الباحث القرآني
﴿أتُرِيدُونَ أنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكم سُلْطانًا مُبِينًا﴾؛ أيْ حُجَّةً ظاهِرَةً واضِحَةً بِمُوالاتِكُمُ الكافِرِينَ أوِ المُنافِقِينَ عَلى قَوْلِ القَفّالِ. والمَعْنى: أنَّهُ يَأْخُذُكم إنْ والَيْتُمُ الكُفّارَ بِانْتِقامٍ مِنهُ، ولَهُ عَلَيْكم في ذَلِكَ الحُجَّةُ الواضِحَةُ؛ إذْ قَدْ بَيَّنَ لَكم أحْوالَهم، ونَهاكم عَنْ مُوالاتِهِمْ. وقِيلَ السُّلْطانُ هُنا القَهْرُ والقُدْرَةُ. والمَعْنى: أنَّهُ يُسَلَّطُ عَلَيْكم بِسَبَبِ اتِّخاذِكُمِ الكُفّارَ أوْلِياءَ والسُّلْطانَ. قالَ الفَرّاءُ: أُنِّثَ، وذُكِّرَ، وبَعْضُ العَرَبِ يَقُولُ: قَضَتْ بِهِ عَلَيْكَ السُّلْطانُ، وقَدْ أخَذَتْ فُلانًا السُّلْطانُ والتَّأْنِيثُ عِنْدَ الفُصَحاءِ أكْثَرُ، انْتَهى. فَمَن ذَكَّرَ ذَهَبَ بِهِ إلى البُرْهانِ والِاحْتِجاجِ، ومَن أنَّثَ ذَهَبَ بِهِ إلى الحُجَّةِ، وإنَّما اخْتِيرَ التَّذْكِيرُ هُنا في الصِّفَةِ، وإنْ كانَ التَّأْنِيثُ أكْثَرَ؛ لِأنَّهُ وقَعَ الوَصْفُ فاصِلَةً؛ فَهَذا هو المُرَجِّحُ لِلتَّذْكِيرِ عَلى التَّأْنِيثِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والتَّذْكِيرُ أشْهَرُ، وهي لُغَةُ القُرْآنِ حَيْثُ وقَعَ، وهَذا مُخالِفٌ لِما قالَهُ الفَرّاءُ. وإذا سُمِّيَ بِهِ صاحِبُ الأمْرِ فَهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، والتَّقْدِيرُ: ذُو السُّلْطانِ؛ أيْ ذُو الحُجَّةِ عَلى النّاسِ إذْ هو مُدَبِّرُهم، والنّاظِرُ في مَصالِحِهِمْ ومَنافِعِهِمْ. وقالَ (p-٣٨٠)الزَّمَخْشَرِيُّ: لا تَتَشَبَّهُوا بِالمُنافِقِينَ في اتِّخاذِهِمُ اليَهُودَ، وغَيْرِهِمْ مِن أعْداءِ الإسْلامِ أوْلِياءَ، سُلْطانٌ: حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ، يَعْنِي: أنَّ مُوالاةَ الكافِرِينَ بَيِّنَةٌ عَلى المُنافِقِينَ. وعَنْ صَعْصَةَ بْنِ صَرْحانِ أنَّهُ قالَ لِابْنِ أخٍ لَهُ: خالِصِ المُؤْمِنَ، وخالِقِ الكافِرَ والفاجِرَ: فَإنَّ الفاجِرَ يَرْضى مِنكَ بِالخُلُقِ الحَسَنِ، وإنَّهُ يَحِقُّ عَلَيْكَ أنْ تُخالِصَ المُؤْمِنَ.
﴿إنَّ المُنافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الدَّرْكُ لِأهْلِ النّارِ كالدَّرَجِ لِأهْلِ الجَنَّةِ، إلّا أنَّ الدَّرَجاتِ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ والدِّرْكاتُ بَعْضُها أسْفَلَ مِن بَعْضٍ، انْتَهى. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الدَّرَكاتُ الطَّبَقاتُ: وأصْلُها مِنَ الإدْراكِ؛ أيْ هي مُتَدارِكَةٌ مُتَلاحِقَةٌ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو هُرَيْرَةَ: هي مِن تَوابِيتَ مِن حَدِيدٍ مُتَعَلِّقَةٍ في قَعْرِ جَهَنَّمَ، والنّارُ سَبْعُ دَرَكاتٍ، قِيلَ أوَّلُها جَهَنَّمُ، ثُمَّ لَظًى، ثُمَّ الحُطَمَةُ، ثُمَّ السَّعِيرُ، ثُمَّ سَقَرُ، ثُمَّ الجَحِيمُ، ثُمَّ الهاوِيَةُ. وقَدْ تُسَمّى جَمِيعُها بِاسْمِ الطَّبَقَةِ الأُولى، وبَعْضُ الطَّبَقاتِ بِاسْمِ بَعْضٍ؛ لِأنَّ لَفْظَ النّارِ يَجْمَعُها. وقالَ ابْنُ عُمَرَ: أشَدُّ النّاسِ عَذابًا يَوْمَ القِيامَةِ المُنافِقُونَ، ومَن كَفَرَ مِن أصْحابِ المائِدَةِ وآلِ فِرْعَوْنَ. وتَصْدِيقُ ذَلِكَ في كِتابِ اللَّهِ هَذِهِ الآيَةُ في المُنافِقِينَ و﴿فَإنِّي أُعَذِّبُهُ عَذابًا لا أُعَذِّبُهُ أحَدًا مِنَ العالَمِينَ﴾ [المائدة: ١١٥] و﴿أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾ [غافر: ٤٦]؛ وإنَّما كانَ المُنافِقُ أشَدَّ عَذابًا مِن غَيْرِهِ مِنَ الكُفّارِ؛ لِأنَّهُ مِثْلُهُ في الكُفْرِ، وضَمَّ إلى الكُفْرِ الِاسْتِهْزاءَ بِالإسْلامِ، وأهْلِهِ والمُداجاةَ، وإطْلاعَ الكُفّارِ عَلى أسْرارِ المُسْلِمِينَ فَهو أشَدُّ غَوائِلَ مِنَ الكُفّارِ، وأشَدُّ تَمْكِينًا مِن أذى المُسْلِمِينَ.
وقَرَأ الحَرَمِيّانِ والعَرَبِيّانِ: ﴿فِي الدَّرْكِ﴾ بِفَتْحِ الرّاءِ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ والأعْمَشُ، ويَحْيى بْنُ وثّابٍ: بِسُكُونِها، واخْتُلِفَ عَنْ عاصِمٍ. ورَوى الأعْمَشُ والبَرْجَمِيُّ الفَتْحَ. وغَيْرُهُما الإسْكانَ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهُما لُغَتانِ كالشَّمْعِ والشَّمَعِ، واخْتارَ بَعْضُهُمُ الفَتْحَ لِقَوْلِهِمْ: في الجَمْعِ أدْراكٌ كَجَمَلٍ وأجْمالٍ يَعْنِي: أنَّهُ يَنْقاسُ في فَعَلٍ وأفْعالٍ، ولا يَنْقاسُ في فَعْلٍ. وقالَ عاصِمٌ: لَوْ كانَ بِالفَتْحِ لَقِيلَ السُّفْلى. قالَ بَعْضُهم: ذَهَبَ عاصِمٌ إلى أنَّ الفَتْحَ إنَّما هو عَلى أنَّهُ جَمْعُ دَرَكَةٍ كَبَقَرَةٍ وبَقَرٍ، انْتَهى. ولا يَلْزَمُ ما ذَكَرَهُ مِنَ التَّأْنِيثِ؛ لِأنَّ الجِنْسَ المُمَيَّزَ مُفْرَدُهُ بِهاءِ التَّأْنِيثِ يُؤَنَّثُ في لُغَةِ الحِجازِ، ويُذَكَّرُ في لُغَةِ تَمِيمٍ ونَجْدٍ، وقَدْ جاءَ القُرْآنُ بِهِما إلّا ما اسْتُثْنِيَ؛ لِأنَّهُ يَتَحَتَّمُ فِيهِ التَّأْنِيثُ أوِ التَّذْكِيرُ، ولَيْسَ دَرَكَةٌ ودَرَكٌ مِن ذَلِكَ؛ فَعَلى هَذا يَجُوزُ تَذْكِيرُ الدَّرَكِ وتَأْنِيثُهُ.
﴿ولَنْ تَجِدَ لَهم نَصِيرًا﴾ أيْ مانِعًا مِنَ العَذابِ، ولا شافِعًا يَشْفَعُ.
﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا وأصْلَحُوا واعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وأخْلَصُوا دِينَهم لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ﴾؛ أيْ تابُوا مِنَ النِّفاقِ، وأصْلَحُوا أعْمالَهم، وتَمَسَّكُوا بِاللَّهِ وكِتابِهِ ولَمْ يَكُنْ لَهم مَلْجَأٌ ولا مَلاذٌ إلّا اللَّهَ وأخْلَصُوا دِينَهم لِلَّهِ؛ أيْ لا يَبْتَغُونَ بِعَمَلِ الطّاعاتِ إلّا وجْهَ اللَّهِ تَعالى؛ ولَمّا كانَ المُنافِقُ مُتَّصِفًا بِنَقائِصِ هَذِهِ الأوْصافِ مِنَ الكُفْرِ، وفَسادِ الأعْمالِ والمُوالاةِ لِلْكافِرِينَ، والِاعْتِزازِ بِهِمْ والمُراءاةِ لِلْمُؤْمِنِينَ شَرَطَ في تَوْبَتِهِمْ ما يُناقِضُ تِلْكَ الأوْصافَ، وهي التَّوْبَةُ مِنَ النِّفاقِ، وهي الوَصْفُ المُحْتَوِي عَلى بَقِيَّةِ الأوْصافِ مِن حَيْثُ المَعْنى. ثُمَّ فَصَّلَ ما أجْمَلَ فِيها، وهو الإصْلاحُ لِلْعَمَلِ المُسْتَأْنَفِ المُقابِلِ لِفَسادِ أعْمالِهِمُ الماضِيَةِ، ثُمَّ الِاعْتِصامُ بِاللَّهِ في المُسْتَقْبَلِ، وهو المُقابِلُ لِمُوالاةِ الكافِرِينَ، والِاعْتِمادُ عَلَيْهِمْ في الماضِي، ثُمَّ الإخْلاصِ لِدِينِ اللَّهِ، وهو المُقابِلُ لِلرِّياءِ الَّذِي كانَ لَهم في الماضِي، ثُمَّ بَعْدَ تَحْصِيلِ هَذِهِ الأوْصافِ جَمِيعِها أشارَ إلَيْهِمْ بِأنَّهم مَعَ المُؤْمِنِينَ، ولَمْ يَحْكم عَلَيْهِمْ بِأنَّهُمُ المُؤْمِنُونَ، ولا مِنَ المُؤْمِنِينَ، وإنْ كانَ قَدْ صارُوا مُؤْمِنِينَ تَنْفِيرًا مِمّا كانُوا عَلَيْهِ مِن عِظَمِ كُفْرِ النِّفاقِ، وتَعْظِيمًا لِحالِ مَن كانَ مُتَلَبِّسًا بِهِ. ومَعْنى: مَعَ المُؤْمِنِينَ، رُفَقاؤُهم ومُصاحِبُوهم في الدّارَيْنِ. والَّذِينَ تابُوا مُسْتَثْنًى مِن قَوْلِهِ: ﴿فِي الدَّرْكِ﴾ . وقِيلَ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ﴾ [الإسراء: ٩٧] . وقِيلَ هو مَرْفُوعٌ عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ (فَأُولَئِكَ) . وقالَ الحَوْفِيُّ: ودَخَلَتِ الفاءُ لِما في الكَلامِ مِن مَعْنى الشَّرْطِ المُتَعَلِّقِ بِالَّذِينَ.
(p-٣٨١)﴿وسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ أجْرًا عَظِيمًا﴾ أتى بِـ (سَوْفَ)؛ لِأنَّ إيتاءَ الأجْرِ هو يَوْمَ القِيامَةِ وهو زَمانٌ مُسْتَقْبَلٌ لَيْسَ قَرِيبًا مِنَ الزَّمانِ الحاضِرِ. وقَدْ قالُوا: إنَّ (سَوْفَ) أبْلَغُ في التَّنْفِيسِ مِنَ السِّينِ، ولَمْ يَعُدِ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ، فَيُقالُ: وسَوْفَ يُؤْتِيهِمْ، بَلْ أخْلَصَ ذَلِكَ الأجْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وهم رُفَقاؤُهم، فَيُشارِكُونَهم فِيهِ، ويُساهِمُونَهم. وكَتَبَ (يُؤْتِ) في المُصْحَفِ بِغَيْرِ ياءٍ، لَمّا حُذِفَتْ في اللَّفْظِ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ حُذِفَتْ في الخَطِّ؛ ولِهَذا نَظائِرُ في القُرْآنِ. ووَقَفَ يَعْقُوبُ عَلَيْها بِالياءِ، ووَقَفَ السَّبْعَةُ بِغَيْرِ ياءٍ اتِّباعًا لِرَسْمِ المُصْحَفِ. وقَدْ رُوِيَ الوَقْفُ بِالياءِ عَنْ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ ونافِعٍ. وقالَ أبُو عَمْرٍو: يَنْبَغِي أنْ لا يُوقَفَ عَلَيْها؛ لِأنَّهُ إنْ وُقِفَ بِغَيْرِ ياءٍ خالَفَ النَّحْوِيِّينَ، وإنْ وقَفَ بِياءٍ خالَفَ لَفْظَ المُصْحَفِ. والأجْرُ العَظِيمُ هو الخُلُودُ في الجَنَّةِ.
﴿ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكم إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنتُمْ﴾ الخِطابُ قِيلَ لِلْمُؤْمِنِينَ. وقِيلَ: لِلْكافِرِينَ، وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ سِياقُ الكَلامِ. وهَذا اسْتِفْهامٌ مَعْناهُ النَّفْيُ؛ أيْ ما يُعَذِّبُكم، إنْ شَكَرْتُمْ وآمَنتُمْ. والمَعْنى: أنَّهُ لا مَنفَعَةَ لَهُ في ذَلِكَ، ولا حاجَةَ؛ لِأنَّ العَذابَ إنَّما يَكُونُ لِشَيْءٍ يَعُودُ نَفْعُهُ أوْ يَنْدَفِعُ ضُرُّهُ عَنِ المُعَذَّبِ؛ واللَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ؛ وإنَّما عِقابُهُ المُسِيءَ لِأمْرٍ قَضَتْ بِهِ حِكْمَتُهُ تَعالى، فَمَن شَكَرَهُ وآمَنَ بِهِ لا يُعَذِّبُهُ.
و(ما) اسْتِفْهامٌ كَما ذَكَرْنا في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ؛ التَّقْدِيرُ: أيَّ شَيْءٍ يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكم. والباءُ لِلسَّبَبِ اسْتِشْفاءً أمْ إدْراكَ نارٍ، أمْ جَلْبَ مَنفَعَةٍ، أمْ دَفْعَ مَضَرَّةٍ، فَهو تَعالى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ تَكُونَ (ما) نافِيَةً، قالَ: والمَعْنى: ما يُعَذِّبُكم. ويَلْزَمُ عَلى قَوْلِهِ أنْ تَكُونَ الباءُ زائِدَةً، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ؛ أيْ، إنْ شَكَرْتُمْ، وآمَنتُمْ فَما يَفْعَلُ بِعَذابِكم.
ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ المُرادَ بِالشُّكْرِ هُنا تَوْحِيدُ اللَّهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: لِمَ قَدَّمَ الشُّكْرَ عَلى الإيمانِ ؟ قُلْتُ: لِأنَّ العاقِلَ يَنْظُرُ إلى ما عَلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ في خَلْقِهِ، وتَعْرِيضِهِ لِلْمَنافِعِ فَيَشْكُرُ شُكْرًا مُبْهَمًا؛ فَإذا انْتَهى بِهِ النَّظَرُ إلى مَعْرِفَةِ المُؤْمِنِ بِهِ المُنَعَّمِ آمَنَ بِهِ، ثُمَّ شَكَرَ شُكْرًا مُفَصَّلًا؛ فَكانَ الشُّكْرُ مُتَقَّدِمًا عَلى الإيمانِ، وكانَ أصْلَ التَّكْلِيفِ ومَدارَهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الشُّكْرُ عَلى الحَقِيقَةِ لا يَكُونُ إلّا مُقْتَرِنًا بِالإيمانِ؛ لَكِنَّهُ ذَكَرَ الإيمانَ تَأْكِيدًا، وتَنْبِيهًا عَلى جَلالَةِ مَوْقِعِهِ، انْتَهى. وأبْعَدُ مَن ذَهَبَ إلى أنَّهُ عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ؛ أيْ إنْ آمَنتُمْ وشَكَرْتُمْ.
﴿وكانَ اللَّهُ شاكِرًا عَلِيمًا﴾ شاكِرًا أيْ مُثِيبًا مُوفِيًا أُجُورَكم. وأتى بِصِفَةِ الشُّكْرِ بِاسْمِ الفاعِلِ بِلا مُبالَغَةٍ لِيَدُلَّ عَلى أنَّهُ يَتَقَبَّلُ، ولَوْ أقَلَّ شَيْءٍ مِنَ العَمَلِ، ويُنَمِّيهِ عَلِيمًا بِشُكْرِكم وإيمانِكم فَيُجازِيكم. وفي قَوْلِهِ: عَلِيمًا تَحْذِيرٌ ونَدْبٌ إلى الإخْلاصِ لِلَّهِ تَعالى. وقِيلَ الشُّكْرُ مِنَ اللَّهِ إدامَةُ النِّعَمِ عَلى الشّاكِرِ.
﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: تَضَّيَفُ رَجُلٌ قَوْمًا فَأساءُوا قِراهُ، فاشْتَكاهم فَعُوتِبَ؛ فَنَزَلَتْ. وقالَ مُقاتِلٌ: «نالَ رَجُلٌ مِن أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ والرَّسُولُ عَلَيْهِ (p-٣٨٢)السَّلامُ حاضِرٌ، فَسَكَتَ عَنْهُ أبُو بَكْرٍ مِرارًا ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ؛ فَقامَ الرَّسُولُ فَقالَ أبُو بَكْرٍ: يا رَسُولَ اللَّهِ شَتَمَنِي فَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا، حَتّى إذا رَدَدْتُ عَلَيْهِ قُمْتَ، فَقالَ: ”إنْ مَلَكًا كانَ يُجِيبُ عَنْكَ، فَلَمّا رَدَّدْتَ عَلَيْهِ ذَهَبَ، وجاءَ الشَّيْطانُ“»؛ فَنَزَلَتْ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها هي أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ مِن أحْوالِ المُنافِقِينَ وذَمِّهِمْ، وإظْهارِ فَضائِحِهِمْ ما ذَكَرَ وبَيَّنَ ظُلْمَهم، واهْتِضامَهم جانِبَ المُؤْمِنِينَ سَوَّغَ هُنا لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ يُذَكِّرُوهم بِما فِيهِمْ مِنَ الأوْصافِ الذَّمِيمَةِ. وقالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «اذْكُرُوا الفاسِقَ بِما فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النّاسُ» . وقَرَأ الجُمْهُورُ: (إلّا مَن ظُلِمَ) مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: إلّا مَن ظُلِمَ؛ فَإنَّ لَهُ أنْ يَدْعُوَ عَلى مَن ظَلَمَهُ، وكانَ ذَلِكَ رُخْصَةً مِنَ اللَّهِ لَهُ، وإنْ صَبَرَ فَهو خَيْرٌ لَهُ. وقالَ الحَسَنُ: لا يَدْعُو عَلَيْهِ، ولَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ أعِنِّي عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ اسْتَخْرِجْ حَقِّي، اللَّهُمَّ حُلْ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما يُرِيدُ مِن ظُلْمِي. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُجازِيهِ بِمِثْلِ فِعْلِهِ، ولا يَزِيدُ عَلَيْهِ. وقِيلَ هو أنْ يَبْدَأ بِالشَّتْمِ فَيَرُدَّ عَلى مَن شَتَمَهُ، وتَقَدَّمَ قَوْلُ مُجاهِدٍ أنَّها في الضَّيْفِ يَشْكُو سُوءَ صَنِيعِ المُضِيفِ مَعَهُ، ونُسِبَ إلى الظُّلْمِ؛ لِأنَّهُ مُخالِفٌ لِلشَّرْعِ والمُرُوءَةِ. وقالَ المُنِيرُ: مَعْناهُ إلّا مَن أُكْرِهَ عَلى أنْ يَجْهَرَ بِالسُّوءِ كُفْرًا ونَحْوَهُ؛ فَذَلِكَ مُباحٌ والآيَةُ في الإكْراهِ، وهَذا الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلٌ عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضافٍ أيِ إلّا جَهْرَ مَن ظُلِمَ. وقِيلَ الِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ، والتَّقْدِيرُ: لَكِنَّ المَظْلُومَ لَهُ أنْ يَنْتَصِفَ مِن ظالِمِهِ بِما يُوازِي ظُلامَتَهُ؛ قالَهُ السُّدِّيُّ والحَسَنُ، وغَيْرُهُما. و(بِالسُّوءِ) مُتَعَلِّقٌ بِالجَهْرِ، وهو مَصْدَرٌ مُعَرَّفٌ بِالألِفِ واللّامِ، والفاعِلُ مَحْذُوفٌ و(بِالجَهْرِ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ. ومَن أجازَ أنْ يُنْوى في المَصْدَرِ بِناؤُهُ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ قَدَّرَ أنَّ بِالسُّوءِ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، التَّقْدِيرُ: أنْ يُجْهَرَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ. وجَوَّزَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ مَن ظُلِمَ بَدَلًا مِن ذَلِكَ الفاعِلِ المَحْذُوفِ، التَّقْدِيرُ: إنْ أحَدٌ إلّا المَظْلُومَ، وهَذا مَذْهَبُ الفَرّاءِ. أجازَ الفَرّاءُ فِيما قامَ إلّا زَيْدٌ أنْ يَكُونَ زَيْدٌ بَدَلًا مِن أحَدٍ. وأمّا عَلى مَذْهَبِ الجُمْهُورِ؛ فَإنَّهُ يَكُونُ مِنَ المُسْتَثْنى الَّذِي فَرَغَ لَهُ العامِلُ؛ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا عَلى الفاعِلِيَّةِ بِالمَصْدَرِ. وحَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُ الجَهْرِ في حَيِّزِ النَّفْيِ، وكَأنَّهُ قِيلَ لا يَجْهَرُ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا المَظْلُومُ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ عُمَرَ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وعَطاءُ بْنُ السّائِبِ والضَّحّاكُ، وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، ومُسْلِمُ بْنُ يَسارٍ، والحَسَنُ، وابْنُ المُسَيَّبِ، وقَتادَةُ وأبُو رَجاءٍ: إلّا مَن ظَلَمَ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وهو اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ. (p-٣٨٣)فَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأنَّ الظّالِمَ راكِبٌ ما لَمْ يُحِبَّهُ اللَّهُ فَيَجْهَرُ بِالسُّوءِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المَعْنى إلّا مَن ظَلَمَ في فِعْلٍ أوْ قَوْلٍ فاجْهُرُوا لَهُ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ في مَعْنى النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ والتَّوْبِيخِ والرَّدِّ عَلَيْهِ. قالَ: وذَلِكَ أنَّهُ تَعالى لَمّا أخْبَرَ عَنِ المُنافِقِينَ أنَّهم في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ، كانَ ذَلِكَ خَبَرًا بِسُوءٍ مِنَ القَوْلِ ثُمَّ قالَ لَهم بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ﴾ الآيَةَ عَلى مَعْنى التَّأْسِيسِ والِاسْتِدْعاءِ إلى الشُّكْرِ والإيمانِ، ثُمَّ قالَ لِلْمُؤْمِنِينَ: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ﴾ في إقامَتِهِ عَلى النِّفاقِ؛ فَإنَّهُ يَقُولُ لَهُ: ألَسْتَ المُنافِقَ الكافِرَ الَّذِي لَكَ في الآخِرَةِ الدَّرْكُ الأسْفَلُ ؟ ونَحْوَ هَذا مِنَ الأقْوالِ. وقالَ قَوْمٌ: تَقْدِيرُهُ: لَكِنْ مَن ظُلِمَ فَهو يَجْهَرُ بِالسُّوءِ، وهو ظالِمٌ في ذَلِكَ؛ فَهي ثَلاثَةُ تَقادِيرَ في هَذا الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ: أحَدُها: راجِعٌ لِلْجُمْلَةِ الأُولى، وهي لا يُحِبُّ؛ كَأنَّهُ قِيلَ لَكِنَّ الظّالِمَ يُحِبُّ الجَهْرَ بِالسُّوءِ فَهو يَفْعَلُهُ والثّانِي: راجِعٌ إلى فاعِلِ الجَهْرِ؛ أيْ لا يُحِبُّ اللَّهُ أنْ يَجْهَرَ أحَدٌ بِالسُّوءِ؛ لَكِنَّ الظّالِمَ يَجْهَرُ بِالسُّوءِ. والثّالِثُ: راجِعٌ إلى مُتَعَلِّقِ الجَهْرِ الفَضْلَةِ المَحْذُوفَةِ؛ أيْ إنْ يَجْهَرْ أحَدُكم لِأحَدٍ بِالسُّوءِ؛ لَكِنْ مَن ظَلَمَ فاجْهُرُوا لَهُ بِالسُّوءِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وإعْرابُ مَن يَحْتَمِلُ في بَعْضِ هَذِهِ التَّأْوِيلاتِ النَّصْبَ، ويَحْتَمِلُ الرَّفْعَ عَلى البَدَلِ مِن ”أحَدٌ“ المُقَدَّرِ، انْتَهى. ويَعْنِي بِأحَدٍ المُقَدَّرِ في المَصْدَرِ إذِ التَّقْدِيرُ: إنْ يَجْهَرْ أحَدٌ، وما ذَكَرَهُ مِن جَوازِ الرَّفْعِ عَلى البَدَلِ لا يَصِحُّ، وذَلِكَ أنَّ الِاسْتِثْناءَ المُنْقَطِعَ عَلى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ يُسَوَّغُ فِيهِ (p-٣٨٤)البَدَلُ، وهو ما يُمْكِنُ تَوَجُّهُ العامِلِ عَلَيْهِ نَحْوَ: ما في الدّارِ أحَدٌ إلّا حِمارٌ، فَهَذا فِيهِ البَدَلُ في لُغَةِ تَمِيمٍ، والنُّصْبُ عَلى الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ في لُغَةِ الحِجازِ؛ وإنَّما جازَ فِيهِ البَدَلُ؛ لِأنَّكَ لَوْ قُلْتَ: ما في الدّارِ إلّا حِمارٌ صَحَّ المَعْنى. وقِسْمٌ يَتَحَتَّمُ فِيهِ النَّصْبُ عَلى الِاسْتِثْناءِ، ولا يُسَوَّغُ فِيهِ البَدَلُ، وهو ما لا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ العامِلِ عَلَيْهِ نَحْوَ: المالُ ما زادَ إلّا النَّقْصَ. التَّقْدِيرُ: لَكِنَّ النَّقْصَ حَصَلَ لَهُ؛ فَهَذا لا يُمْكِنُ أنْ يَتَوَجَّهَ زادَ عَلى النَّقْصِ؛ لِأنَّكَ لَوْ قُلْتَ: ما زادَ إلّا النَّقْصُ لَمْ يَصِحَّ المَعْنى، والآيَةُ مِن هَذا القِسْمِ؛ لِأنَّكَ لَوْ قُلْتَ: لا يُحِبُّ اللَّهُ أنْ يَجْهَرَ بِالسُّوءِ إلّا الظّالِمُ، فَيُفَرَّغُ أنْ يَجْهَرَ؛ لِأنْ يَعْمَلَ في الظّالِمِ لَمْ يَصِحَّ المَعْنى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَن مَرْفُوعًا؛ كَأنَّهُ قِيلَ لا يُحِبُّ الجَهْرَ بِالسُّوءِ إلّا الظّالِمُ، عَلى لُغَةِ مَن يَقُولُ: ما جاءَنِي زَيْدٌ إلّا عَمْرٌو، بِمَعْنى: ما جاءَنِي إلّا عَمْرٌو. ومِنهُ ﴿لا يَعْلَمُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلّا اللَّهُ﴾ [النمل: ٦٥]، انْتَهى.
وهَذا الَّذِي جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لا يَجُوزُ؛ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ يُذْكَرُ لَغْوًا زائِدًا، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الظّالِمُ بَدَلًا مِنَ اللَّهِ، ولا عَمْرٌو بَدَلًا مِن زَيْدٍ؛ لِأنَّ البَدَلَ في هَذا البابِ راجِعٌ في المَعْنى إلى كَوْنِهِ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ، إمّا عَلى سَبِيلِ الحَقِيقَةِ نَحْوَ: ما قامَ القَوْمُ إلّا زَيْدٌ، وإمّا عَلى سَبِيلِ المَجازِ نَحْوَ: ما في الدّارِ أحَدٌ إلّا حِمارٌ، وهَذا لا يُمْكِنُ فِيهِ البَدَلُ المَذْكُورُ لا عَلى سَبِيلِ الحَقِيقَةِ، ولا عَلى سَبِيلِ المَجازِ؛ لِأنَّ اللَّهَ عَلَمٌ، وكَذا زَيْدٌ هو عَلَمٌ؛ فَلا يُمْكِنُ أنْ يُتَخَيَّلَ فِيهِ عُمُومٌ، فَيَكُونُ الظّالِمُ بَدَلًا مِنَ اللَّهِ، وعَمْرٌو بَدَلًا مِن زَيْدٍ. وأمّا ما يَجُوزُ فِيهِ البَدَلُ مِن الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ فَإنَّهُ يُتَخَيَّلُ فِيما قَبْلَهُ عُمُومٌ؛ ولِذَلِكَ صَحَّ البَدَلُ مِنهُ عَلى طَرِيقِ المَجازِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ بَعْضًا مِنَ المُسْتَثْنى مِنهُ حَقِيقَةً. وأمّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: عَلى لُغَةِ مَن يَقُولُ ما جاءَنِي زَيْدٌ إلّا عَمْرٌو، فَلا نَعْلَمُ هَذِهِ اللُّغَةَ إلّا أنَّ في كِتابِ سِيبَوَيْهِ بَعْدَ أنْ أنْشَدَ أبْياتًا مِنَ الِاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ آخِرُها قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎عَشِيَّةَ لا تُغْنِي الرِّماحُ مَكانَها ولا النَّبْلُ إلّا المَشْرَفِيُّ المُصَمَّمُ
ما نَصُّهُ وهَذا يُقَوِّي: ما أتانِي زَيْدٌ إلّا عَمْرٌو، وما أعانَهُ إخْوانُكم إلّا إخِوانُهُ؛ لِأنَّها مَعارِفُ لَيْسَتِ الأسْماءُ الآخِرَةُ بِها، ولا مِنها، انْتَهى كَلامُ سِيبَوَيْهِ. ولَمْ يُصَرِّحْ، ولا لَوَّحَ أنَّ قَوْلَهُ: ما أتانِي زَيْدٌ إلّا عَمْرٌو مِن كَلامِ العَرَبِ. وقِيلَ مِن شَرْحِ سِيبَوَيْهِ؛ فَهَذا يُقَوِّي: ما أتانِي زَيْدٌ إلّا عَمْرٌو؛ أيْ يَنْبَغِي أنْ يَثْبُتَ هَذا مِن كَلامِهِمْ؛ لِأنَّ النَّبْلَ مَعْرِفَةٌ لَيْسَ بِالمَشْرَفِيِّ، كَما أنَّ زَيْدًا لَيْسَ بِعَمْرٍو، وكَما أنَّ أُخْوَةَ زَيْدٍ لَيْسُوا إخْوانَكم، انْتَهى. ولَيْسَ ما أتانِي زَيْدٌ إلّا عَمْرٌو نَظِيرًا لِلْبَيْتِ؛ لِأنَّهُ يُتَخَيَّلُ عُمُومٌ في البَيْتِ عَلى سَبِيلِ المَجازِ؛ كَأنَّهُ قِيلَ لا يُغْنِي السِّلاحُ مَكانَها إلّا المَشْرَفِيُّ، بِخِلافِ ما أتانِي زَيْدٌ إلّا عَمْرٌو، فَإنَّهُ لا يُتَخَيَّلُ في ما أتانِي زَيْدٌ. عُمُومٌ البَتَّةَ عَلى أنَّهُ لَوْ سُمِعَ هَذا مِن كَلامِ العَرَبِ وجَبَ تَأْوِيلُهُ حَتّى يَصِحَّ البَدَلُ؛ فَكانَ يَصِحُّ ما جاءَنِي زَيْدٌ، ولا غَيْرُهُ إلّا عَمْرٌو. كَأنَّهُ يَدُلُّ عَلى حَذْفِ المَعْطُوفِ وُجُودُ هَذا الِاسْتِثْناءِ؛ إمّا أنْ يَكُونَ عَلى إلْغاءِ هَذا الفاعِلِ، وزِيادَتِهِ، أوْ عَلى كَوْنِ عَمْرٍو بَدَلًا مِن زَيْدٍ؛ فَإنَّهُ لا يَجُوزُ لِما ذَكَرْناهُ. وأمّا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: ومِنهُ ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلّا اللَّهُ﴾ [النمل: ٦٥]، فَلَيْسَ مِن بابِ ما ذُكِرَ؛ لِأنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ (مَن) مُفَعْوِلَةً و(الغَيْبَ) بَدَلًا مِن بَدَلِ اشْتِمالٍ؛ أيْ لا يَعْلَمُ غَيْبَ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلّا اللَّهُ؛ أيْ ما يُسِرُّونَهُ، ويُخْفُونَهُ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. وإنْ سَلَّمْنا أنَّ مَن مَرْفُوعَةٌ؛ فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ بَدَلًا مِن (مَن) عَلى سَبِيلِ المَجازِ في مَن؛ لِأنَّ (مَن في السَّماواتِ) يُتَخَيَّلُ فِيهِ عُمُومٌ؛ كَأنَّهُ قِيلَ قُلْ لا يَعْلَمُ المَوْجُودَ دُونَ الغَيْبِ إلّا اللَّهُ. أوْ عَلى سَبِيلِ المَجازِ في الظَّرْفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلى اللَّهِ تَعالى، ولِذا جاءَ عَنْهُ ذَلِكَ في القُرْآنِ، وفي السُّنَّةِ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهُوَ اللَّهُ في السَّماواتِ وفي الأرْضِ﴾ [الأنعام: ٣]، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إلَهٌ وفي الأرْضِ إلَهٌ﴾ [الزخرف: ٨٤]، وفي الحَدِيثِ (p-٣٨٥)«أيْنَ اللَّهُ ؟ قالَتْ: في السَّماءِ»، ومِن كَلامِ العَرَبِ: لا وذِي في السَّماءِ بَيْتُهُ؛ يَعْنُونَ اللَّهَ تَعالى. وإذا احْتَمَلَتِ الآيَةُ هَذِهِ الوُجُوهَ لَمْ يَتَعَيَّنْ حَمْلُها عَلى ما ذُكِرَ، وخَصَّ الجَهْرَ بِالذِّكْرِ إمّا إخْراجًا لَهُ مُخْرَجَ الغائِبِ، وإمّا اكْتِفاءً بِالجَهْرِ عَنْ مُقابِلِهِ، أوْ لِكَوْنِهِ أفْحَشَ.
﴿وكانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ أيْ سَمِيعًا لِما يُجْهَرُ بِهِ مِنَ السُّوءِ، عَلِيمًا بِما يُسَرُّ بِهِ مِنهُ. وقِيلَ سَمِيعًا لِكَلامِ المَظْلُومِ عَلِيمًا بِالظّالِمِ. وقِيلَ سَمِيعًا بِشَكْوى المَظْلُومِ عَلِيمًا بِعُقْبى الظّالِمِ، أوْ عَلِيمًا بِما في قَلْبِ المَظْلُومِ؛ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ ولا يَقُلْ إلّا الحَقَّ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ خَبَرٌ، ومَعْناهُ التَّهْدِيدُ والتَّحْذِيرُ.
﴿إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أوْ تُخْفُوهُ أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ الظّاهِرُ أنَّ الهاءَ في تُخْفُوهُ تَعُودُ عَلى الخَيْرِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ مِن أعْمالِ البِرِّ كالصِّيامِ والصَّدَقَةِ. وقالَ بَعْضُهم: في تُخْفُوهُ عائِدٌ عَلى الخَيْرِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ مِن أعْمالِ البَرِّ كالصِّيامِ والصَّدَقَةِ. وقالَ بَعْضُهم: في تُخْفُوهُ عائِدٌ عَلى السُّوءِ والمَعْنى: أنَّهُ تَعالى لَمّا أباحَ الجَهْرَ بِالسُّوءِ لِمَن كانَ مَظْلُومًا قالَ لَهُ، ولِجِنْسِهِ: إنْ تُبْدُو خَيْرًا بَدَلًا مِنَ السُّوءِ، أوْ تُخْفُوا السُّوءَ، أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ. فالعَفْوُ أوْلى، وإنْ كانَ غَيْرُ المَعْفُوِّ مُباحًا، انْتَهى. وذَكَرَ إبْداءَ الخَيْرِ، وإخْفاءَهُ تَسَبُّبًا لِذَلِكَ العَفْوِ، ثُمَّ عَطَفَهُ عَلَيْهِما تَنْبِيهًا عَلى مَنزِلَتِهِ، واعْتِدادًا بِهِ، وإنْ كانَ مُنْدَرِجًا في إبْداءِ الخَيْرِ، وإخْفائِهِ؛ فَجَعَلَهُ قَسَمًا بِالعَطْفِ لا قَسِيمًا اعْتِناءً بِهِ. ولِذَلِكَ أتى سُبْحانَهُ وتَعالى بِصِفَةِ العَفْوِ والقُدْرَةِ مَنسُوبَةً لَهُ تَعالى لِيُقْتَدى بِسُنَّتِهِ، ويُتَخَلَّقَ بِشَيْءٍ مِن صِفاتِهِ تَعالى. والمَعْنى: أنَّهُ يَعْفُو عَنِ الجانِينَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلى الِانْتِقامِ، وكانَ بِالصِّفَتَيْنِ عَلى طَرِيقِ المُبالَغَةِ؛ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ العَبْدَ يَنْبَغِي أنْ يَكْثُرَ مِنهُ العَفْوُ مَعَ كَثْرَةِ القُدْرَةِ عَلى الِانْتِقامِ. وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «مَن كَظَمَ غَيْظًا، وهو يَقْدِرُ عَلى إنْفاذِهِ مَلَأ اللَّهُ قَلْبَهُ أمْنًا وإيمانًا» . وقالَ تَعالى: ﴿والكاظِمِينَ الغَيْظَ والعافِينَ عَنِ النّاسِ﴾ [آل عمران: ١٣٤] . وقالَ الحَسَنُ: المَعْنى أنَّهُ تَعالى يَعْفُو عَنِ الجانِينَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلى الِانْتِقامِ، فَعَلَيْكم بِالعَفْوِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: مَعْناهُ أنِّي أقْدَرُ عَلى العَفْوِ عَنْ ذُنُوبِكَ مِنكَ عَلى عَفْوِكَ عَنْ صاحِبِكَ. وقِيلَ عَفُوًّا لِمَن عَفى، قَدِيرًا عَلى إيصالِ الثَّوابِ إلَيْهِ.
{"ayahs_start":144,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡكَـٰفِرِینَ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۚ أَتُرِیدُونَ أَن تَجۡعَلُوا۟ لِلَّهِ عَلَیۡكُمۡ سُلۡطَـٰنࣰا مُّبِینًا","إِنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ فِی ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِیرًا","إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُوا۟ وَأَصۡلَحُوا۟ وَٱعۡتَصَمُوا۟ بِٱللَّهِ وَأَخۡلَصُوا۟ دِینَهُمۡ لِلَّهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۖ وَسَوۡفَ یُؤۡتِ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَجۡرًا عَظِیمࣰا","مَّا یَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِیمࣰا","۞ لَّا یُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِیعًا عَلِیمًا","إِن تُبۡدُوا۟ خَیۡرًا أَوۡ تُخۡفُوهُ أَوۡ تَعۡفُوا۟ عَن سُوۤءࣲ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوࣰّا قَدِیرًا"],"ayah":"۞ لَّا یُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِیعًا عَلِیمًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق