الباحث القرآني

ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿سابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكم وجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ والأرْضِ﴾ والمُرادُ كَأنَّهُ تَعالى قالَ: لِتَكُنْ مُفاخَرَتُكم ومُكاثَرَتُكم في غَيْرِ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ، بَلِ احْرِصُوا عَلى أنْ تَكُونَ مُسابَقَتُكم في طَلَبِ الآخِرَةِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى أمَرَ بِالمُسارَعَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وسارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ﴾ [ آلِ عِمْرانَ: ١٣٣] ثُمَّ شَرَحَ هَهُنا كَيْفِيَّةَ تِلْكَ المُسارَعَةِ، فَقالَ: ﴿سابِقُوا﴾ مُسارَعَةَ المُسابِقِينَ لِأقْرانِهِمْ في المِضْمارِ، وقَوْلُهُ: ﴿إلى مَغْفِرَةٍ﴾ فِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: لا شَكَّ أنَّ المُرادَ مِنهُ المُسارَعَةُ إلى ما يُوجِبُ المَغْفِرَةَ، فَقالَ قَوْمٌ: المُرادُ سابِقُوا إلى التَّوْبَةِ، وقالَ آخَرُونَ: المُرادُ سابِقُوا إلى سائِرِ ما كُلِّفْتُمْ بِهِ، فَدَخَلَ فِيهِ التَّوْبَةُ، وهَذا أصَحُّ؛ لِأنَّ المَغْفِرَةَ والجَنَّةَ لا يُنالانِ إلّا بِالِانْتِهاءِ عَنْ جَمِيعِ المَعاصِي والِاشْتِغالِ بِكُلِّ الطّاعاتِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ القائِلُونَ بِأنَّ الأمْرَ يُفِيدُ الفَوْرَ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالُوا: هَذِهِ الآيَةُ دَلَّتْ عَلى وُجُوبِ المُسارَعَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ التَّراخِي مَحْظُورًا، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ والأرْضِ﴾ وقالَ في آلِ عِمْرانَ: ﴿وجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ والأرْضُ﴾، فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّ السَّماواتِ السَّبْعَ والأرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ جُعِلَتْ صَفائِحَ وأُلْزِقَ بَعْضُها بِبَعْضٍ لَكانَتِ الجَنَّةُ في عَرْضِها. هَذا قَوْلُ مُقاتِلٍ. وثانِيها: قالَ: عَطاءٌ [ عَنِ ] ابْنِ عَبّاسٍ: يُرِيدُ أنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنَ المُطِيعِينَ جَنَّةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ. وثالِثُها: قالَ السُّدِّيُّ: إنَّ اللَّهَ (p-٢٠٥)تَعالى شَبَّهَ عَرْضَ الجَنَّةِ بِعَرْضِ السَّماواتِ السَّبْعِ والأرَضِينَ السَّبْعِ، ولا شَكَّ أنَّ طُولَها أزْيَدُ مِن عَرْضِها، فَذَكَرَ العَرْضَ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ طُولَها أضْعافُ ذَلِكَ. ورابِعُها: أنَّ هَذا تَمْثِيلٌ لِلْعِبادَةِ بِما يَعْقِلُونَهُ ويَقَعُ في نُفُوسِهِمْ وأفْكارِهِمْ، وأكْثَرُ ما يَقَعُ في نُفُوسِهِمْ مِقْدارُ السَّماواتِ والأرْضِ. وهَذا قَوْلُ الزَّجّاجِ. وخامِسُها: وهو اخْتِيارُ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الجِنانَ أرْبَعَةٌ، قالَ تَعالى: ﴿ولِمَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ﴾ [الرحمن: ٤٦] وقالَ: ﴿ومِن دُونِهِما جَنَّتانِ﴾ [الرحمن: ٦٢] فالمُرادُ هَهُنا تَشْبِيهُ واحِدَةٍ مِن تِلْكَ الجِنانِ في العَرْضِ بِالسَّماواتِ السَّبْعِ والأرْضِينَ السَّبْعِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: احْتَجَّ جُمْهُورُ الأصْحابِ بِهَذا عَلى أنَّ الجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ (الآيَةُ) لا يُمْكِنُ إجْراؤُها عَلى ظاهِرِها لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أُكُلُها دائِمٌ﴾ [الرعد: ٣٥] يَدُلُّ عَلى أنَّ مِن صِفَتِها بَعْدَ وُجُودِها أنْ لا تَفْنى، لَكِنَّها لَوْ كانَتِ الآنَ مَوْجُودَةً لَفَنِيَتْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إلّا وجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] . الثّانِي: أنَّ الجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ وهي الآنَ في السَّماءِ السّابِعَةِ، ولا يَجُوزُ مَعَ أنَّها في واحِدَةٍ مِنها أنْ يَكُونَ عَرْضُها كَعَرْضِ كُلِّ السَّماواتِ، قالُوا: فَثَبَتَ بِهَذَيْنَ الوَجْهَيْنِ أنَّهُ لا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ، وذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا كانَ قادِرًا لا يَصِحُّ المَنعُ عَلَيْهِ، وكانَ حَكِيمًا لا يَصِحُّ الخُلْفُ في وعْدِهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى وعَدَ عَلى الطّاعَةِ بِالجَنَّةِ، فَكانَتِ الجَنَّةُ كالمَعِدَةِ المُهَيَّأةِ لَهم تَشْبِيهًا لِما سَيَقَعُ قَطْعًا بِالواقِعِ، وقَدْ يَقُولُ المَرْءُ لِصاحِبِهِ: ”أعْدَدْتُ لَكَ المُكافَأةَ“ إذا عَزَمَ عَلَيْها، وإنْ لَمْ يُوجِدْها. والثّانِي: أنَّ المُرادَ إذا كانَتِ الآخِرَةُ أعَدَّها اللَّهُ تَعالى لَهم كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونادى أصْحابُ النّارِ أصْحابَ الجَنَّةِ﴾ أيْ إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ نادى. (الجَوابُ) أنَّ قَوْلَهُ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ﴾ عامٌّ، وقَوْلَهُ: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿أُكُلُها دائِمٌ﴾ خاصٌّ، والخاصٌّ مُقَدَّمٌ عَلى العامِّ، وأمّا قَوْلُهُ ثانِيًا ”الجَنَّةُ مَخْلُوقَةٌ في السَّماءِ السّابِعَةِ“ قُلْنا: إنَّها مَخْلُوقَةٌ فَوْقَ السَّماءِ السّابِعَةِ عَلى ما قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ في صِفَةِ الجَنَّةِ: ”«سَقْفُها عَرْشُ الرَّحْمَنِ» “ وأيُّ اسْتِبْعادٍ في أنْ يَكُونَ المَخْلُوقُ فَوْقَ الشَّيْءِ أعْظَمَ مِنهُ ؟ ألَيْسَ أنَّ العَرْشَ أعْظَمُ المَخْلُوقاتِ مَعَ أنَّهُ مَخْلُوقٌ فَوْقَ السَّماءِ السّابِعَةِ. * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ﴾ فِيهِ أعْظَمُ رَجاءٍ وأقْوى أمَلٍ، إذْ ذَكَرَ أنَّ الجَنَّةَ أُعِدَّتْ لِمَن آمَنَ بِاللَّهِ ورُسُلِهِ، ولَمْ يَذْكُرْ مَعَ الإيمانِ شَيْئًا آخَرَ، والمُعْتَزِلَةُ وإنْ زَعَمُوا أنَّ لَفْظَ الإيمانِ يُفِيدُ جُمْلَةَ الطّاعاتِ بِحُكْمِ تَصَرُّفِ الشَّرْعِ، لَكِنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِأنَّ لَفْظَ الإيمانِ إذا عُدِّيَ بِحَرْفِ الباءِ فَإنَّهُ باقٍ عَلى مَفْهُومِهِ الأصْلِيِّ وهو التَّصْدِيقُ، فالآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، ومِمّا يَتَأكَّدُ بِهِ ما ذَكَرْناهُ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ﴾ يَعْنِي أنَّ الجَنَّةَ فَضْلٌ لا مُعامَلَةٌ، فَهو يُؤْتِيها مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ سَواءٌ أطاعَ أوْ عَصى، فَإنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُكم أنْ تَقْطَعُوا بِحُصُولِ الجَنَّةِ لِجَمِيعِ العُصاةِ، وأنْ تَقْطَعُوا بِأنَّهُ لا عِقابَ لَهم ؟ قُلْنا: نَقْطَعُ بِحُصُولِ الجَنَّةِ لَهم، ولا نَقْطَعُ بِنَفْيِ العِقابِ عَنْهم؛ لِأنَّهم إذا عُذِّبُوا مُدَّةً ثُمَّ نُقِلُوا إلى الجَنَّةِ وبَقُوا فِيها أبَدَ الآبادِ فَقَدْ كانَتِ الجَنَّةُ مُعَدَّةً لَهم، فَإنْ قِيلَ: فالمُرْتَدُّ قَدْ آمَنُ بِاللَّهِ، فَوَجَبَ أنْ يَدْخُلَ تَحْتَ الآيَةِ، قُلْتُ: خُصَّ مِنَ العُمُومِ، فَيَبْقى العُمُومُ حُجَّةً فِيما عَداهُ. * * * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ﴾ زَعَمَ جُمْهُورُ أصْحابِنا أنَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ تَفَضُّلٌ مَحْضٌ لا أنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِالعَمَلِ، وهَذا أيْضًا قَوْلُ الكَعْبِيِّ مِنَ المُعْتَزِلَةِ، واحْتَجُّوا عَلى صِحَّةِ هَذا المَذْهَبِ بِهَذِهِ الآيَةِ، أجابَ القاضِي عَنْهُ فَقالَ: هَذا إنَّما يَلْزَمُ لَوِ امْتَنَعَ بَيْنَ كَوْنِ الجَنَّةِ مُسْتَحَقَّةً وبَيْنَ كَوْنِها فَضْلًا مِنَ اللَّهِ تَعالى، فَأمّا إذا صَحَّ اجْتِماعُ الصِّفَتَيْنِ فَلا يَصِحُّ هَذا الِاسْتِدْلالُ، وإنَّما قُلْنا: إنَّهُ لا مُنافاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ؛ لِأنَّهُ تَعالى هو المُتَفَضِّلُ بِالأُمُورِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ المُكَلَّفُ مَعَها مِن كَسْبِ هَذا الِاسْتِحْقاقِ، فَلَمّا كانَ تَعالى مُتَفَضِّلًا بِما يُكْسِبُ أسْبابَ هَذا الِاسْتِحْقاقِ كانَ مُتَفَضِّلًا بِها، قالَ: ولَمّا ثَبَتَ هَذا، ثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ﴾ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا بِما يَسْتَحِقُّهُ، ولَوْلا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِن قَبْلُ: ﴿سابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ﴾ مَعْنًى. واعْلَمْ أنَّ هَذا ضَعِيفٌ؛ لِأنَّ كَوْنَهُ تَعالى مُتَفَضِّلًا بِأسْبابِ ذَلِكَ الكَسْبِ لا يُوجِبُ كَوْنَهُ تَعالى مُتَفَضِّلًا بِنَفْسِ الجَنَّةِ، فَإنَّ مَن وُهِبَ مِن إنْسانٍ كاغِدًا ودَواةً وقَلَمًا، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الإنْسانَ كَتَبَ بِذَلِكَ المِدادِ عَلى ذَلِكَ الكاغِدِ مُصْحَفًا وباعَهُ مِنَ الواهِبِ، لا يُقالُ: إنَّ أداءَ ذَلِكَ الثَّمَنِ تَفْضِيلٌ، بَلْ يُقالُ: إنَّهُ مُسْتَحَقٌّ، فَكَذا هَهُنا، وأمّا قَوْلُهُ أوَّلًا: إنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الِاسْتِحْقاقِ، وإلّا لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ مِن قَبْلُ: ﴿سابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ﴾ مَعْنًى، فَجَوابُهُ أنَّ هَذا الِاسْتِدْلالَ عَجِيبٌ؛ لِأنَّ لِلْمُتَفَضِّلِ أنْ يَشْرُطَ في تَفَضُّلِهِ أيَّ شَرْطٍ شاءَ، ويَقُولُ: لا أتَفَضَّلُ إلّا مَعَ هَذا الشَّرْطِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ﴾ والمُرادُ مِنهُ التَّنْبِيهُ عَلى عِظَمِ حالِ الجَنَّةِ، وذَلِكَ لِأنَّ ذا الفَضْلِ العَظِيمِ إذا أعْطى عَطاءً مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ وأثْنى بِسَبَبِهِ عَلى نَفْسِهِ، فَإنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ ذَلِكَ العَطاءُ عَظِيمًا. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ في الأرْضِ ولا في أنْفُسِكم إلّا في كِتابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها إنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: إنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿سابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ﴾ بَيَّنَ أنَّ المُؤَدِّيَ إلى الجَنَّةِ والنّارِ لا يَكُونُ إلّا بِقَضاءٍ وقَدَرٍ، فَقالَ: ﴿ما أصابَ مِن مُصِيبَةٍ﴾ والمَعْنى لا تُوجَدُ مُصِيبَةٌ مِن هَذِهِ المَصائِبِ إلّا وهي مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ، والمُصِيبَةُ في الأرْضِ هي قَحْطُ المَطَرِ، وقِلَّةُ النَّباتِ، ونَقْصُ الثِّمارِ، وغَلاءُ الأسْعارِ، وتَتابُعُ الجُوعِ. والمُصِيبَةُ في الأنْفُسِ فِيها قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّها هي: الأمْراضُ، والفَقْرُ، وذَهابُ الأوْلادِ، وإقامَةُ الحُدُودِ عَلَيْها. والثّانِي: أنَّها تَتَناوَلُ الخَيْرَ والشَّرَّ أجْمَعَ؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكم ولا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ﴾ [الحديد: ٢٣] ثُمَّ قالَ: ﴿إلّا في كِتابٍ﴾ يَعْنِي مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ جَمِيعَ الحَوادِثِ الأرْضِيَّةِ قَبْلَ دُخُولِها في الوُجُودِ مَكْتُوبَةٌ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ. قالَ المُتَكَلِّمُونَ: وإنَّما كَتَبَ كُلَّ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: تَسْتَدِلُّ المَلائِكَةُ بِذَلِكَ المَكْتُوبِ عَلى كَوْنِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عالِمًا بِجَمِيعِ الأشْياءِ قَبْلَ وُقُوعِها. وثانِيها: لِيَعْرِفُوا حِكْمَةَ اللَّهِ فَإنَّهُ تَعالى مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّهم يُقْدِمُونَ عَلى تِلْكَ المَعاصِي خَلَقَهم ورَزَقَهم. وثالِثُها: لِيَحْذَرُوا مِن أمْثالِ تِلْكَ المَعاصِي. ورابِعُها: لِيَشْكُرُوا اللَّهَ تَعالى عَلى تَوْفِيقِهِ إيّاهم عَلى الطّاعاتِ وعِصْمَتِهِ إيّاهم مِنَ المَعاصِي. وقالَتِ الحُكَماءُ: إنَّ المَلائِكَةَ الَّذِينَ وصَفَهُمُ اللَّهُ بِأنَّهم هُمُ المُدَبِّراتُ أمْرًا، وهُمُ المُقَسِّماتُ أمْرًا، إنَّما هي المَبادِئُ لِحُدُوثِ الحَوادِثِ في (p-٢٠٧)هَذا العالَمِ السُّفْلِيِّ بِواسِطَةِ الحَرَكاتِ الفَلَكِيَّةِ والِاتِّصالاتِ الكَوْكَبِيَّةِ، فَتَصَوُّراتُها لِانْسِياقِ تِلْكَ الأسْبابِ إلى المُسَبَّباتِ هو المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلّا في كِتابٍ﴾ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ جُمْهُورُ أهْلِ التَّوْحِيدِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّهُ تَعالى عالِمٌ بِالأشْياءِ قَبْلَ وُقُوعِها خِلافًا لِهِشامِ بْنِ الحَكَمِ، ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ أنَّهُ تَعالى لَمّا كَتَبَها في الكِتابِ قَبْلَ وُقُوعِها وجاءَتْ مُطابِقَةً لِذَلِكَ الكِتابِ عَلِمْنا أنَّهُ تَعالى عالِمًا بِها بِأسْرِها. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ: ﴿ولا في أنْفُسِكُمْ﴾ يَتَناوَلُ جَمِيعَ مَصائِبِ الأنْفُسِ فَيَدْخُلُ فِيها كُفْرُهم ومَعاصِيهِمْ، فالآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّ جَمِيعَ أعْمالِهِمْ بِتَفاصِيلِها مَكْتُوبَةٌ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، ومُثْبَتَةٌ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى، فَكانَ الِامْتِناعُ مِن تِلْكَ الأعْمالِ مُحالًا؛ لِأنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِوُجُودِها مُنافٍ لِعَدَمِها، والجَمْعُ بَيْنَ المُتَنافِيَيْنِ مُحالٌ، فَلَمّا حَصَلَ العِلْمُ بِوُجُودِها، وهَذا العِلْمُ مُمْتَنِعُ الزَّوالِ كانَ الجَمْعُ بَيْنَ عَدَمِها وبَيْنَ عِلْمِ اللَّهِ بِوُجُودِها مُحالًا. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: أنَّهُ تَعالى لَمْ يَقُلْ: إنَّ جَمِيعَ الحَوادِثِ مَكْتُوبَةٌ في الكِتابِ؛ لِأنَّ حَرَكاتِ أهْلِ الجَنَّةِ والنّارِ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ، فَإثْباتُها في الكِتابِ مُحالٌ، وأيْضًا خَصَّصَ ذَلِكَ بِالأرْضِ والأنْفُسِ وما أدْخَلَ فِيها أحْوالَ السَّماواتِ، وأيْضًا خَصَّصَ ذَلِكَ بِمَصائِبِ الأرْضِ والأنْفُسِ لا بِسَعاداتِ الأرْضِ والأنْفُسِ، وفي كُلِّ هَذِهِ الرُّمُوزِ إشاراتٌ وأسْرارٌ، أمّا قَوْلُهُ: ﴿مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها﴾ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقالَ بَعْضُهم: مِن قَبْلِ أنْ نَخْلُقَ هَذِهِ المَصائِبَ، وقالَ بَعْضُهم: بَلِ المُرادُ الأنْفُسُ، وقالَ آخَرُونَ: بَلِ المُرادُ نَفْسُ الأرْضِ، والكُلُّ مُحْتَمَلٌ؛ لِأنَّ ذِكْرَ الكُلِّ قَدْ تَقَدَّمَ وإنْ كانَ الأقْرَبُ نَفْسَ المُصِيبَةِ؛ لِأنَّها هي المَقْصُودُ، وقالَ آخَرُونَ: المُرادُ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأ المَخْلُوقاتِ، والمَخْلُوقاتُ وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُها إلّا أنَّها لِظُهُورِها يَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلَيْها كَما في قَوْلِهِ: ﴿إنّا أنْزَلْناهُ﴾ . * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: إنَّ حِفْظَ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ هَيِّنٌ. والثّانِي: إنَّ إثْباتَ ذَلِكَ عَلى كَثْرَتِهِ في الكِتابِ يَسِيرٌ عَلى اللَّهِ وإنْ كانَ عَسِيرًا عَلى العِبادِ، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿وما يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ ولا يُنْقَصُ مِن عُمُرِهِ إلّا في كِتابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [فاطر: ١١] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب