الباحث القرآني

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ. قرأ ابن كثير وعاصم برواية أبي بكر والمفضل بتخفيف الصادين من التصديق مجازه: إن المؤمنين والمؤمنات. وقرأ الباقون: بتشديدهما بمعنى أن المتصدقين والمتصدقات، فأدغم التاء في الصاد كالمزمل والمدثر، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم اعتبارا لقراءة أبي: (إن المتصدقين والمتصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا) بالصدقة والنفقة في سبيله. قال الحسن: كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع وإنما عطف بالفعل على الاسم لأنه في تقدير الفعل، مجازه: إن الذين صدقوا وأقرضوا يضاعف لهم أمثالها. قراءة العامة: بالألف وفتح العين. وقرأ الأعمش: (يضاعِفه) بكسر العين وزيادة هاء. وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو جعفر (يضعّف) بالتشديد. وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وهو الجنة وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ واحدهم: صديق وهو الكثير الصدق. قال الضحاك: هم ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر وعلي وزيد وعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد وحمزة بن عبد المطلب، تاسعهم عمر بن الخطاب ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نبيّه. وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ اختلف العلماء في نظم هذه الآية وحكمها، فقال قوم: تمام الكلام عند قوله: الصِّدِّيقُونَ ثم ابتدأ فقال: وَالشُّهَداءُ وأراد بهم شهداء المؤمنين خاصة، والواو فيه واو الاستثناء، وهذا قول ابن عباس ومسروق وجماعة من العلماء. وقال الآخرون: هي متصلة بما قبلها، والواو فيه واو النسق. ثم اختلفوا في معناها، فقال الضحّاك: نزلت في قوم مخصوصين من المؤمنين، وكانوا كلّهم شهداء، وقد مرّ ذكرهم. وقال غيره: نزلت في المؤمنين المخلصين كلّهم. أخبرني عبد الله بن حامد- إجازة- قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا عبد الله ابن غنام النخعي قال: حدّثنا أبو كريب قال: حدّثنا عبيد بن سعيد، عن شعبة، عن أبي قيس، عن الهرمل، عن عبد الله قال: إنّ الرجل ليقاتل الناس ليرى مكانه، وإنّ الرجل ليقاتل على الدنيا، وإنّ الرجل ليقاتل ابتغاء وجه الله، وإنّ الرجل ليموت على فراشه فيكون شهيدا، ثم قرأ: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن خالد قال: حدّثنا داود بن سليمان قال: حدّثنا عبد بن حميد قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا سفيان بن ليث، عن مجاهد قال: كلّ مؤمن صدّيق شهيد، ثم قرأ هذه الآية، يعني موصولة. وقال ابن عباس في بعض الروايات: أراد بالشهداء الأنبياء خاصّة. لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ في ظلمة القيامة. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا: (ما) صلة مجازه اعْلَمُوا ... لَعِبٌ باطل لا حاصل له وَلَهْوٌ: فرح ثم ينقضي وَزِينَةٌ منظر يتزيّنون به، وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ: يفخر به بعضكم على بعض، وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي يتاه بكثرة الأموال والأولاد. وقال بعض المتأوّلين من المتأخّرين: لعب كلعب الصبيان، ولهو كلهو الفتيان، وزينة كزينة النسوان، وتفاخر كتفاخر الأقران، وتكاثر كتكاثر الدهقان. وقال عليّ بن ابي طالب لعمار بن ياسر: «لا تحزن على الدنيا، فإن الدنيا ستّة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومشموم، ومركوب، ومنكوح. فأكبر طعامها العسل وهي بزقة ذبابة، وأكبر شرابها الماء ويستوي فيه جميع الحيوان، وأكبر الملبوس الديباج وهي نسجة دود، وأكبر المشموم المسك، وهي دم فأرة ظبية، وأكبر المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأكبر المنكوح النساء وهو مبال في مبال. والله إن المرأة ليزيّن أحسنها يراد به أقبحها» [[تفسير القرطبي: 17/ 255.]] . ثم ضرب جلّ ذكره لها مثلا فقال عزّ من قائل: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي الزّرّاع نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً فيبلى ويفنى وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ، يعني: أو مغفرة مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ سابِقُوا: سارعوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها: سعتها كعرض السماوات والأرض لوصل بعضها ببعض. وقال ابن كيسان: عنى به جنّة واحدة من الجنان. أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ بالجدب والقحط وذهاب الزرع والثمر وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ بالأوصاب والأسقام. وقال الشعبي: المصيبة: ما يكون من خير وشرّ وما يسيء ويسرّ. ودليل هذا التأويل قوله سبحانه: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [[سورة الحديد: 23.]] فذكر الحالتين جميعا: إِلَّا فِي كِتابٍ يعني: اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها: من قبل أن نخلق الأرض والأنفس. وقال ابن عباس: يعني المصيبة. وقال أبو العالية: يعني النسمة. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إن خلق ذلك وحفظه على الله هيّن. أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمّد بن مخلد قال: أخبرنا داود قال: حدّثنا عبيد قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا الربيع بن أبي صالح قال: دخلت على سعيد بن جبير في نفر فبكى رجل من القوم، فقال: ما يبكيك؟ قال: أبكي لما أرى بك ولما يذهب بك إليه. قال: فلا تبك، فإنّه كان في علم الله سبحانه أن يكون، ألم تسمع إلى قول الله عزّ وجلّ: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ الآية. لِكَيْلا تَأْسَوْا: تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من الدنيا، وَلا تَفْرَحُوا: تبطروا بِما آتاكُمْ. قراءة العامّة بمدّ الألف، أي (أعطاكم) ، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو عمرو بقصر الألف أي: (جاءكم) ، واختاره أبو عبيد، قال: لقوله سبحانه: فاتَكُمْ ولم يقل: (أفاتكم) فجعل له، فكذلك (أتاكم) جعل الفعل له ليوافق الكلام بعضه بعضا. قال عكرمة: ما من أحد إلّا وهو يفرح ويحزن فاجعلوا للفرح شكرا وللحزن صبرا. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ: متكبّر بما أوتي من الدنيا، فخور به على الناس. وقال ابن مسعود: لأن الحس جمرة أحرقت ما أحرقت، وأبقت ما أبقت، أحبّ إليّ من أن أقول لشيء كان: ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن: ليته كان. وقال جعفر الصادق: «يا بن آدم، ما لك تأسّف [[في المصدر: تأس.]] على مفقود لا يردّه إليك الفوت؟ وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟» [[تفسير القرطبي: 17/ 258.]] . وقيل لبزرجمهر: ما لك أيها الحكيم لا تأسف على ما فات ولا تفرح بما هو آت؟ فقال: لأنّ الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة. وقال الفضيل في هذا المعنى: الدنيا مفيد ومبيد فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد فقد أذن بالرحيل. وقال الحسين بن الفضل: حمل الله سبحانه بهذه الآية المؤمنين على مضض الصبر على الفائت، وترك الفرح بالآتي، والرضا بقضائه في الحالتين جميعا. وقال قتيبة بن سعيد: دخلت بعض أحياء العرب فإذا أنا بفضاء من الأرض مملوء من الإبل الموتى والجيف بحيث لا أحصي عددها، فسألت عجوزا: لمن كانت هذه الإبل؟ فأشارت إلى شيخ على تلّ يغزل صوفا، فقلت له: يا شيخ ألك كانت هذه الإبل؟ قال: كانت باسمي. قلت: فما أصابها؟ قال: ارتجعها الذي أعطاها. قلت: وهل قلت في ذلك شيئا؟ قال: نعم: لا والذي أخذ [ ... ] [[كلمة غير مقروءة.]] من خلائقه ... والمرء في الدهر نصب الرزء والمحن ما سرّني أنّ إبلي في مباركها ... وما جرى في قضاء الله لم يكن [[زاد المسير لابن الجوزي: 7/ 308.]] وقال سلم الخوّاص: من أراد أن يأكل الدارين فليدخل في مذهبنا عامين ليضع الله سبحانه الدنيا والآخرة بين يديه. قيل: وما مذهبكم؟ قال: الرضا بالقضا، ومخالفة الهوى. وأنشد: لا تطل الحزن على فائت ... فقلّما يجدي عليك الحزن سيّان محزون على ما مضى ... ومظهر حزنا لما لم يكن الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، قيل: هو في محل الخفض على نعت (المختال) ، وقيل: هو رفع بالابتداء وخبره ما بعده. وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ قرأ أهل المدينة والشام بإسقاط (هو) وكذلك هو في مصاحفهم. الباقون بإثباته. لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ يعني له يعدل. وقال ابن زيد: ما يوزن به. لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ: ليعمل الناس بينهم بالعدل وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ، قال ابن عباس: نزل آدم من الجنّة معه خمسة أشياء من الحديد: السندان، والكلبتان، والمنقعة، والمطرقة، والإبرة. وقال أهل المعاني: يعني أنه أخرج لهم الحديد من المعادن، وعلمهم صنيعته بوحيه. وقال قطرب: هذا من النزل كما تقول: أنزل الأمر على فلان نزلا حسنا، فمعنى الآية أنه جعل ذلك نزلا لهم، ومثله قوله: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [[سورة الزمر: 6.]] . ودليل تأويل السلف من المفسرين ما أخبرنا أبو سفيان الحسن بن عبد الله الدهقان قال: حدّثنا الحسن بن إسماعيل بن خلف الخيّاط قال: حدّثنا أبو بكر محمّد بن الفرج المعدّل قال: حدّثنا محمّد بن عبيد بن عبد الملك قال: حدّثنا سفيان بن محمّد أبو محمّد (ابن أخت سفيان الثوري) عن عبد الملك بن ملك التميمي عن عبد الله بن خليفة عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ‎: «إنّ الله عزّ وجلّ أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: فأنزل الحديد، والنّار، والماء والملح» [[تفسير مجمع البيان: 9/ 401.]] [222] . فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، قوّة شديدة، يعني: السلاح والكراع، وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ ممّا يستعملونها في مصالحهم ومعايشهم إذ هو آلة لكلّ صنعة. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ، يعني: أرسلنا رسلنا، وأنزلنا معهم هذه الأشياء ليعامل الناس بالحقّ والعدل وليرى سبحانه مَنْ يَنْصُرُهُ أي دينه وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب