الباحث القرآني

قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿سابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكم وجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ والأرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ في الأرْضِ ولا في أنْفُسِكم إلّا في كِتابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها إنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ ﴿لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكم ولا تَفْرَحُوا بِما آتاكم واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ﴾ ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبُخْلِ ومَن يَتَوَلَّ فَإنَّ اللَّهَ هو الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾ ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ وأنْزَلْنا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ومَنافِعُ لِلنّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ بِالغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ . (p-٢٢٥)ولَمّا ذَكَرَ تَعالى ما في الآخِرَةِ مِنَ المَغْفِرَةِ، أمَرَ بِالمُسابَقَةِ إلَيْها، والمَعْنى: سابِقُوا إلى سَبَبِ مَغْفِرَةٍ، وهو الإيمانُ وعَمَلُ الطّاعاتِ. وقَدْ مَثَّلَ بَعْضُهُمُ المُسابَقَةَ في أنْواعٍ؛ فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُونُوا في أوَّلِ صَفٍّ في القِتالِ. وقالَ أنَسٌ: اشْهَدُوا تَكْبِيرَةَ الإحْرامِ مَعَ الإمامِ. وقالَ عَلِيٌّ: كُنْ أوَّلَ داخِلٍ في المَسْجِدِ وآخِرَ خارِجٍ. واسْتَدَلَّ بِهَذا السَّبْقِ عَلى أنَّ أوَّلَ أوْقاتِ الصَّلَواتِ أفْضَلُ، وجاءَ لَفْظُ سابِقُوا كَأنَّهم في مِضْمارٍ يَجْرُونَ إلى غايَةٍ مُسابِقِينَ إلَيْهِمْ. (عَرْضُها): أيْ مِساحَتُها في السِّعَةِ، كَما قالَ: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ، أوِ العَرْضُ خِلافُ الطُّولِ. فَإذا وُصِفَ العَرْضُ بِالبَسْطَةِ، عُرِفَ أنَّ الطُّولَ أبْسَطُ وأمَدُّ. (أُعِدَّتْ): يَدُلُّ عَلى أنَّها مَخْلُوقَةٌ، وتَكَرُّرُ ذَلِكَ في القُرْآنِ يُقَوِّي ذَلِكَ، والسُّنَّةُ ناصَّةٌ عَلى ذَلِكَ، وذَلِكَ يَرُدُّ عَلى المُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِمْ: إنَّها الآنَ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ وسَتُخْلَقُ. (ذَلِكَ): أيِ المَوْعُودُ مِنَ المَغْفِرَةِ والجَنَّةِ، ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾: عَطاؤُهُ، ﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ﴾: وهُمُ المُؤْمِنُونَ. ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ﴾: أيْ مُصِيبَةٍ، وذَكَرَ فِعْلَها، وهو جائِزُ التَّذْكِيرِ والتَّأْنِيثِ، ومِنَ التَّأْنِيثِ ﴿ما تَسْبِقُ مِن أُمَّةٍ أجَلَها﴾ [الحجر: ٥] . ولَفْظُ مُصِيبَةٍ يَدُلُّ عَلى الشَّرِّ، لِأنَّ عُرْفَها ذَلِكَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ ما مَعْناهُ: أنَّهُ أرادَ عُرْفَ المُصِيبَةِ، وهو اسْتِعْمالُها في الشَّرِّ، وخَصَّصَها بِالذِّكْرِ لِأنَّها أهَمُّ عَلى البَشَرِ. والمُصِيبَةُ في الأرْضِ مِثْلُ القَحْطِ والزَّلْزَلَةِ وعاهَةِ الزَّرْعِ، وفي الأنْفُسِ: الأسْقامُ والمَوْتُ. وقِيلَ: المُرادُ بِالمُصِيبَةِ الحَوادِثُ كُلُّها مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، ﴿إلّا في كِتابٍ﴾: هو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، أيْ مَكْتُوبَةٍ فِيهِ، ﴿مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها﴾: أيْ نَخْلُقَها. بَرَأ: خَلَقَ، والضَّمِيرُ في نَبْرَأها الظّاهِرُ أنَّهُ يَعُودُ عَلى المُصِيبَةِ، لِأنَّها هي المُحَدَّثُ عَنْها، وذِكْرُ الأرْضِ والأنْفُسِ هو عَلى سَبِيلِ مَحَلِّ المُصِيبَةِ. وقِيلَ: يَعُودُ عَلى الأرْضِ. وقِيلَ: عَلى الأنْفُسِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ وجَماعَةٌ. وذَكَرَ المَهْدَوِيُّ جَوازَ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلى جَمِيعِ ما ذُكِرَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهي كُلُّها مَعارِفُ صِحاحٌ، لِأنَّ الكِتابَ السّابِقَ أزَلِيٌّ قَبْلَ هَذِهِ كُلِّها. انْتَهى. (إنَّ ذَلِكَ): أيْ يَحْصُلُ كُلُّ ما ذُكِرَ في كِتابٍ وتَقْدِيرُهُ، ﴿عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾: أيْ سَهْلٌ، وإنْ كانَ عَسِيرًا عَلى العِبادِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى الحِكْمَةَ في إعْلامِنا بِذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ مِن تَقْدِيرِ ذَلِكَ وسَبْقِ قَضائِهِ بِهِ فَقالَ: ﴿لِكَيْ لا تَأْسَوْا﴾: أيْ تَحْزَنُوا، ﴿عَلى ما فاتَكُمْ﴾، لِأنَّ العَبْدَ إنْ أُعْلِمَ ذَلِكَ سَلِمَ، وعَلِمَ أنَّ ما فاتَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، وما أصابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، فَلِذَلِكَ لا يَحْزَنُ عَلى فائِتٍ، لِأنَّهُ لَيْسَ بِصَدَدِ أنْ يُفَوِّتَهُ، فَهَوَّنَ عَلَيْهِ أمْرَ حَوادِثِ الدُّنْيا بِذَلِكَ، إذْ قَدْ وطَّنَ نَفْسَهُ عَلى هَذِهِ العَقِيدَةِ. ويَظْهَرُ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٣]: أنْ يُلْحِقَ الحُزْنَ الشَّدِيدَ عَلى ما فاتَ مِنَ الخَيْرِ فَيَحْدُثَ عَنْهُ التَّسَخُّطُ وعَدَمُ الرِّضا بِالمَقْدُورِ. ﴿ولا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ﴾: أنْ يَفْرَحَ الفَرَحَ المُؤَدِّيَ إلى البَطَرِ المَنهِيِّ عَنْهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ﴾ [القصص: ٧٦]، فَإنَّ الحُزْنَ قَدْ يَنْشَأُ عَنْهُ البَطَرُ، ولِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ﴾ . فالفَرَحُ بِما نالَهُ مِن حُطامِ الدُّنْيا يَلْحَقُهُ في نَفْسِهِ الخُيَلاءُ والِافْتِخارُ والتَّكَبُّرُ عَلى النّاسِ، فَمِثْلُ هَذا هو المَنهِيُّ عَنْهُ. وأمّا الحُزْنُ عَلى ما فاتَ مِن طاعَةِ اللَّهِ والفَرَحُ بِنِعَمِ اللَّهِ والشُّكْرُ عَلَيْها والتَّواضُعُ فَهو مَندُوبٌ إلَيْهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَيْسَ أحَدٌ إلّا يَحْزَنُ ويَفْرَحُ، ولَكِنْ مَن أصابَتْهُ مُصِيبَةٌ فَجَعَلَها صَبْرًا، ومَن أصابَ خَيْرًا جَعَلَهُ شُكْرًا. انْتَهى، يَعْنِي هو المَحْمُودُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: فَلا أحَدَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ مَضَرَّةٍ تَنْزِلُ بِهِ، ولا عِنْدَ مَنفَعَةٍ يَنالُها أنْ لا يَحْزَنَ ولا يَفْرَحَ. قُلْتُ: المُرادُ: الحُزْنُ المُخْرِجُ إلى ما يُذْهِلُ صاحِبَهُ عَنِ الصَّبْرِ والتَّسْلِيمِ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى ورَجاءِ ثَوابِ الصّابِرِينَ، والفَرَحُ المُطْغِي المُلْهِي عَنِ الشُّكْرِ. فَأمّا الحُزْنُ الَّذِي لا يَكادُ الإنْسانُ يَخْلُو مِنهُ مَعَ الِاسْتِسْلامِ والسُّرُورِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ والِاعْتِدادِ بِها مَعَ الشُّكْرِ، فَلا بَأْسَ بِهِ. انْتَهى. وقَرَأ الجُمْهُورُ: بِما آتاكم: أيْ أعْطاكم؛ وعَبْدُ اللَّهِ: أُوتِيتُمْ، مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ: أيْ أُعْطِيتُمْ؛ وأبُو عَمْرٍو: آتاكم: أيْ جاءَكم. ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ﴾: أيْ هُمُ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، أوْ يَكُونُ الَّذِينَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ عَلى جِهَةِ (p-٢٢٦)الإبْهامِ تَقْدِيرُهُ: مَذْمُومُونَ، أوْ مَوْعُودُونَ بِالعَذابِ، أوْ مُسْتَغْنًى عَنْهم، أوْ عَلى إضْمارِ أعْنِي فَهو في مَوْضِعِ نَصْبٍ، أوْ في مَوْضِعِ نَصْبِ صِفَةٍ لِكُلِّ مُخْتالٍ، وإنْ كانَ نَكِرَةً، فَهو مُخَصِّصٌ نَوْعًا ما، فَيَسُوغُ لِذَلِكَ وصْفُهُ بِالمَعْرِفَةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هَذا مَذْهَبُ الأخْفَشِ. انْتَهى. عَظُمَتِ الدُّنْيا في أعْيُنِهِمْ، فَبَخِلُوا أنْ يُؤَدُّوا مِنها حُقُوقَ اللَّهِ تَعالى، وما كَفاهم ذَلِكَ حَتّى أمَرُوا النّاسَ بِالبُخْلِ ورَغَّبُوهم في الإمْساكِ، والظّاهِرُ أنَّهم أمَرُوا النّاسَ حَقِيقَةً. وقِيلَ: كانُوا قُدْوَةً فِيهِ، فَكَأنَّهم يَأْمُرُونَ بِهِ. ﴿ومَن يَتَوَلَّ﴾ عَنْ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ هُوَ﴾؛ وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ: بِإسْقاطِ هو، وكَذا في مَصاحِفِ المَدِينَةِ والشّامِ، وكِلْتا القِراءَتَيْنِ مُتَواتِرَةٌ. فَمَن أثْبَتَ هو، فَقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: يَحْسُنُ أنْ يَكُونَ فَصْلًا، قالَ: ولا يَحْسُنُ أنْ يَكُونَ ابْتِداءً، لِأنَّ حَذْفَ الِابْتِداءِ غَيْرُ سائِغٍ. انْتَهى. يَعْنِي أنَّهُ في القِراءَةِ الأُخْرى حُذِفَ، ولَوْ كانَ مُبْتَدَأً لَمْ يَجُزْ حَذْفُهُ، لِأنَّكَ إذا قُلْتَ: إنَّ زَيْدًا هو الفاضِلُ، فَأعْرَبْتَ هو مُبْتَدَأً، لَمْ يَجُزْ حَذْفُهُ، لِأنَّ ما بَعْدَهُ مِن قَوْلِكَ الفاضِلُ صالِحٌ أنْ يَكُونَ خَبَرًا لِأنَّ، فَلا يَبْقى دَلِيلٌ عَلى حَذْفِ هو الرّابِطِ. ونَظِيرُهُ: ﴿الَّذِينَ هم يُراءُونَ﴾ [الماعون: ٦]، لا يَجُوزُ حَذْفُ هم، لِأنَّ ما بَعْدَهُ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ صِلَةً، فَلا يَبْقى دَلِيلٌ عَلى المَحْذُوفِ. وما ذَهَبَ إلَيْهِ أبُو عَلِيٍّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأنَّهُ بَنى ذَلِكَ عَلى تَوافُقِ القِراءَتَيْنِ وتَرْكِيبِ إحْداهُما عَلى الأُخْرى، ولَيْسَ كَذَلِكَ. ألا تَرى أنَّهُ يَكُونُ قِراءَتانِ في لَفْظٍ واحِدٍ، ولِكُلٍّ مِنهُما تَوْجِيهٌ يُخالِفُ الآخَرَ، كَقِراءَةِ مَن قَرَأ: واللَّهُ أعْلَمُ بِما وضَعْتُ. بِضَمِّ التّاءِ، والقِراءَةُ الأُخْرى: ﴿بِما وضَعَتْ﴾ [آل عمران: ٣٦] بِتاءِ التَّأْنِيثِ فَضَمُّ التّاءِ يَقْتَضِي أنَّ الجُمْلَةَ مِن كَلامِ أُمِّ مَرْيَمَ، وتاءُ التَّأْنِيثِ تَقْتَضِي أنَّها مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى، وهَذا كَثِيرٌ في القِراءاتِ المُتَواتِرَةِ. فَكَذَلِكَ هَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هو مُبْتَدَأً في قِراءَةِ مَن أثْبَتَهُ، وإنْ كانَ لَمْ يُرِدْ في القِراءَةِ الأُخْرى، ولِكُلٍّ مِنَ التَّرْكِيبَيْنِ في الإعْرابِ حُكْمٌ يَخُصُّهُ. ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ﴾: الظّاهِرُ أنَّ الرُّسُلَ هُنا هم مِن بَنِي آدَمَ، والبَيِّناتُ: الحُجَجُ والمُعْجِزاتُ. ﴿وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ﴾: ”الكِتابَ“ اسْمُ جِنْسٍ، ومَعَهم حالٌ مُقَدَّرَةٌ، أيْ وأنْزَلْنا الكِتابَ صائِرًا مَعَهم، أيْ مُقَدِّرًا صُحْبَتَهُ لَهم، لِأنَّ الرُّسُلَ مُنْزَلِينَ هم والكِتابُ. ولَمّا أشْكَلَ لَفْظُ مَعَهم عَلى الزَّمَخْشَرِيِّ، فَسَّرَ الرُّسُلَ بِغَيْرِ ما فَسَّرْناهُ، فَقالَ: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا﴾، يَعْنِي: المَلائِكَةَ، إلى الأنْبِياءِ بِالحُجَجِ والمُعْجِزاتِ، ﴿وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ﴾: أيِ الوَحْيَ، (والمِيزانَ) . ورُوِيَ أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ نَزَلَ بِالمِيزانِ، فَدَفَعَهُ إلى نُوحٍ وقالَ: مُرْ قَوْمَكَ يَزِنُوا بِهِ. ﴿وأنْزَلْنا الحَدِيدَ﴾، قِيلَ: نَزَلَ آدَمُ مِنَ الجَنَّةِ ومَعَهُ خَمْسَةُ أشْياءَ مِن حَدِيدٍ السِّنْدانُ والكَلْبَتانِ والمِيقَعَةُ والمِطْرَقَةُ والإبْرَةُ. ورُوِيَ: ومَعَهُ المِسَنُّ والمِسْحاةُ. وعَنِ النَّبِيِّ، ﷺ، «أنَّ اللَّهَ تَعالى أنْزَلَ أرْبَعَ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ، أنْزَلَ الحَدِيدَ والنّارَ والماءَ والمِلْحَ» . انْتَهى. وأكْثَرُ المُتَأوِّلِينَ عَلى أنَّ المُرادَ بِالمِيزانِ: العَدْلُ، فَقالَ ابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهُ: أرادَ بِالمَوازِينِ: المَعْرِفَةَ بَيْنَ النّاسِ، وهَذا جُزْءٌ مِنَ العَدْلِ. ﴿لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾: الظّاهِرُ أنَّهُ عِلَّةٌ لِإنْزالِ المِيزانِ فَقَطْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عِلَّةً لِإنْزالِ الكِتابِ والمِيزانِ مَعًا، لِأنَّ القِسْطَ هو العَدْلُ في جَمِيعِ الأشْياءِ مِن سائِرِ التَّكالِيفِ، فَإنَّهُ لا يَجُورُ في شَيْءٍ مِنها، ولِذَلِكَ جاءَ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةُ وأُولُوا العِلْمِ قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] . ﴿وأنْزَلْنا الحَدِيدَ﴾: عَبَّرَ عَنْ إيجادِهِ بِالإنْزالِ، كَما قالَ: ﴿وأنْزَلَ لَكم مِنَ الأنْعامِ﴾ [الزمر: ٦] . وأيْضًا فَإنَّ الأوامِرَ وجَمِيعَ القَضايا والأحْكامِ لَمّا كانَتْ تُلْقى مِنَ السَّماءِ، جُعِلَ الكُلُّ نُزُولًا مِنها، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقالَ الجُمْهُورُ: أرادَ بِالحَدِيدِ جِنْسَهُ مِنَ المَعادِنِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَ آدَمُ مِنَ الجَنَّةِ ومَعَهُ السِّنْدانِ والكَلْبَتانِ والمِيقَعَةُ. ﴿فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾: أيِ السِّلاحُ الَّذِي (p-٢٢٧)يُباشَرُ بِهِ القِتالُ، ﴿ومَنافِعُ لِلنّاسِ﴾: في مَصالِحِهِمْ ومَعايِشِهِمْ وصَنائِعِهِمْ؛ فَما مِن صِناعَةٍ إلّا والحَدِيدُ آلَةٌ فِيها. ﴿ولِيَعْلَمَ اللَّهُ﴾ عِلَّةٌ لِإنْزالِ الكِتابِ والمِيزانِ والحَدِيدِ. ﴿مَن يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ﴾ بِالحُجَجِ والبَراهِينِ المُنْتَزَعَةِ مِنَ الكِتابِ المُنَزَّلِ، وبِإقامَةِ العَدْلِ، وبِما يُعْمَلُ مِن آلَةِ الحَرْبِ لِلْجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أيْ لِيَعْلَمَهُ مَوْجُودًا، فالتَّغَيُّرُ لَيْسَ في عِلْمِ اللَّهِ، بَلْ في هَذا الحَدَثِ الَّذِي خَرَجَ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ. وقَوْلُهُ: (بِالغَيْبِ) مَعْناهُ: بِما سَمِعَ مِنَ الأوْصافِ الغائِبَةِ عَنْهُ، فَآمَنَ بِها لِقِيامِ الأدِلَّةِ عَلَيْها. ولَمّا قالَ تَعالى: ﴿مَن يَنْصُرُهُ ورُسُلَهُ﴾، ذَكَرَ تَعالى أنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ نُصْرَتِهِ بِقُدْرَتِهِ وعِزَّتِهِ، وأنَّهُ إنَّما كَلَّفَهُمُ الجِهادَ لِمَنفَعَةِ أنْفُسِهِمْ، وتَحْصِيلِ ما يَتَرَتَّبُ لَهم مِنَ الثَّوابِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَتَرَتَّبُ مَعْنى الآيَةِ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أخْبَرَ بِأنَّهُ أرْسَلَ رُسُلَهُ، وأنْزَلَ كُتُبًا وعَدْلًا مَشْرُوعًا، وسِلاحًا يُحارَبُ بِهِ مَن عانَدَ ولَمْ يَهْتَدِ بِهَدْيِ اللَّهِ، فَلَمْ يَبْقَ عُذْرٌ. وفي الآيَةِ، عَلى هَذا التَّأْوِيلِ، حَثٌّ عَلى القِتالِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب