الباحث القرآني

﴿وإذِ ابْتَلى إبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ﴾ في مُتَعَلِّقِ (إذِ) احْتِمالاتٌ تَقَدَّمَتِ الإشارَةُ إلَيْها في نَظِيرِ الآيَةِ، واخْتارَ أبُو حَيّانَ تَعَلُّقَها بِقالَ الآتِي، وبَعْضُهم بِمُضْمَرٍ مُؤَخَّرٍ، أيْ كانَ كَيْتَ وكَيْتَ، والمَشْهُورُ تَعَلُّقُها بِمُضْمَرٍ مُقَدَّمٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ، أوِ اذْكُرُوا وقْتَ كَذا، والجُمْلَةُ حِينَئِذٍ مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها عَطْفَ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ، والجامِعُ الِاتِّحادُ في المَقْصِدِ، فَإنَّ المَقْصِدَ مِن تَذْكِيرِهِمْ وتَخْوِيفِهِمْ تَحْرِيضُهم عَلى قَبُولِ دِينِهِ ﷺ واتِّباعِ الحَقِّ وتَرْكِ التَّعَصُّبِ، وحُبِّ الرِّياسَةِ، كَذَلِكَ المَقْصِدُ مِن قِصَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وشَرْحِ أحْوالِهِ الدَّعْوَةُ إلى مِلَّةِ الإسْلامِ، وتَرْكُ التَّعَصُّبِ في الدِّينِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ إذا عَلِمَ أنَّهُ نالَ الإمامَةَ بِالِانْقِيادِ لِحُكْمِهِ تَعالى، وأنَّهُ لَمْ يَسْتَجِبْ دُعاءَهُ في الظّالِمِينَ، وأنَّ الكَعْبَةَ كانَتْ مَطافًا ومَعْبَدًا في وقْتِهِ مَأْمُورًا هو بِتَطْهِيرِهِ وأنَّهُ كانَ يَحُجُّ البَيْتَ داعِيًا مُبْتَهِلًا كَما هو في دِينِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وأنَّ نَبِيَّنا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن دَعْوَتِهِ، وأنَّهُ دَعا في حَقِّ نَفْسِهِ وذُرِّيَّتِهِ بِمِلَّةِ الإسْلامِ، كانَ الواجِبُ عَلى مَن يَعْتَرِفُ بِفَضْلِهِ، وأنَّهُ مِن أوْلادِهِ، ويَزْعُمُ اتِّباعَ مِلَّتِهِ، ويُباهِي بِأنَّهُ مِن ساكِنِ حَرَمِهِ، وحامِي بَيْتِهِ أنْ يَكُونَ حالُهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وذَهَبَ عِصامُ المِلَّةِ والدِّينِ إلى جَوازِ العَطْفِ عَلى (نِعْمَتِي) أيِ اذْكُرُوا وقْتَ ابْتِلاءِ إبْراهِيمَ، فَإنَّ فِيهِ ما يَنْفَعُكُمْ، ويَرُدُّ اعْتِقادَكُمُ الفاسِدَ أنَّ آباءَكم شُفَعاؤُكم يَوْمَ القِيامَةِ، لِأنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ دُعاءَ إبْراهِيمَ في الظَّلَمَةِ، ويَدْفَعْ عَنْكم حُبَّ الرِّياسَةِ المانِعَ عَنْ مُتابَعَةِ الرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَإنَّهُ يُعْلَمُ مِنهُ أنَّهُ لا يَنالُ الرِّياسَةُ الظّالِمِينَ، واعْتُرِضَ بِأنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ طَرِيقِ البَلاغَةِ مَعَ لُزُومِ تَخْصِيصِ الخِطابِ بِأهْلِ الكِتابِ، وتَخَلَّلَ (اتَّقُوا) بَيْنَ المَعْطُوفَيْنِ، والِابْتِلاءُ في الأصْلِ الِاخْتِبارُ كَما قَدَّمْنا (p-374)والمُرادُ بِهِ هُنا التَّكْلِيفُ، أوِ المُعامَلَةُ مُعامَلَةُ الِاخْتِبارِ مَجازًا، إذْ حَقِيقَةُ الِاخْتِبارِ مُحالَةٌ عَلَيْهِ تَعالى، لِكَوْنِهِ عالِمُ السِّرِّ والخَفِيّاتِ، (وإبْراهِيمُ) عَلَمٌ أعْجَمِيٌّ قِيلَ: مَعْناهُ قَبْلَ النَّقْلِ أبٌ رَحِيمٌ، وهو مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ لِإضافَةِ فاعِلِهِ إلى ضَمِيرِهِ، والتَّعَرُّضُ لِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ تَشْرِيفٌ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وإيذانٌ بِأنَّ ذَلِكَ الِابْتِلاءَ تَرْبِيَةٌ لَهُ وتَرْشِيحٌ لِأمْرٍ خَطِيرٍ، (والكَلِماتُ) جَمْعُ كَلِمَةٍ، وأصْلُ مَعْناها اللَّفْظُ المُفْرَدُ، وتُسْتَعْمَلُ في الجُمَلِ المُفِيدَةِ، وتُطْلَقُ عَلى مَعانِي ذَلِكَ، لِما بَيْنَ اللَّفْظِ والمَعْنى مِن شِدَّةِ الِاتِّصالِ، واخْتُلِفَ فِيها، فَقالَ طاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: إنَّها العَشَرَةُ الَّتِي مِنَ الفِطْرَةِ: المَضْمَضَةُ، والِاسْتِنْشاقُ، وقَصُّ الشّارِبِ، وإعْفاءُ اللِّحْيَةِ، والفَرْقُ، ونَتْفُ الإبِطِ، وتَقْلِيمُ الأظْفارِ، وحَلْقُ العانَةِ، والِاسْتِطابَةُ، والخِتانُ، وقالَ عِكْرِمَةُ رِوايَةً عَنْهُ أيْضًا: لَمْ يُبْتَلَ أحَدٌ بِهَذا الدِّينِ فَأقامَهُ كُلَّهُ إلّا إبْراهِيمُ، ابْتَلاهُ اللَّهُ تَعالى بِثَلاثِينَ خَصْلَةً مِن خِصالِ الإسْلامِ عَشْرٌ مِنها في سُورَةِ بَراءَةٌ (التّائِبُونَ)، إلَخْ، وعَشَرٌ في الأحْزابِ: ﴿إنَّ المُسْلِمِينَ والمُسْلِماتِ﴾ إلَخْ، وعَشْرٌ في المُؤْمِنِينَ، (وسَألَ سائِلٌ) إلى ﴿والَّذِينَ هم عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ﴾ وفي رِوايَةِ الحاكِمِ في مُسْتَدْرَكِهِ: أنَّها ثَلاثُونَ، وعَدَّ السُّوَرَ الثَّلاثَةَ الأُوَلَ، ولَمْ يَعُدَّ السُّورَةَ الأخِيرَةَ، فالَّذِي في بَراءَةٌ: التَّوْبَةُ، والعِبادَةُ، والحَمْدُ، والسِّياحَةُ، والرُّكُوعُ، والسُّجُودُ، والأمْرُ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، والحِفْظُ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعالى، والإيمانُ المُسْتَفادُ مِن ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ أوْ مِن ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ في الأحْزابِ: الإسْلامُ، والإيمانُ، والقُنُوتُ، والصِّدْقُ، والصَّبْرُ، والخُشُوعُ، والتَّصَدُّقُ، والصِّيامُ، والحِفْظُ لِلْفُرُوجِ، والذِّكْرُ، والَّذِي في المُؤْمِنِينَ: الإيمانُ، والخُشُوعُ، والإعْراضُ عَنِ اللَّغْوِ، والزَّكاةُ، والحِفْظُ لِلْفُرُوجِ إلّا عَلى الأزْواجِ أوِ الإماءِ، ثَلاثَةً، والرِّعايَةُ لِلْعَهْدِ، والأمانَةِ اثْنَيْنِ، والمُحافَظَةُ عَلى الصَّلاةِ، وهَذا مَبْنِيٌّ عَلى أنَّ لُزُومَ التَّكْرارِ في بَعْضِ الخِصالِ بَعْدَ جَمْعِ العَشَراتِ المَذْكُورَةِ كالإيمانِ والحِفْظِ لِلْفُرُوجِ لا يُنافِي كَوْنَها ثَلاثِينَ تَعْدادًا، إنَّما يُنافِي تَغايُرَها ذاتًا، ومِن هُنا عُدَّتِ التَّسْمِيَةُ مِائَةً وثَلاثَ عَشْرَةَ آيَةً عِنْدَ الشّافِعِيَّةِ بِاعْتِبارِ تَكَرُّرِها في كُلِّ سُورَةٍ، وما في رِوايَةِ عِكْرِمَةَ مَبْنِيٌّ عَلى اعْتِبارِ التَّغايُرِ بِالذّاتِ، وإسْقاطِ المُكَرَّراتِ، وعَدُّهُ العاشِرَةَ البِشارَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ في بَراءَةٌ، وجَعَلَ الدَّوامَ عَلى الصَّلاةِ والمُحافَظَةَ عَلَيْها واحِدًا، ﴿والَّذِينَ في أمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾ ﴿لِلسّائِلِ والمَحْرُومِ﴾ غَيْرَ الفاعِلِينَ لِلزَّكاةِ لِشُمُولِهِ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، وصِلَةَ الأقارِبِ، وما رُوِيَ أنَّها أرْبَعُونَ، وبُيِّنَتْ بِما في السُّوَرِ الأرْبَعِ مَبْنِيٌّ عَلى الِاعْتِبارِ الأوَّلِ أيْضًا، فَلا إشْكالَ، وقِيلَ: ابْتَلاهُ اللَّهُ تَعالى بِسَبْعَةِ أشْياءَ بِالكَواكِبِ، والقَمَرَيْنِ، والخِتانِ عَلى الكِبَرِ، والنّارِ، وذَبْحِ الوَلَدِ، والهِجْرَةِ مِن كُوثى إلى الشّامِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الحَسَنِ، وقِيلَ: هي ما تَضَمَّنَتْهُ الآياتُ بَعْدُ مِنَ الإمامَةِ وتَطْهِيرِ البَيْتِ، ورَفْعِ قَواعِدِهِ، والإسْلامِ، وقِيلَ وقِيلَ، إلى ثَلاثَةَ عَشَرَ قَوْلًا، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وابْنُ الزُّبَيْرِ وغَيْرُهُما (إبْراهامَ)، وأبُو بَكْرَةَ (إبْراهِمَ) بِكَسْرِ الهاءِ وحَذْفِ الياءِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو الشَّعْثاءِ، وأبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم بِرَفْعِ (إبْراهِيمُ)، ونَصْبِ (رَبَّهُ)، فالِابْتِلاءُ بِمَعْنى الِاخْتِبارِ حَقِيقَةٌ لِصِحَّتِهِ مِنَ العَبْدِ، والمُرادُ دَعا رَبَّهُ بِكَلِماتٍ مِثْلَ ﴿رَبِّ أرِنِي كَيْفَ تُحْيِ المَوْتى﴾ و﴿اجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا﴾ لِيَرى هَلْ يُجِيبُهُ، ولا حاجَةَ إلى الحَمْلِ عَلى المَجازِ، وأمّا ما قِيلَ: إنَّهُ وإنْ صَحَّ مِنَ العَبْدِ لا يَصِحُّ أوْ لا يَحْسُنُ تَعْلِيقُهُ بِالرَّبِّ، فَوَجْهُهُ غَيْرُ ظاهِرٍ سِوى ذِكْرِ لَفْظِ الِابْتِلاءِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ في مَقامِ الأُنْسِ ومَقامِ الخُلَّةِ غَيْرَ خَفِيٍّ، ﴿فَأتَمَّهُنَّ﴾ الضَّمِيرُ المَنصُوبُ لِلْكَلِماتِ لا غَيْرُ، والمَرْفُوعُ المَسْتَكِنُّ يَحْتَمِلُ أنْ يَعُودَ لِإبْراهِيمَ، وأنْ يَعُودَ لِرَبِّهِ، عَلى كُلٍّ مِن قِراءَتَيِ الرَّفْعِ والنَّصْبِ، فَهُناكَ أرْبَعَةُ احْتِمالاتٍ الأوَّلُ: عَوْدُهُ عَلى (إبْراهِيمَ) مَنصُوبًا، ومَعْنى أتَمَّهُنَّ حِينَئِذٍ أتى بِهِنَّ عَلى الوَجْهِ الأتَمِّ، وأدّاهُنَّ (p-375)كَما يَلِيقُ، الثّانِي: عَوْدُهُ عَلى (رَبُّهُ) مَرْفُوعًا، والمَعْنى حِينَئِذٍ: يَسَّرَ لَهُ العَمَلَ بِهِنَّ، وقَوّاهُ عَلى إتْمامِهِنَّ، أوْ أتَمَّ لَهُ أُجُورَهُنَّ، أوْ أدامَهُنَّ سُنَّةً فِيهِ وفي عَقِبِهِ إلى يَوْمِ الدِّينِ، الثّالِثُ: عَوْدُهُ عَلى (إبْراهِيمُ) مَرْفُوعًا، والمَعْنى عَلَيْهِ: أتَمَّ إبْراهِيمُ الكَلِماتِ المَدْعُوَّ بِها بِأنْ راعى شُرُوطَ الإجابَةِ فِيها، ولَمْ يَأْتِ بَعْدَها بِما يُضَيِّعُها، الرّابِعُ: عَوْدُهُ إلى (رَبَّهُ) مَنصُوبًا، والمَعْنى عَلَيْهِ فَأعْطى سُبْحانَهُ (إبْراهِيمَ) جَمِيعَ ما دَعاهُ، وأظْهَرُ الِاحْتِمالاتِ الأوَّلُ والرّابِعُ، إذِ التَّمَدُّحُ غَيْرُ ظاهِرٍ في الثّانِي مَعَ ما فِيهِ مِن حَذْفِ المُضافِ عَلى أحَدِ مُحْتَمَلاتِهِ، والِاسْتِعْمالُ المَأْلُوفُ غَيْرُ مُتَّبَعٍ في الثّالِثِ، لِأنَّ الفِعْلَ الواقِعَ في مُقابَلَةِ الِاخْتِبارِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ فِعْلُ المُخْتَبِرِ اسْمَ مَفْعُولٍ. ﴿قالَ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا﴾ اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، إنَّ أُضْمِرَ ناصِبٌ، إذْ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا كانَ بَعْدُ؟ فَأُجِيبَ بِذَلِكَ، أوْ بَيانٌ لِابْتَلى، بِناءً عَلى رَأْيِ مَن جَعَلَ الكَلِماتِ عِبارَةً عَمّا ذُكِرَ أثَرُهُ، وبَعْضُهم يَجْعَلُ ذَلِكَ مِن بَيانِ الكُلِّيِّ بِجُزْئِيٍّ مِن جُزْئِيّاتِهِ، وإذا نَصَبَتْ إذْ بِقالَ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ أبُو حَيّانَ، يَكُونُ المَجْمُوعُ جُمْلَةً مَعْطُوفَةً عَلى ما قَبْلَها عَلى الوَجْهِ الَّذِي مَرَّ تَفْصِيلُهُ، وقِيلَ: مُسْتَطْرِدَةٌ، أوْ مُعْتَرِضَةٌ لِيَقَعَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ﴾ إنْ جُعِلَ خِطابًا لِلْيَهُودِ مَوْقِعَهُ، ويُلائِمَ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿وقالُوا كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى﴾ وجاعِلٌ مِن جَعَلَ بِمَعْنى صَيَّرَ المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولَيْنِ، والثّانِي إمّا مُتَعَلِّقٌ بِجاعِلٍ أيْ لِأجْلِهِمْ، وإمّا في مَوْضِعِ الحالِ، لِأنَّهُ نَعْتٌ نَكِرَةٌ تَقَدَّمَتْ، أيْ إمامًا كائِنًا لَهُمْ، والإمامُ اسْمٌ لِلْقُدْوَةِ الَّذِي يُؤْتَمُّ بِهِ، ومِنهُ قِيلَ لِخَيْطِ البِناءِ: إمامٌ، وهو مُفْرَدٌ عَلى فِعالٍ، وجَعَلَهُ بَعْضُهُمُ اسْمَ آلَةٍ لِأنَّ فِعالًا مِن صِيَغِها، كالإزارِ، واعْتُرِضَ بِأنَّ الإمامَ ما يُؤْتَمُّ بِهِ، والإزارُ ما يُؤْتَزَرُ بِهِ، فَهُما مَفْعُولانِ ومَفْعُولُ الفِعْلِ لَيْسَ بِآلَةٍ، لِأنَّها الواسِطَةُ بَيْنَ الفاعِلِ والمَفْعُولِ في وُصُولِ أثَرِهِ إلَيْهِ، ولَوْ كانَ المَفْعُولُ آلَةً لَكانَ الفاعِلُ كَذَلِكَ، ولَيْسَ، فَلَيْسَ، ويَكُونُ جَمْعَ آمٍّ اسْمِ فاعِلٍ مِن أمَّ يَؤُمُّ كَجائِعٍ، وجِياعٍ، وقائِمٍ، وقِيامٍ، وهو بِحَسَبِ المَفْهُومِ، وإنْ كانَ شامِلًا لِلنَّبِيِّ والخَلِيفَةِ، وإمامِ الصَّلاةِ، بَلْ كُلُّ مَن يَقْتَدِي بِهِ في شَيْءٍ، ولَوْ باطِلًا كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْناهم أئِمَّةً يَدْعُونَ إلى النّارِ﴾ إلّا أنَّ المُرادَ بِهِ ها هُنا النَّبِيُّ المُقْتَدى بِهِ، فَإنَّ مَن عَداهُ لِكَوْنِهِ مَأْمُومَ النَّبِيِّ لَيْسَتْ إمامَتُهُ كَإمامَتِهِ، وهَذِهِ الإمامَةُ إمّا مُؤَبَّدَةٌ كَما هو مُقْتَضى تَعْرِيفِ النّاسِ، وصِيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ الدّالِّ عَلى الِاسْتِمْرارِ، ولا يَضُرُّ مَجِيءُ الأنْبِياءِ بَعْدَهُ، لِأنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إلّا وكانَ مِن ذُرِّيَّتِهِ، ومَأْمُورا بِاتِّباعِهِ في الجُمْلَةِ لا في جَمِيعِ الأحْكامِ، لِعَدَمِ اتِّفاقِ الشَّرائِعِ الَّتِي بَعْدَهُ في الكُلِّ، فَتَكُونُ إمامَتُهُ باقِيَةً بِإمامَةِ أوْلادِهِ الَّتِي هي أبْعاضُهُ عَلى التَّناوُبِ، وإمّا مُؤَقَّتَةٌ بِناءً عَلى أنَّ ما نُسِخَ، ولَوْ بَعْضُهُ، لا يُقالُ لَهُ مُؤَبَّدٌ، وإلّا لَكانَتْ إمامَةُ كُلِّ نَبِيٍّ مُؤَبَّدَةً، ولَمْ يَشِعْ ذَلِكَ، فالمُرادُ مِنَ النّاسِ حِينَئِذٍ أُمَّتُهُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ، ولَكَ أنْ تَلْتَزِمَ القَوْلَ بِتَأْبِيدِ إمامَةِ كُلِّ نَبِيٍّ، ولَكِنْ في عَقائِدِ التَّوْحِيدِ، وهي لَمْ تُنْسَخْ، بَلْ لا تُنْسَخُ أصْلًا، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ وعَدَمُ الشُّيُوعِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، ولَئِنْ سُلِّمَ لا يَضُرُّ، والِامْتِنانُ عَلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ لِخُصُوصِيَّةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، لا تَكادُ تَخْفى، فَتَدَبَّرْ. ثُمَّ لا يَخْفى أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يُشِيرُ إلى أنَّ الِابْتِلاءَ كانَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، لِأنَّهُ تَعالى جَعَلَ القِيامَ بِتِلْكَ الكَلِماتِ سَبَبًا لِجَعْلِهِ إمامًا، وقِيلَ: إنَّهُ كانَ بَعْدَها لِأنَّهُ يَقْتَضِي سابِقَةَ الوَحْيِ، وأُجِيبَ بِأنَّ مُطْلَقَ الوَحْيِ لا يَسْتَلْزِمُ البَعْثَةَ إلى الخَلْقِ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ ذَبْحَ الوَلَدِ والهِجْرَةَ والنّارَ إنْ كانَتْ مِنَ الكَلِماتِ يُشْكِلُ الأمْرُ، لِأنَّ هَذِهِ كانَتْ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، بِلا شُبْهَةٍ، وكَذا الخِتانُ أيْضًا بِناءً عَلى ما رُوِيَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حِينَ خَتَنَ نَفْسَهُ كانَ عُمْرُهُ مِائَةً وعِشْرِينَ، فَحِينَئِذٍ يَحْتاجُ إلى أنْ يَكُونَ إتْمامُ الكَلِماتِ سَبَبَ الإمامَةِ بِاعْتِبارِ عُمُومِها لِلنّاسِ، واسْتِجابَةِ دُعائِهِ في حَقِّ بَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ، ونَقَلَ الرّازِيُّ عَنِ القاضِي أنَّهُ عَلى هَذا يَكُونُ المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأتَمَّهُنَّ﴾ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلِمَ مِن حالِهِ أنَّهُ (p-376)يُتِمُّهُنَّ، ويَقُومُ بِهِنَّ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، فَلا جَرَمَ، أعْطاهُ خُلْعَةَ الإمامَةِ والنُّبُوَّةِ، ولا يَخْفى أنَّ الفاءَ يَأْبى عَنِ الحَمْلِ عَلى هَذا المَعْنى. (قالَ) اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، والضَّمِيرُ لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، (ومِن ذُرِّيَّتِي) عَطْفٌ عَلى الكافِ، يُقالُ: سَأُكْرِمُكَ فَتَقُولُ: وزَيْدًا، وجَعْلُهُ عَلى مَعْنى: ماذا يَكُونُ مِن ذُرِّيَّتِي؟ بَعِيدٌ، وذَهَبَ أبُو حَيّانَ إلى أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أيَجْعَلُ مِن ذُرِّيَّتِي إمامًا، لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَهِمَ مِن ﴿إنِّي جاعِلُكَ﴾ الِاخْتِصاصَ بِهِ، واخْتارَهُ بَعْضُهُمْ، واعْتَرَضُوا عَلى ما تَقَدَّمَ بِأنَّ الجارَّ والمَجْرُورَ لا يَصْلُحُ مُضافًا إلَيْهِ، فَكَيْفَ يُعْطَفُ عَلَيْهِ، وبِأنَّ العَطْفَ عَلى الضَّمِيرِ كَيْفَ يَصِحُّ بِدُونِ إعادَةِ الجارِّ، وبِأنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ المَعْطُوفُ مَقُولَ قائِلٍ آخَرَ، ودُفِعَ الأوَّلانِ بِأنَّ الإضافَةَ اللَّفْظِيَّةَ في تَقْدِيرِ الِانْفِصالِ، ﴿ومِن ذُرِّيَّتِي﴾ في مَعْنى بَعْضِ ذُرِّيَّتِي، فَكَأنَّهُ قالَ: وجاعِلٌ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي، وهو صَحِيحٌ، عَلى أنَّ العَطْفَ عَلى الضَّمِيرِ المَجْرُورِ بِدُونِ إعادَةِ الجارِّ، وإنْ أباهُ أكْثَرُ النُّحاةِ، إلّا أنَّ المُحَقِّقِينَ مِن عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ وأئِمَّةِ الدِّينِ عَلى جَوازِهِ، حَتّى قالَ صاحِبُ العُبابِ: إنَّهُ وارِدٌ في القِراءاتِ السَّبْعَةِ المُتَواتِرَةِ، فَمَن رَدَّ ذَلِكَ فَقَدْ رَدَّ عَلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ودُفِعَ الثّالِثُ بِأنَّهُ قَبِيلِ عَطْفِ التَّلْقِينِ، فَهو خَبَرٌ في مَعْنى الطَّلَبِ، وكَأنَّ أصْلَهُ: واجْعَلْ بَعْضَ ذُرِّيَّتِي، كَما قَدَّرَهُ المُعْتَرِضُ، لَكِنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ إلى المُنَزَّلِ لِما فِيهِ مِنَ البَلاغَةِ مِن حَيْثُ جَعَلَهُ مِن تَتِمَّةِ كَلامِ المُتَكَلِّمِ، كَأنَّهُ مُسْتَحِقٌّ مِثْلَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وجَعَلَ نَفْسَهُ كالنّائِبِ عَنِ المُتَكَلِّمِ، والعُدُولُ مِن صِيغَةِ الأمْرِ لِلْمُبالَغَةِ في الثُّبُوتِ ومَراعاةِ الأدَبِ في التَّفادِي عَنْ صُورَةِ الأمْرِ، وفِيهِ مِنَ الِاخْتِصارِ الواقِعِ مَوْقِعَهُ ما يَرُوقُ كُلَّ ناظِرٍ، ونَظِيرُ هَذا العَطْفِ ما رَوى الشَّيْخانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: «(اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ، قالُوا: والمُقَصِّرِينَ يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ، قالُوا: والمُقَصِّرِينَ يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: والمُقَصِّرِينَ)». وقَدْ ذَكَرَ الأُصُولِيُّونَ أنَّ التَّلْقِينَ ورَدَ بِالواوِ وغَيْرِها مِنَ الحُرُوفِ، وأنَّهُ وقَعَ في الِاسْتِثْناءِ كَما في الحَدِيثِ: «(إنَّ اللَّهَ تَعالى حَرَّمَ شَجَرَةَ الحَرَمِ، قالُوا: إلّا الإذْخِرَ يا رَسُولَ اللَّهِ)،» واعْتُرِضَ أيْضًا بِأنَّ العَطْفَ المُذَكَّرَ يَسْتَدْعِي أنْ تَكُونَ إمامَةُ ذُرِّيَّتِهِ عامَّةً لِجَمِيعِ النّاسِ عُمُومَ إمامَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى ما قِيلَ، ولَيْسَ كَذَلِكَ، وأُجِيبَ بِأنَّهُ يَكْفِي في العَطْفِ الِاشْتِراكُ في أصْلِ المَعْنى، وقِيلَ: يَكْفِي قَبُولُها في حَقِّ نَبِيِّنا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والذُّرِّيَّةُ نَسْلُ الرَّجُلِ، وأصْلُها الأوْلادُ الصِّغارُ، ثُمَّ عَمَّتِ الكِبارَ والصِّغارَ الواحِدَ وغَيْرَهُ، وقِيلَ: إنَّها تَشْمَلُ الآباءَ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهم في الفُلْكِ المَشْحُونِ﴾ يَعْنِي نُوحًا وأبْناءَهُ، والصَّحِيحُ خِلافُهُ، وفِيها ثَلاثُ لُغاتٍ، ضَمُّ الذّالِ، وفَتْحُها، وكَسْرُها، وبِها قُرِئَ، وهي إمّا فَعُولَةٌ مِن ذَرَوْتُ أوْ ذَرَيْتُ، والأصْلُ ذَرُووَةٌ، أوْ ذَرُويَةٌ فاجْتَمَعَ في الأوَّلِ واوانِ زائِدَةٌ وأصْلِيَّةٌ فَقُلِبَتِ الأصْلِيَّةُ ياءً فَصارَتْ كالثّانِيَةِ، فاجْتَمَعَتْ ياءٌ وواوٌ، وسُبِقَتْ إحْداهُما بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً وأُدْغِمَتِ الياءُ في الياءِ، فَصارَتْ ذُرِّيَّةً، أوْ فِعْلِيَّةً مِنهُما، والأصْلُ في الأُولى ذَرِيوِيَةٌ، فَقُلِبَتِ الواوُ ياءً لِما سَبَقَ فَصارَتْ ذَرِيِيَةٌ كالثّانِيَةِ فَأُدْغِمَتِ الياءُ في مِثْلِها فَصارَتْ ذُرِّيَّةً، أوْ فُعْلِيَّةً مِنَ الذَّرِّ بِمَعْنى الخَلْقِ، والأصْلُ ذَرْئِيَّةٌ فَقُلِبَتِ الهَمْزَةُ ياءً وأُدْغِمَتْ أوْ فِعْلِيَّةٌ مِنَ الذَّرِّ بِمَعْنى التَّفْرِيقِ، والأصْلُ ذَرِيرَةٌ قُلِبَتِ الرّاءُ الأخِيرَةُ ياءً هَرَبًا مِن ثِقَلِ التَّكْرِيرِ كَما قالُوا في تَظَنَّنْتُ تَظَنَّيْتُ، وفي تَقَضَّضْتُ تَقَضَّيْتُ، أوْ فَعُولَةٌ مِنهُ، والأصْلُ ذَرُورَةُ، فَقُلِبَتِ الرّاءُ الأخِيرَةُ ياءً، فَجاءَ الإدْغامُ، أوْ فِعْلِيَّةٌ مِنهُ عَلى صِيغَةِ النِّسْبَةِ، قالُوا: وهو الأظْهَرُ لِكَثْرَةِ مَجِيئِها كَحُرِّيَّةٍ، ودُرِّيَّةٍ، وعَدَمِ احْتِياجِها إلى الإعْلالِ، وإنَّما ضُمَّتْ ذالَهُ لِأنَّ الأبْنِيَةَ قَدْ تُغَيَّرُ في النِّسْبَةِ خاصَّةً، كَما قالُوا في النِّسْبَةِ إلى الدَّهْرِ: دُهْرِيٌّ. (قالَ) اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ أيْضًا، والضَّمِيرُ لِلَّهِ عَزَّ اسْمُهُ، ﴿لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ﴾ إجابَةٌ لَمّا (p-377)راعى الأدَبَ في طَلَبِهِ مِن جَعْلِ بَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيًّا كَما جُعِلَ مَعَ تَعْيِينِ جِنْسِ البَعْضِ الَّذِي أُبْهِمَ في دُعائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِأبْلَغِ وجْهٍ وآكَدِهِ، حَيْثُ نَفى الحُكْمَ عَنْ أحَدِ الضِّدَّيْنِ مَعَ الإشْعارِ إلى دَلِيلِ نَفْيِهِ عَنْهُ، لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلى الثُّبُوتِ لِلْآخَرِ، فالمُتَبادِرُ مِنَ العَهْدِ الإمامَةُ، ولَيْسَتْ هي هُنا إلّا النُّبُوَّةُ، وعَبَّرَ عَنْها بِهِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّها أمانَةُ اللَّهِ تَعالى، وعَهْدُهُ الَّذِي لا يَقُومُ بِهِ إلّا مَن شاءَ اللَّهُ تَعالى مِن عِبادِهِ، وآثَرَ النَّيْلَ عَلى الجَعْلِ إيماءً إلى أنَّ إمامَةَ الأنْبِياءِ مِن ذُرِّيَّتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، لَيْسَتْ بِجَعْلٍ مُسْتَقِلٍّ، بَلْ هي حاصِلَةٌ في ضِمْنِ إمامَتِهِ، تَنالُ كُلًّا مِنهم في وقْتِهِ المُقَدَّرِ لَهُ، ولا يَعُودُ مِن ذَلِكَ نَقْصٌ في رُتْبَةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِأنَّهُ جارٍ مَجْرى التَّغْلِيبِ عَلى أنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَوْ كانَ يَحُطُّ مِن قَدْرِها لَمّا خُوطِبَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ والمُتَبادِرُ مِنَ الظُّلْمِ الكُفْرُ، لِأنَّهُ الفَرْدُ الكامِلُ مِن أفْرادِهِ، ويُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ فَلَيْسَ في الآيَةِ دِلالَةٌ عَلى عِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِنَ الكَبائِرِ قَبْلَ البَعْثَةِ، ولا عَلى أنَّ الفاسِقَ لا يَصْلُحُ لِلْخِلافَةِ، نَعَمْ فِيها قَطْعُ أطْماعِ الكَفَرَةِ الَّذِينَ كانُوا يَتَمَنَّوْنَ النُّبُوَّةَ، وسَدَّ أبْوابَ آمالِهِمُ الفارِغَةِ عَنْ نَيْلِها، واسْتَدَلَّ بِها بَعْضُ الشِّيعَةِ عَلى نَفْيِ إمامَةِ الصِّدِّيقِ وصاحِبَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، حَيْثُ إنَّهم عاشُوا مُدَّةً مَدِيدَةً عَلى الشِّرْكِ، و﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ والظّالِمُ بِنَصِّ الآيَةِ لا تَنالُهُ الإمامَةُ، وأُجِيبَ بِأنَّ غايَةَ ما يَلْزَمُ أنَّ الظّالِمَ في حالِ الظُّلْمِ لا تَنالُهُ، والإمامَةُ إنَّما نالَتْهم رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم في وقْتِ كَمالِ إيمانِهِمْ، وغايَةِ عَدالَتِهِمْ، واعْتُرِضَ بِأنَّ (مِن) تَبْعِيضِيَّةٌ، فَسُؤالُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ الإمامَةَ، إمّا لِلْبَعْضِ العادِلِ مِن ذُرِّيَّتِهِ مُدَّةَ عُمْرِهِ، أوِ الظّالِمِ حالَ الإمامَةِ، سَواءٌ كانَ عادِلًا في باقِي العُمْرِ أمْ لا، أوِ العادِلُ في البَعْضِ الظّالِمُ في البَعْضِ الآخَرِ، أوِ الأعَمُّ، فَعَلى الأوَّلِ يَلْزَمُ عَدَمُ مُطابَقَةِ الجَوابِ، وعَلى الثّانِي جَهْلُ الخَلِيلِ وحاشاهُ، وعَلى الثّالِثِ المَطْلُوبُ وحَياهُ، وعَلى الرّابِعِ إمّا المَطْلُوبُ، أوِ الفَسادُ، وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّ مَبْنى الِاسْتِدْلالِ حَمْلُ العَهْدِ عَلى الأعَمِّ مِنَ النُّبُوَّةِ والإمامَةِ الَّتِي يَدَّعُونَها، ودُونَ إثْباتِهِ خَرْطُ القَتادِ، وتَصْرِيحُ البَعْضِ كالجَصّاصِ لا يَبْنِي عَلَيْهِ إلْزامُ الكُلِّ، وعَلى تَقْدِيرِ التَّنَزُّلِ يُجابُ بِأنّا نَخْتارُ أنَّ سُؤالَ الإمامَةِ بِالمَعْنى الأعَمِّ لِلْبَعْضِ المُبْهَمِ مِن غَيْرِ إحْضارِ الِاتِّصافِ بِالعَدالَةِ، والظُّلْمُ حالَ السُّؤالِ، والآيَةُ إجابَةٌ لِدُعائِهِ مَعَ زِيادَةٍ عَلى ما أشَرْنا إلَيْهِ وكَذا، إذا اخْتِيرَ الشِّقُّ الأوَّلُ بَلِ الزِّيادَةُ عَلَيْهِ زِيادَةٌ، ويُمْكِنُ الجَوابُ بِاخْتِيارِ الشِّقِّ الثّالِثِ أيْضًا، بِأنْ نَقُولَ: هو عَلى قِسْمَيْنِ، أحَدُهُما مَن يَكُونُ ظالِمًا قَبْلَ الإمامَةِ ومُتَّصِفًا بِالعَدالَةِ وقْتَها اتِّصافًا مُطْلَقًا بِأنْ صارَ تائِبًا مِنَ المَظالِمِ السّابِقَةِ، فَيَكُونُ حالُ الإمامَةِ مُتَّصِفًا بِالعَدالَةِ المُطْلَقَةِ، والثّانِي مَن يَكُونُ ظالِمًا قَبْلَ الإمامَةِ، ومُحْتَرِزًا عَنِ الظُّلْمِ حالَها، لَكِنْ غَيْرَ مُتَّصِفٍ بِالعَدالَةِ المُطْلَقَةِ لِعَدَمِ التَّوْبَةِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ السُّؤالُ شامِلًا لِهَذا القِسْمِ، ولا بَأْسَ بِهِ، إذْ إنَّ الرَّعِيَّةَ مِنَ الفَسادِ الَّذِي هو المَطْلُوبُ يَحْصُلُ بِهِ، فالجَوابُ بِنَفْيِ حُصُولِ الإمامَةِ لِهَذا القِسْمِ، والشَّيْخانِ وعُثْمانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم لَيْسُوا مِنهُ، بَلْ هم في أعْلى مَراتِبِ القِسْمِ الأوَّلِ مُتَّصِفُونَ بِالتَّوْبَةِ الصّادِقَةِ، والعَدالَةِ المُطْلَقَةِ، والإيمانِ الرّاسِخِ، والإمامُ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ وقْتَ الإمامَةِ كَذَلِكَ، ومَن كَفَرَ أوْ ظَلَمَ ثُمَّ تابَ وأصْلَحَ لا يَصِحُّ أنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ أنَّهُ كافِرٌ أوْ ظالِمٌ في لُغَةٍ وعُرْفٍ وشَرْعٍ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ أنَّ المُشْتَقَّ فِيما قامَ بِهِ المَبْدَأُ في الحالِ حَقِيقَةٌ، وفي غَيْرِهِ مَجازٌ، ولا يَكُونُ المَجازُ أيْضًا مُطَّرِدًا، بَلْ حَيْثُ يَكُونُ مُتَعارَفًا، وإلّا لَجازَ صَبِيٌّ لِشَيْخٍ، ونائِمٌ لِمُسْتَيْقِظٍ، وغَنِيٌّ لِفَقِيرٍ، وجائِعٌ لِشَبْعانَ، وحَيٌّ لِمَيِّتٍ، وبِالعَكْسِ، وأيْضًا لَوِ اطَّرَدَ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِن حَلَفَ لا يُسَلِّمُ عَلى كافِرٍ فَسَلَّمَ عَلى إنْسانٍ مُؤْمِنٍ في الحالِ إلّا أنَّهُ كانَ كافِرًا قَبْلُ بِسِنِينَ مُتَطاوِلَةٍ أنْ يَحْنَثَ، ولا قائِلَ بِهِ، هَذا ومِن أصْحابِنا مَن جَعَلَ الآيَةَ دَلِيلًا عَلى عِصْمَةِ الأنْبِياءِ عَنِ الكَبائِرِ قَبْلَ البَعْثَةِ، وأنَّ الفاسِقَ لا يَصِحُّ لِلْخِلافَةِ، ومَبْنى ذَلِكَ حَمْلُ العَهْدِ عَلى الإمامَةِ وجَعْلُها شامِلَةً، وجَعْلُها شامِلَةً لِلنُّبُوَّةِ، والخِلافَةِ، وحَمْلُ الظّالِمِ عَلى مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً مُسْقِطَةً لِلْعَدالَةِ (p-378)بِناءً عَلى أنَّ الظُّلْمَ خِلافُ العَدْلِ، ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ حِينَئِذٍ أنَّ الآيَةَ دَلَّتْ عَلى أنَّ نَيْلَ الإمامَةِ لا يُجامِعُ الظُّلْمَ السّابِقَ، فَإذا تَحَقَّقَ النَّيْلُ كَما في الأنْبِياءِ عُلِمَ عَدَمُ اتِّصافِهِمْ حالَ النَّيْلِ بِالظُّلْمِ السّابِقِ، وذَلِكَ إمّا بِأنْ لا يَصْدُرَ مِنهم ما يُوجِبُ ذَلِكَ، أوْ بِزَوالِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ بِالتَّوْبَةِ، ولا قائِلَ بِالثّانِي، إذِ الخِلافُ إنَّما هو في أنَّ صُدُورَ الكَبِيرَةِ هَلْ يَجُوزُ قَبْلَ البَعْثَةِ أمْ لا، فَيَتَعَيَّنُ الثّانِي وهو العِصْمَةُ، أوِ المُرادُ بِها ها هُنا عَدَمُ صُدُورِ الذَّنْبِ لا المَلَكَةِ، وكَذا إذا تَحَقَّقَ الِاتِّصافُ بِالظُّلْمِ كَما في الفاسِقِ، عُلِمَ عَدَمُ حُصُولِ الإمامَةِ بَعْدَ ما دامَ اتِّصافُهُ بِذَلِكَ، واسْتِفادَةُ عَدَمِ صَلاحِيَّةِ الفاسِقِ لِلْإمامَةِ عَلى ما قَرَّرْنا مِن مَنطُوقِ الآيَةِ، وجَعْلُها مِن دِلالَةِ النَّصِّ، أوِ القِياسِ المُحْوِجِ إلى القَوْلِ بِالمُساواةِ، ولا أقَلَّ، أوِ التِزامٌ جامِعٌ وهُما مَناطُ العَيُّوقِ، إنَّما يَدْعُو إلَيْهِ حَمْلُ الإمامَةِ عَلى النُّبُوَّةِ، وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ المَبْنى الحَمْلُ عَلى الأعَمِّ، وكانَ الظّاهِرُ أنَّ الظُّلْمَ الطّارِئَ والفِسْقَ العارِضَ يَمْنَعُ عَنِ الإمامَةِ بَقاءً، كَما مُنِعَ عَنْها ابْتِداءً، لِأنَّ المُنافاةَ بَيْنَ الوَصْفَيْنِ مُتَحَقِّقَةً في كُلِّ آنٍ، وبِهِ قالَ بَعْضُ السَّلَفِ، إلّا أنَّ الجُمْهُورَ عَلى خِلافِهِ مُدَّعِينَ أنَّ المُنافاةَ في الِابْتِداءِ لا تَقْتَضِي المُنافاةَ في البَقاءِ، لِأنَّ الدَّفْعَ أسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ، واسْتَشْهَدُوا لَهُ بِأنَّهُ لَوْ قالَ لِامْرَأةٍ مَجْهُولَةِ النَّسَبِ يُولَدُ مِثْلُها لِمِثْلِهِ: هَذِهِ بِنْتِي، لَمْ يَجُزْ لَهُ نِكاحُها، ولَوْ قالَ لِزَوْجَتِهِ المَوْصُوفَةِ بِذَلِكَ لَمْ يَرْتَفِعِ النِّكاحُ، لَكِنْ إنْ أصَرَّ عَلَيْهِ يُفَرِّقُ القاضِي بَيْنَهُما، وهَذا الَّذِي قالُوهُ إنَّما يُسَلَّمُ فِيما إذا لَمْ يَصِلِ الظُّلْمُ إلى حَدِّ الكُفْرِ، أمّا إذا وصَلَ إلَيْهِ، فَإنَّهُ يُنافِي الإمامَةَ بَقاءً أيْضًا، بِلا رَيْبٍ، ويَنْعَزِلُ بِهِ الخَلِيفَةُ قَطْعًا، ومِنَ النّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ الظّالِمَ إذا عُوهِدَ لَمْ يَلْزَمِ الوَفاءُ بِعَهْدِهِ، وأُيِّدَ ذَلِكَ بِما رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَجْعَلْ لِلظّالِمِ عَهْدًا، وهو كَما تَرى، وقَرَأ أبُو الرَّجاءِ وقَتادَةُ، والأعْمَشُ (الظّالِمُونَ) بِالرَّفْعِ عَلى أنَّ (عَهْدِي) مَفْعُولٌ مُقَدَّمٌ عَلى الفاعِلِ اهْتِمامًا ورِعايَةً لِلْفَواصِلِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب