الباحث القرآني

وقوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ﴾ الآية، الابتلاء: الاختبار والامتحان، وابتلاء الله تعالى يعود إلى إعلامه عباده لا إلى استعلامه؛ لأنه يعلم ما يكون، فلا يحتاج إلى ابتلاءٍ ليَعْلَم [[ينظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة 1/ 54، "تفسير الطبري" 1/ 524، "المفردات" للراغب ص 71 - 72، "تفسير البغوي" 1/ 145.]]. وقوله تعالى: ﴿بِكَلِمَاتٍ﴾ الكلبي، عن أبي صالح [[هو: باذان، ويقال: باذام، أبو صالح مولى أم هانىء، تقدمت ترجمته.]]، عن ابن عباس، قال: الكلمات التي ابتلى الله عز وجل إبراهيمَ بها عشر خصال من السُّنة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فاللاتي في الرأس: المضمضة والاستنشاق والفرق والسواك وقص الشارب، والتي في الجسد: تقليم الأظفار وحلق العانة والختان والاستنجاء ونتف الرفغين [[هذا الإسناد ضعيف لا تقوم به حجة، لكن ورد هذا عن ابن عباس بإسناد صحيح عند عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 57 عن معمر عن ابن طاوس، عن ابن عباس، ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 524، ابن أبي حاتم == 1/ 359، والحاكم 2/ 266 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. والبيهقي في "السنن الكبرى" 1/ 149، وذكره الثعلبي 1/ 1154، ولفظ الرُّفْغَين عند الفراء في "معاني القرآن" 1/ 76 والرُّفْغ: كل موضع اجتمع فيه الوسخُ، والمراد به الإبط. ينظر: "المصباح المنير" ص 233.]]. وهذا أصح ما قيل في تفسير الكلمات، وعلى هذا أكثر أهل العلم [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 204، وقال ابن أبي حاتم 1/ 219: روي عن أبي صالح وأبي الجلد ومجاهد وسعيد بن المسيب والنخعي والشعبي نحو ذلك.]]. وقال ابن عباس في رواية عطاء: أوحى الله إلى إبراهيم: يا خليلي، تطهّرْ، فتمضمض، فأوحى الله إليه أن تطهرْ، فاستنشقَ، فأوحى إليه أن تطهر، فاستاك، فأوحى إليه أن تطهر، فأخذ شاربه، فأوحى [[في (ش): (فأوحى الله).]] إليه أن تطهر، فَفَرَقَ شعره، فأوحى إليه أن تطهر، فاستنجى، فأوحى إليه أن تطهرَ، فحلق عانته، فأوحى إليه أن تطهر، فنتف إبطيه، فأوحى إليه أن تطهر، فقلم أظفاره، فأوحى إليه أن تطهر، فأقبل بوجهه على جسده ينظر ماذا يصنع فاختتن بعد عشرين ومائة سنة [[هو بمعنى ما سبق، ولكن فيه تفصيل.]]. وقال بعض المتأولين: المراد بالكلمات في هذه الآية: انقياده لأشياء امتحن بها، وأخذت عليه، منها: الكوكب والشمس والقمر والهجرة والختان وعزمه على ذبح ابنه [[أورد هذا المعنى عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 75، الطبري في "تفسيره" 1/ 527، وابن أبي حاتم 1/ 221 (1170)، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1155 كلهم عن الحسن.]] [[ذكره الطبري في "تفسيره" 1/ 527 - 528 الأقوال في المسألة ثم بين أن الصواب:== أنه لا يجزم بشيء مما ذكر على أنه المراد بالكلمات إلا بحجة يجب التسليم بها، ورجح ابن كثير في "تفسيره" 1/ 177 عموم الكلمات لكل ما ذكر في أقوال المفسرين، وذكر في "البحر المحيط" 1/ 375 ثلاثة عشر قولًا ثم قال: وهذه الأقوال ينبغي أن تحمل على أن كل قائل منها ذكر طائفة مما أبتلى الله به إبراهيم إذ كلها ابتلاه الله بها، ولا يحمل ذلك على الحصر في العدد ولا على التعيين، لئلا يؤدي ذلك إلى التناقض.]]، والمعنى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بإقامة كلمات، أو بتوفية كلمات، والتقدير: ذوي كلمات: أي: يعبر بها عن هذه المسميات، ويجوز أن يكون الكلم المتكلم به، كما أن الصيد هو المصيد، والنسج المنسوج [[في (ش): (النسخ والمنسوخ)، وفي (م): (النسخ للمنسوخ).]]، ومثلُ هذا مما حمل الكلمات فيه على الشرع قولُه تعالى: ﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ﴾ [التحريم: 12]، فالكلمات تكون الشرائع التي شرع لها دون القول؛ لأن ذلك قد استغرقه قوله تعالى: ﴿وَكُتُبِهِ﴾ وكان المعنى: صدقت بالشرائع فأخذت بها، وصدقت الكتب فلم تكذب بها [[ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 87، و"تفسير ابن كثير" 1/ 176.]]. وقوله تعالى: ﴿فَأَتَمَّهُنَّ﴾ معناه: أدَّاهُنَّ تامّاتٍ غيَر ناقصات [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 528، و"تفسير غريب القرآن" لابن قتيبة ص 62، "تفسير الثعلبي" 1/ 1157.]]، وقيل: إنه مِنْ فعلِ الله تعالى، أي: قضاها الله له [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 204.]]. وقوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾. قال ابن عباس: أوحى الله إليه إني جاعلك للناس إمامًا يقتدي بك الصالحون من بعدك [[ذكره في "الوسيط" 1/ 203 لعله من رواية عطاء التي تقدم الحديث عنها في== القسم الدراسي وقد روى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 222 عن أبي العالية، أنه قال: فجعله الله إمامًا، يؤتم ويقتدى به، ثم قال: وروي عن الحسن وعطاء الخراساني ومقاتل ابن حيان وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك.]]. والأَمُّ في اللغة: القصد، والإمامُ: كلُّ مَنِ ائتم به قومٌ، كانوا على الصراط المستقيم [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 205.]]، أو كانوا ضالّين. والنبي إمامُ أمتهِ، والخليفةُ إمام رعيتهِ، والقرآنُ إمامُ المسلمين، على معنى أنهم ينتهون إليه فيما أمر وزجر. والإمام: الذي يؤتَمُّ به، فيفعل أهله وأمته كما يفعل، أي: يقصدون لما يقصد. هذا أصله [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 205، وينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 206 (مادة: أمَ).]]. ثم يجعل الكتابُ إمامًا يؤتم بما فيه، قال الله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء: 71] أي: بكتابهم الذي جعلت فيه أعمالهم في الدنيا، وقال: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 12] يعنى: كتابًا، أو اللوح المحفوظ. وقد يجعل الطريقُ إمامًا؛ لأنَّ المسافر يأتمُّ به ويستدلُّ، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ﴾ [الحجر: 79]، أي: بطريقٍ واضح. ويقالُ للخيط الذي يُقَدَّرُ به البناء: الإمام؛ لأنه يقتدى به، ويُقْصَدُ قَصْدُه. وإمام الغلام في المكتب: ما يتعلمه كل يوم، لأنه يتبعه، ويقصده بالتعلم، ولا يعدو ما فيه [[ينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 206، و"المفردات" للراغب الأصفهاني ص 33 - 34.]]. فقال إبراهيم: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ أي: ومن أولادي أيضًا فاجعل أئمةً يُقْتدَى بهم [["تفسير الثعلبي" 1/ 1157.]]. فأمَا تفسيرُ الذرية، فقال الليث: الذر: عدد الذرية، تقول [[في (أ)، (م): (يقول).]]: نَمَى [[في (ش): (تمنى).]] الله ذَرْأَكَ وذَرْوَكَ: أي: ذريتك. والذريةُ: تقع على الآباء والأبناء والأولاد والنساء، قال الله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [يس: 41] أراد: آباءهم الذين حُمِلوا مع نوح في السفينة [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1274 (مادة: ذرأ).]]، وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ﴾ إلى قوله: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران:33 - 34]، فدخل فيها الآباء والأبناء [["تهذيب اللغة" 2/ 1274 (مادة: ذرأ).]]. وتكون [[في (ش): (ويكون).]] الذرية واحدًا وجمعًا، فممَّا جاء فيه ذرية يراد به الواحدِ قوله: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ [آل عمران: 38]، فهذا مثل قوله: ﴿فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا﴾ [مريم: 5]. ألا ترى أنه قال: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى﴾ [آل عمران: 39]. ومما جاء فيه جمعًا قوله: ﴿وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [الأعراف: 173]، وهو كثير. وأما أصل الذُّرِّيةِ ومأخذُها، فقال أبو إسحاق النحوي: فيها قولان: قال بعضهم: هي فُعْليَّةٌ، من الذَرَ؛ لأنَ الله تعالى أخرجَ الخلق من صُلْبِ آدم كالذَّرِّ، حين أشهَدَهُم على أنفسِهم [[لم يذكر أبو إسحاق شيئا من ذلك في هذه الآية، لكنه أشار إلى العلة في آية الأعراف: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾. فقال في "معاني القرآن" 2/ 390: قال بعضهم: خلق الله الناس كالذر من صلب آدم وأشهدهم على توحيده.]]. قال: وقال بعضُ النحويين: أصلها ذرُّورَةٌ، على وزن فعلولة، ولكنَّ التضعيَف لمَّا كَثُرَ أُبْدِلَ من الراء الأخيرة ياء فصارت ذُرُّويَةً، ثم أُدغمت الواو في الياء فصارت: ذُرِّيَّة. قال: والقول الأول أقيسُ وأجود [[في (م): (أجود وأقيس).]] عند النحويين [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1277، وعنه في "اللسان" 3/ 1491 (مادة: ذرأ).]]. واختاره [[في (أ) و (م): (واختيار).]] الليث، فقال: هو فُعْليّة من الذر، كما قالوا: سُرّيَّة، والأصلُ من السّرّ، وهو النكاح [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 2/ 1277.]]. وزاد ابن الأنباري الوجهين [[المثبتمن (ش)، وفي غيرها: (للوجهين).]] اللذين ذكرهما أبو إسحاق بيانًا فقال: الذرية مأخوذةٌ من ذرأَ الله الخلق، ويكون أصلها ذُرُّوؤه، تُرِكَ هَمْزُها، وأبدل من الهمز ياءً، فلمَّا اجتمعت الياء والواو والسابقُ ساكنٌ أُبدلَ من الواو ياءً، وأُدغمت في الياء التي بعدَها، وكُسِرَ الراء لتصِحَّ الياء. قال: ويجوزُ أن تكون [[في (أ)، (م): (يكون).]] منسوبة إلى الذر بالتشبيه في كثرة التوالد، وضم الذال لأن النسبة قد يغير فيها الحرف، كما قالوا: دُهريٌّ بضم الدال [[الدهري، بضم الدال وفتحها، الذي يقول ببقاء الدهر "القاموس" ص 395.]]، وقالوا: بُصري للمنسوب إلى البصرة. وقال الخليل: الذرية فُعْليّة، من ذَرَرْت؛ لأن الله تعالى ذَرَّهم في الأرض، أي: نشرهم. قال أبو على الفارسي: أمَّا مثالُ ذرية من الفعل، فيجوزُ أن يكون فُعلُولة من الذر، فأُبدلَتْ من الراء التي هي اللامُ [[ساقطة من (م).]] الأخيرة ياءً، ويحتملُ أن يكون فُعّيلة منه. فأبدلت من الراء الياء، كما يبدل من هذه الحروف للتضعيف، وإن وقع فيها الفصل. ويحتمل أن يكون فُعْلية نَسَبًا إلى الذرّ، إلا أن الفتحة أبدلت منها الضمة، كما أبدلوا في الإضافة إلى الدهر دُهري، وإلى السهل سُهلي. ويجوز أن يكون فُعِّيلة، من ذرأ الله الخلق، اجتمع على تخفيفها كما اجتمع على تخفيف البرية، ويجوز أن يكون فُعِّيلة، من قوله: ﴿تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ﴾ أُبدِلت من الواو الياء؛ لوقوع ياء قبلها [[ينظر: تفصيل ذرية وما فيها من اشتقاق وتصريف في: "البحر المحيط" 1/ 372 - 373، "اللسان" 3/ 1494 (ذر) ، 3/ 1491 (ذرأ).]]. وقوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ أعلم الله إبراهيم أن في ذريته الظالم [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 205.]]. قال ابن عباس: يريد من كان من ولدك ظالمًا لم ينل عهدي [[أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 222 بمعناه.]]. يريد: ليس بإمام ولا كرامة [[تفسير العهد بالإمامة قال به: ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير، وبه قال كثيرون، ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 530، و"تفسير السمعاني" 2/ 45، "تفسير ابن عطية" 1/ 477، وابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 140، و"تفسير القرطبي" 2/ 98.]]. واختلفوا في معنى العهد هاهنا، فقال أبو عبيد: العهد هاهنا: الأمان، أي: لا ينال أماني الظالمين [["غريب الحديث" 1/ 440، وذكره عنه الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1160 في نسخةٍ، وفي النسخة: أبو عبيدة، وليس في "مجاز القرآن" لأبي عبيدة، ونسبه الرازي في "تفسيره" 4/ 45 إلى أبي عبيد، وقد أخرجه الطبري 1/ 530 عن قتادة.]]، يقول: لا أؤمنهم عذابي، وقال السدي: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي﴾ أي: نبوتي [[أخرجه الطبري في "تفسيره" 1/ 530، وابن أبي حاتم 1/ 223، وذكره الثعلبي 1/ 1159.]]. واختاره ابن كيسان، فقال: يعني: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة في الدين من كان ظالمًا من ولدك، بل ينال عهدي من كان رسولًا إماما. وقال الفراء: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ أي: لا يكون للناس إمام مشرك [["معاني القرآن" 1/ 76.]]. وقال عبد الله بن مسلم [[يريد ابن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة 276 هـ]]: العهد هاهنا: الميثاق، يقول: لا ينال ما وعدتك من الإمامة الظالمين من ذريتك، والوعد من الله عز وجل ميثاق [["تأويل مشكل القرآن" ص 62، وذكره ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 141.]]. وهذه الأقوال متقاربة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب