الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ وَجْهُ الِاتِّصَالِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتْرُكُ الْجِهَادَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْقَتْلِ، وَخَوْفًا مِنْ لُزُومِ الْمَوْتِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا مُنْقَضِيَةٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ أَمْرَ اللَّهِ مُحَافَظَةً عَلَى مَا لَا يَبْقَى. وَ (مَا) صِلَةٌ تَقْدِيرُهُ: اعْلَمُوا أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَعِبٌ بَاطِلٌ وَلَهْوُ فَرَحٍ ثُمَّ يَنْقَضِي. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَعِبٌ وَلَهْوٌ: أَكْلٌ وَشُرْبٌ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَلَى الْمَعْهُودِ مِنَ اسْمِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ لَعِبٍ لَهْوٌ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي (الْأَنْعَامِ) [[راجع ج ٦ ص (٤١٤)]] وَقِيلَ: اللَّعِبُ مَا رَغِبَ فِي الدُّنْيَا، وَاللَّهْوُ مَا أَلْهَى عَنِ الْآخِرَةِ، أَيْ شَغَلَ عَنْهَا. وَقِيلَ: اللَّعِبُ الِاقْتِنَاءُ، وَاللَّهْوُ النِّسَاءُ. (وَزِينَةٌ) الزِّينَةِ مَا يُتَزَيَّنُ بِهِ، فَالْكَافِرُ يَتَزَيَّنُ بِالدُّنْيَا وَلَا يَعْمَلُ لِلْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَزَيَّنَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ. (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ) أَيْ يَفْخَرُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِهَا. وَقِيلَ: بِالْخِلْقَةِ وَالْقُوَّةِ. وَقِيلَ: بِالْأَنْسَابِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْمُفَاخَرَةِ بِالْآبَاءِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) وَصَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: (أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا. (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) لِأَنَّ عَادَةَ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ تَتَكَاثَرَ بِالْأَبْنَاءِ وَالْأَمْوَالِ، وَتَكَاثُرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: (لَعِبٌ) كَلَعِبِ الصِّبْيَانِ (وَلَهْوٌ) كَلَهْوِ الْفِتْيَانِ (وَزِينَةٌ) كَزِينَةِ النِّسْوَانِ (وَتَفاخُرٌ) كَتَفَاخُرِ الْأَقْرَانِ (وَتَكاثُرٌ) كَتَكَاثُرِ الدِّهْقَانِ [[الدهقان- بكسر الدال وضمها-: التاجر، فارسي معرب.]]. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ الدُّنْيَا كَهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ. وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِعَمَّارٍ: لَا تَحْزَنْ عَلَى الدُّنْيَا فَإِنَّ الدُّنْيَا سِتَّةُ أَشْيَاءَ: مَأْكُولٌ وَمَشْرُوبٌ وَمَلْبُوسٌ وَمَشْمُومٌ وَمَرْكُوبٌ وَمَنْكُوحٌ، فَأَحْسَنُ طَعَامِهَا الْعَسَلُ وَهُوَ بَزْقَةُ ذُبَابَةٍ، وَأَكْثَرُ شَرَابِهَا الْمَاءُ يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ الْحَيَوَانِ، وَأَفْضَلُ مَلْبُوسِهَا الدِّيبَاجُ وَهُوَ نَسْجُ دُودَةٍ، وَأَفْضَلُ الْمَشْمُومِ الْمِسْكُ وَهُوَ دَمُ فَأْرَةٍ، وَأَفْضَلُ الْمَرْكُوبِ الْفَرَسُ وَعَلَيْهَا يُقْتَلُ الرِّجَالُ، وَأَمَّا الْمَنْكُوحُ فَالنِّسَاءُ وَهُوَ مَبَالٌ فِي مَبَالٍ وَاللَّهِ إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتُزَيِّنُ أَحْسَنَهَا يُرَادُ بِهِ أَقْبَحُهَا. ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا مَثَلًا بِالزَّرْعِ فِي غَيْثٍ فَقَالَ: (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أَيْ مَطَرٍ (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) الْكُفَّارُ هُنَا: الزُّرَّاعُ لِأَنَّهُمْ يُغَطُّونَ الْبَذْرَ [[مأخوذ من الكفر- بفتح الكاف- وهو التغطية.]]. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا كَالزَّرْعِ يُعْجِبُ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ لِخُضْرَتِهِ بِكَثْرَةِ الْأَمْطَارِ، ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَصِيرَ هَشِيمًا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِذَا أَعْجَبَ الزُّرَّاعَ فَهُوَ غَايَةُ مَا يُسْتَحْسَنُ. وَقَدْ مَضَى مَعْنَى هَذَا الْمَثَلِ فِي (يُونُسَ) [[راجع ج ٨ ص (٣٢٧)]] وَ (الكهف) [[راجع ج ١٠ ص ٤١٢]]. وقيل: الْكُفَّارُ هُنَا الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ إِعْجَابًا بِزِينَةِ الدُّنْيَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، فَإِنَّ أَصْلَ الْإِعْجَابِ لَهُمْ وَفِيهِمْ، وَمِنْهُمْ يَظْهَرُ ذَلِكَ، وَهُوَ التَّعْظِيمُ لِلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَفِي الْمُوَحِّدِينَ مِنْ ذَلِكَ فُرُوعٌ تَحْدُثُ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ، وَتَتَقَلَّلُ عِنْدَهُمْ وَتَدِقُّ إِذَا ذَكَرُوا الْآخِرَةَ. وَمَوْضِعُ الْكَافِ رَفْعٌ عَلَى الصِّفَةِ. (ثُمَّ يَهِيجُ) أَيْ يَجِفُّ بَعْدَ خُضْرَتِهِ (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) أَيْ مُتَغَيِّرًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ النُّضْرَةِ. (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أَيْ فُتَاتًا وَتِبْنًا فَيَذْهَبُ بَعْدَ حُسْنِهِ، كَذَلِكَ دُنْيَا الْكَافِرِ. (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) أَيْ لِلْكَافِرِينَ. وَالْوَقْفُ عَلَيْهِ حَسَنٌ، وَيَبْتَدِئُ (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ) أَيْ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ) تَقْدِيرُهُ إِمَّا عَذَابٌ شَدِيدٌ وَإِمَّا مَغْفِرَةٌ، فَلَا يُوقَفُ عَلَى (شَدِيدٌ). (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) هَذَا تَأْكِيدُ مَا سَبَقَ، أَيْ تَغُرُّ الْكُفَّارَ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَالدُّنْيَا لَهُ مَتَاعٌ بَلَاغٌ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْعَمَلُ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَتَاعُ الْغُرُورِ تَزْهِيدًا فِي الْعَمَلِ لِلدُّنْيَا، وَتَرْغِيبًا فِي الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ أَيْ سَارِعُوا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. وَقِيلَ: سَارِعُوا بِالتَّوْبَةِ، لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى الْمَغْفِرَةِ، قَالَهُ الكلبي. وقيل التكبيرة الاولى مع الامام، قال مَكْحُولٌ. وَقِيلَ: الصَّفُّ الْأَوَّلُ. (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) لَوْ وُصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. قَالَ الحسن: يعني جميع السموات وَالْأَرَضِينَ مَبْسُوطَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ إِلَى صَاحِبَتِهَا. وَقِيلَ: يُرِيدُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ أَيْ لِكُلِ وَاحِدٍ جَنَّةٌ بِهَذِهِ السَّعَةِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: عَنَى بِهِ جَنَّةً وَاحِدَةً مِنَ الْجَنَّاتِ. وَالْعَرْضُ أَقَلُّ مِنَ الطُّولِ، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُعَبِّرُ عَنْ سَعَةِ الشَّيْءِ بِعَرْضِهِ دُونَ طُولِهِ. قَالَ: كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلُّهُ فِي (آلِ عِمْرَانَ) [[راجع ج ٤ ص ٢٠٤]]. وَقَالَ طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ: قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَرَأَيْتُمُ اللَّيْلَ إِذَا وَلَّى وَجَاءَ النَّهَارُ أَيْنَ يَكُونُ اللَّيْلُ؟ فَقَالُوا: لَقَدْ نَزَعْتَ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ مِثْلُهُ. (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) شَرْطُ الْإِيمَانِ لَا غَيْرَ، وَفِيهِ تَقْوِيَةُ الرَّجَاءِ. وَقَدْ قِيلَ: شَرْطُ الْإِيمَانِ هُنَا وَزَادَ عَلَيْهِ فِي (آلِ عِمْرَانَ) [[راجع ج ٤ ص (٢٠٦)]] فَقَالَ: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أَيْ إِنَّ الْجَنَّةَ لَا تُنَالُ وَلَا تُدْخَلُ إِلَّا بِرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفَضْلِهِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي (الْأَعْرَافِ) [[راجع ج ٧ ص ٢٠٩]] وَغَيْرِهَا. (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب