَّةٍ ومَدْخُولٍ بِها وغَيْرِها. وقالَ عَطاءٌ، والزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ: لا إيلاءَ إلّا بَعْدَ الدُّخُولِ. وقالَ مالِكٌ، لا إيلاءَ مِن صَغِيرَةٍ لَمْ تَبْلُغْ، فَإنْ آلى مِنها فَبَلَغَتْ لَزِمَ الإيلاءُ مِن يَوْمِ بُلُوغِها. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ”لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ“، عُمُومُ الإيلاءِ بِأيِّ يَمِينٍ كانَتْ، قالَ الشّافِعِيُّ في (الجَدِيدِ): لا يَقَعُ الإيلاءُ إلّا بِالحَلِفِ بِاللَّهِ وحْدَهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كُلُّ يَمِينٍ مَنَعَتْ جِماعًا فَهي إيلاءٌ، وبِهِ قالَ النَّخَعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأهْلُ العِراقِ، ومالِكٌ، وأهْلُ الحِجازِ، وأبُو ثَوْرٍ، وأبُو عُبَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والقاضِي (p-١٨٢)أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ، والشّافِعِيُّ في القَوْلِ الأخِيرِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: إذا قالَ: أُقْسِمُ بِاللَّهِ، فَهي يَمِينٌ مُطْلَقًا ولا يَكُونُ بِها مُولِيًا، وإنْ قالَ: وإنْ وطِئْتُكِ فَعَلَيَّ صِيامُ شَهْرٍ أوْ سَنَةٍ فَهو مُولٍ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: إنْ كانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ يَمْضِي قَبْلَ الأرْبَعَةِ الأشْهُرِ فَلَيْسَ بِمُولٍ، وكَذَلِكَ كُلُّ ما يَلْزَمُهُ مِن حَجٍّ أوْ طَلاقٍ أوْ عِتْقٍ أوْ صَلاةٍ أوْ صَدَقَةٍ. وخالَفَ أبُو حَنِيفَةَ فِيما إذا قالَ: إنْ وطِئْتُكِ فَعَلَيَّ أنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أنَّهُ لا يَكُونُ مُولِيًا. وقالَ مُحَمَّدٌ: يَكُونُ مُولِيًا. وذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ هُنا فُرُوعًا كَثِيرَةً في الإيلاءِ، وإنَّما نَذْكُرُ نَحْنُ ما لَهُ بَعْضُ تَعَلُّقٍ بِالقُرْآنِ عَلى عادَتِنا، ولَيْسَ التَّفْسِيرُ مَوْضُوعًا لِاسْتِقْراءِ جُزْئِيّاتِ الفُرُوعِ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾، حُصُولُ اليَمِينِ مِنهم، سَواءٌ حَلَفَ أنْ لا يَطَأ في مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ أوْ مُطْلَقًا، وبِهِ قالَ ابْنُ أبِي لَيْلى، وإسْحاقُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأصْحابُهم، والأوْزاعِيُّ، وأحْمَدُ: لا يَكُونُ مُولِيًا مَن حَلَفَ أنْ لا يَطَأ زَوْجَتَهُ في هَذا البَيْتِ أوْ في هَذِهِ الدّارِ، فَإنْ حَلَفَ أنْ لا يَطَأها في مِصْرِهِ أوْ بَلَدِهِ فَهو مُولٍ عِنْدَ مالِكٍ. ولا يَدْخُلُ الذِّمِّيُّ في قَوْلِهِ: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ﴾؛ لِقَوْلِهِ: ﴿فَإنْ فاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، وبِهِ قالَ مالِكٌ، كَما لا يَصِحُّ ظِهارٌ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: إنْ حَلَفَ بِاسْمٍ مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى، أوْ بِصِفَةٍ مِن صِفاتِهِ، أوْ حَلَفَ بِما يَصِحُّ مِنهُ كالطَّلاقِ، فَهو مُولٍ؛ ولَوِ اسْتَثْنى المُولِي في يَمِينِهِ فالجُمْهُورُ عَلى أنَّهُ لا يَكُونُ مُولِيًا كَسائِرِ الأيْمانِ المَقْرُونَةِ بِالِاسْتِثْناءِ. وقالَ ابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ: يَكُونُ مُولِيًا، لَكِنَّهُ لَوْ وطِئَ فَلا كَفّارَةَ عَلَيْهِ، وقالَهُ ابْنُ الماجِشُونِ في (المَبْسُوطِ) عَنْ مالِكٍ: لا يَكُونُ مُولِيًا. ﴿تَرَبُّصُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ﴾، هَذا مِن بابِ إضافَةِ المَصْدَرِ إلى ما هو ظَرْفُ زَمانٍ في الأصْلِ، لَكِنَّهُ اتُّسِعَ فِيهِ فَصُيِّرَ مَفْعُولًا بِهِ؛ ولِذَلِكَ صَحَّتِ الإضافَةُ إلَيْهِ، وكانَ الأصْلُ: تَرَبُّصُهم أرْبَعَةَ أشْهُرٍ، ولَيْسَتِ الإضافَةُ إلى الظَّرْفِ مِن غَيْرِ اتِّساعٍ، فَتَكُونُ الإضافَةُ عَلى تَقْدِيرِ ”في“ خِلافًا لِمَن ذَهَبَ إلى ذَلِكَ. وظاهِرُ هَذا أنَّ ابْتِداءَ أجَلِ الإيلاءِ مِن وقْتِ حَلَفَ لا مِن وقْتِ المُخاصَمَةِ والرَّفْعِ إلى الحاكِمِ، قِيلَ: وحُكْمُهُ ضَرْبُ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ؛ لِأنَّهُ غالِبُ ما تَصْبِرُ المَرْأةُ فِيها عَنِ الزَّوْجِ، وقِصَّةُ عُمَرَ مَشْهُورَةٌ في سَماعِ المَرْأةِ تُنْشِدُ بِاللَّيْلِ: ؎ألا طالَ هَذا اللَّيْلُ واسْوَدَّ جانِبُهْ وأرَّقَنِي أنْ لا حَبِيبَ أُلاعِبُهْ وسُؤالُهُ: كَمْ تَصْبِرُ المَرْأةُ عَنْ زَوْجِها ؟ فَقِيلَ لَهُ: لا تَصْبِرُ أكْثَرَ مِن أرْبَعَةِ أشْهُرٍ؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ أمَدًا لِكُلِّ سَرِيَّةٍ يَبْعَثُها. ﴿فَإنْ فاءُوا﴾، أيْ: رَجَعُوا بِالوَطْءِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والجُمْهُورُ، ويَكْفِي مِن ذَلِكَ عِنْدَ الجُمْهُورِ مَغِيبُ الحَشَفَةِ لِلْقادِرِ، فَإنْ كانَ لَهُ عُذْرٌ أوْ مَرَضٌ أوْ سَجْنٌ أوْ شِبْهُ ذَلِكَ، فارْتِجاعُهُ صَحِيحٌ، وهي امْرَأتُهُ، وإنْ زالَ عُذْرُهُ فَأبى الوَطْءَ فُرِّقَ بَيْنَهُما إنْ كانَتِ المُدَّةُ قَدِ انْقَضَتْ، قالَهُ مالِكٌ في (المُدَوَّنَةِ) و(المَبْسُوطِ) . وقالَ الحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ، وعِكْرِمَةُ، والأوْزاعِيُّ: يُجْزِي المَعْذُورَ أنْ يُشْهِدَ عَلى فَيْأتِهِ بِقَلْبِهِ، وقالَ النَّخَعِيُّ أيْضًا: يَصِحُّ الفَيْءُ بِالقَوْلِ والإشْهادِ فَقَطْ، ويَسْقُطُ حُكْمُ الإيلاءِ إذا رَأيْتَ أنْ لَمْ يَنْتَشِرْ، وقِيلَ: الفَيْءُ هو الرِّضى، وقِيلَ: الرُّجُوعُ بِاللِّسانِ بِكُلِّ حالٍ، قالَهُ أبُو قِلابَةَ، وإبْراهِيمُ، ومَن قالَ إنَّ المُولِيَ هو الحالِفُ عَلى مَساءَةِ زَوْجَتِهِ. وقالَ أحْمَدُ: إذا كانَ لَهُ عُذْرٌ يَفِيءُ بِقَلْبِهِ، وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وابْنُ المُسَيَّبِ، وطائِفَةٌ: الفَيْءُ لا يَكُونُ إلّا بِالجِماعِ في حالِ القُدْرَةِ وغَيْرِها مِن سَجْنٍ أوْ سَفَرٍ أوْ مَرَضٍ وغَيْرِهِ. وأمالَ ﴿فاءُوا﴾ جَرْيَةُ بْنُ عائِذٍ لِقَوْلِهِ ”فِئْتُ“، وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: ”فَإنْ فاءُوا فِيهِنَّ“، وقَرَأ أُبَيٌّ: ”فَإنْ فاءُوا فِيها“، ورُوِيَ عَنْهُ: ”فِيهِنَّ“ كَقِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ. والضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى الأشْهُرِ، ويُؤَيِّدُ هَذِهِ القِراءَةَ مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ بِأنَّ الفَيْئَةَ لا تَكُونُ إلّا في الأشْهُرِ، وإنْ لَمْ يَفِئْ فِيها دَخَلَ عَلَيْهِ الطَّلاقُ مِن غَيْرِ أنْ يُوقَفَ بَعْدَ مُضِيِّ الأرْبَعَةِ الأشْهُرِ، وإلى هَذا ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعُثْمانُ بْنُ عَفّانَ، وعَلِيٌّ، وزَيْدُ بْنُ ثابِتٍ، وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ والحَسَنُ، ومَسْرُوقٌ. وقالَ عُمَرُ، وعُثْمانُ، وعَلِيٌّ أيْضًا، وأبُو الدَّرْداءِ، وابْنُ عُمَرَ، وابْنُ عامِرٍ، والمُسَيَّبُ، ومُجاهِدٌ، وطاوُسٌ، ومالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وأبُو (p-١٨٣)عُبَيْدٍ: إذا انْقَضَتِ الأرْبَعَةُ الأشْهُرِ وُقِفَ، فَإمّا فاءَ وإلّا طُلِّقَ عَلَيْهِ. والقِراءَةُ المُتَواتِرَةُ: فَإنْ فاءُوا بِغَيْرِهِنَّ، ولا فِيها، فاحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: فَإنْ فاءُوا في الأشْهُرِ، واحْتُمِلَ أنْ يَكُونَ: فَإنْ فاءُوا بَعْدَ انْقِضائِها. ﴿فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، اسْتَدَلَّ بِهَذا مَن قالَ: إنَّهُ إذا فاءَ المُولِي ووَطِئَ فَلا كَفّارَةَ عَلَيْهِ في يَمِينِهِ، وإلى هَذا ذَهَبَ الحَسَنُ، وإبْراهِيمُ. وذَهَبَ الجُمْهُورُ: مالِكٌ، وأبُو حَنِيفَةَ، والشّافِعِيُّ، وأصْحابُهم إلى إيجابِ كَفّارَةِ اليَمِينِ عَلى المُولِي بِجِماعِ امْرَأتِهِ، فَيَكُونُ الغُفْرانُ هُنا إشْعارًا بِإسْقاطِ الإثْمِ بِفِعْلِ الكَفّارَةِ، وهو قَوْلُ عَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ المُسَيَّبِ: إنَّهُ غُفْرانُ الإثْمِ، وعَلَيْهِ كَفّارَةٌ. وعَلى المَذْهَبِ الَّذِي قَبْلَهُ يَكُونُ بِإسْقاطِ الكَفّارَةِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: ولا كَفّارَةَ عَلى العاجِزِ عَنِ الوَطْءِ إذا فاءَ، وقالَ إسْحاقُ: قالَ بَعْضُ أهْلِ التَّأْوِيلِ فِيمَن حَلَفَ عَلى بِرٍّ وتَقْوى، أوْ بابٍ مِن أبْوابِ الخَيْرِ أنْ لا يَفْعَلَهُ أنَّهُ يَفْعَلُهُ، ولا كَفّارَةَ عَلَيْهِ، والحُجَّةُ لَهُ، ﴿فَإنْ فاءُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، ولَمْ يَذْكُرْ كَفّارَةً. وقِيلَ: مَعْنى ذَلِكَ غَفُورٌ لِمَآثِمِ اليَمِينِ، رَحِيمٌ في تَرْخِيصِ المُخْرَجِ مِنها بِالتَّكْفِيرِ، قالَهُ ابْنُ زِيادٍ، وهو راجِعٌ لِلْقَوْلِ الثّانِي، وقِيلَ: مَعْنى رَحِيمٌ حَيْثُ نَظَرَ لِلْمَرْأةِ أنْ لا يَضُرَّ بِها زَوْجُها؛ فَيَكُونُ وصْفُ الغُفْرانِ بِالنِّسْبَةِ إلى الزَّوْجِ، وصِفَةُ الرَّحْمَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى الزَّوْجَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب