الباحث القرآني
طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء ١٤٨ - ١٥٢].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، لا يخفى أن هذه الجملة جملة خبرية منفية، ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ﴾، والجهر بالسوء معناه أن يقول: فلان ظلمني، فلان أخذ حقي، وفلان جحده، وما أشبه ذلك، فالله لا يحب هذا إلا من ظُلِم بأخذ حقه أو العدوان عليه، فإن محبة الله لا تنتفي في حقه، مثال المظلوم: لو أن إنسانًا آذاه جاره فصار يتكلم عند الحاكم أو عند الأمير أو عند من يستطيع أن يزيل مظلِمته ويجهر بهذا السوء، وليس المراد بالجهر أن يصوّت بين الناس، المراد أن يبيّنه لغيره، فإن هذا مظلوم، فله أن يقول ذلك، ومن هذا قصة الجار الذي كان يؤذي جاره، «فأمر النبي ﷺ أن يخرج متاعه عن بيته، فيمر الناس به فيقولون: ما هذا؟ فيقول: آذاني جاري»[[أخرجه ابن أبي شيبة (٢٥٨٠٧) من حديث محمد بن يوسف.]]، فصار في هذا فضيحة للجار بالقول أو الفعل؟ بالفعل.
ومن الجهر بالسوء ممن ظُلِم أن يسبك إنسان أمامك ويقول: أنت بخيل، أنت جبان، أنت سفيه، وما أشبه ذلك، فلك أن ترد عليه بمثل ما وصفك به من العيب، فتقول: السفيه أنت، الجبان أنت، البخيل أنت، كما قال، بدون زيادة؛ لقول الله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم﴾ [البقرة ١٩٤]، ولقوله: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه﴾ [النحل ١٢٦]، ولقوله تعالى: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى ٤١، ٤٢]، ولقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ»[[أخرجه مسلم (٢٥٨٧ / ٦٨) من حديث أبي هريرة.]].
كل هذه النصوص تدل على أنه يجوز الجهر بالقول ممن كان أيش؟ مظلومًا.
ومن ذلك ما يفضيه الإنسان إلى صديقه ورفيقه في شكاية الحال، كما لو كان إنسان ظلمه شخص وجاء إلى صديقه يتحدث ويقول: فلان فعل بي كذا، فعل بي كذا، فعل بي كذا.
ومن ذلك أيضًا الزوجة تشكو ما يحصل من زوجها إلى أخواتها، إلى أمها، وما أشبه ذلك؛ لأن كل هؤلاء أيش؟ مظلومون، وقد استثنى الله تعالى من ظُلِم.
ومن ذلك إذا قال: لعنك الله، فقل: لعنك الله أنت؛ لأن هذا اعتداء بمثل ما اعتدى عليك.
وعلى هذا نقول: إن الجهر بالسوء من القول إذا كان من مظلوم فإن محبة الله لا تنتفي عنه، وهذا من نعمة الله عز وجل ورفع الحرج عن الأمة؛ لأنه لو كان الله لا يحب الجهر بالسوء من القول حتى من المظلوم صار في هذا حرج؛ لأن المظلوم يكاد يتشقق صدره حتى يتحدث عما في صدره من الظُّلامة فيخف عليه الأمر.
﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾، ﴿سَمِيعًا﴾ لأقوالكم، ﴿عَلِيمًا﴾ بما في قلوبكم، يعني: فاحذروه، احذروا أن تقولوا ما لا يرضاه، احذروا أن تُخفوا في صدوركم ما لا يرضاه.
* في هذه الآية الكريمة: إثبات المحبة لله، أي أن الله يحب، ووجه الدلالة أننا استدللنا على الإثبات من النفي، كيف نستدل على الإثبات بالنفي؟ لأن هذا النفي خُصّ بحال معينة، فيكون دليلًا على أن ما سوى ذلك تثبت به المحبة، والمحبة -محبة الله عز وجل للعبد- هي غاية ما يتمناه الإنسان، وأكمل مراتب الإنسان، ولهذا قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران ٣١]، ولم يكن الجواب على ما يُتوقع من أن يقال: فاتبعوني تصدقوا في دعواكم، قال: ﴿اتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، وهذا هو الغاية، ومحبة الله عز وجل تُنال بهذا الشرط، وهو شرط يسير لمن يسره الله عليه -نسأل الله أن ييسره لنا ولكم- وهو أيش؟ اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام ظاهرًا وباطنًا، في العقيدة والقول والفعل، إذا حققت ذلك فإن محبة الله سوف تنالها.
أنكر قوم محبة الله كالأشاعرة -نسأل الله أن يعفو عن الأموات منهم وأن يهدي الأحياء- أنكروا المحبة، وقالوا: إن الله لا يحب، لكن إنكارهم إياها ليس إنكار جحود؛ إذ لو كان إنكار جحود لكفروا؛ لأنه تكذيب لما أثبته الله لنفسه، لكنه إنكار تأويل، قصدوا به تنزيه الله لكن ضلوا، قالوا: إن المحبة لا تقع إلا بين متجانسين، والله عز وجل مباين للخلق، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى ١١]، إذن ما معنى المحبة التي جاءت في الكتاب والسنة؟ قالوا: إن المحبة هي الإحسان، ففسروها بأمر بائن منفصل عن الله، أو هي إرادة الإحسان؛ لأن الإرادة عندهم ثابتة لله عز وجل.
فيقال لهم: هل الإحسان إلا ثمرة المحبة؟ وهل إرادة الإحسان إلا ثمرة المحبة؟ لأن الله لا يُحسن إلى من لا يحب إلا على سبيل الاستدراج، ولهذا إذا رأيت الله ينعم على العبد مع إقامته على معاصيه فاعلم أن ذلك استدراج، ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف ١٨٢].
إذن عقيدتنا أن الله عز وجل يحب، وأنه يُحَب جل وعلا، وأن محبته أعلى المراتب وأفضل المنازل.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: حسن الإسلام، وأن الإسلام يدعو إلى التغاضي وعدم الجهر بالسوء، وألا تفضح أحدًا بسوء، ولهذا كانت الغيبة من كبائر الذنوب، وهي: ذكرك أخاك بما يكره.
* ومن فوائد هذه الآية: عدالة الإسلام، وجه ذلك أنه رُخِّص للمظلوم أن يجهر بالقول لكن بحسب مظلمته، لا يزيد، فإن زاد فكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «عَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ»[[أخرجه مسلم (٢٥٨٧ / ٦٨) من حديث أبي هريرة. ]].
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الدين الإسلامي لا يكبت النفوس، بل يوسع لها، ويشرح الصدور، ويدخل السرور، ولهذا نُهِي الإنسان أن يتعرض لما فيه الغم والهم والوساوس والأوهام، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام قال في الذي يشك هل خرج منه ريح أو لا، قال: «لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا»[[متفق عليه؛ البخاري (١٣٧)، ومسلم (٣٦١ / ٩٨) من حديث عم عباد بن تميم.]]. والمعنى: حتى يتيقن يقينًا مثل الشمس، أما مجرد التخيل أنه خرج من بطنه شيء أو من دبره شيء أو من قُبله شيء فهذا يجب أن يُطرح، لماذا؟ لئلا يقع الإنسان في تذبذب وتردد.
الدين الإسلامي يريد منك أن تكون دائمًا في سرور، دائمًا مبسوطًا. وجه ذلك من هذه الآية أنه رُخِّص للمظلوم أيش؟ أن يجهر بالسوء بقدر مظلِمته؛ لأن ذلك تنفيس عن نفسه بلا شك.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات هذين الاسمين لله عز وجل، وهما: السميع والعليم، أما السميع فقال العلماء: إنه ينقسم إلى قسمين: سمع بمعنى إدراك المسموع، وسمع بمعنى الاستجابة، والسمع الذي بمعنى إدراك المسموع يتنوع أيضًا، تارة يُراد به بيان إحاطة الله تعالى بكل مسموع، وتارة يراد به التأييد والنصر، وتارة يراد به التهديد، على حسب ما تقتضيه الحال والسياق، فمن الأول قول الله تبارك وتعالى: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ﴾ [المجادلة ١]، وهذه المرأة كانت في حجرة النبي عليه الصلاة والسلام في الأرض، والرب عز وجل في السماء فوق عرشه، وتقول عائشة: «الحمد لله الذي وسِع سمعه الأصوات، لقد كنت في الحجرة وإنه ليخفى عليّ بعض حديثها، والله عز وجل يقول: سمع قول التي تجادل، ويسمع تحاوركما»[[أخرجه البخاري (٧٣٨٥م)، والنسائي (٣٤٦٠) من حديث عائشة، واللفظ له.]]. هذا سمع يراد به أيش؟ بيان إحاطة الله بكل مسموع.
وتارة يراد به التأييد والنصر، مثل قول الله تبارك وتعالى لموسى وهارون: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه ٤٦]، يعني فأؤيدكما وأنصركما، وقد يراد بذلك في هذه الآية التهديد أيضًا، تهديد من؟ تهديد فرعون.
وأما الذي للتهديد فمثل قوله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران ١٨١]، من هؤلاء، من هم؟ اليهود، قالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾، قال الله تعالى: ﴿سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق﴾ [آل عمران ١٨١]، هذا لا شك أن المقصود به التهديد.
وكذلك قوله تعالى: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف ٨٠]، فهو مسموع مكتوب، وستكون القراءة متى؟ يوم القيامة، ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء ١٣، ١٤]، قال بعض السلف: والله لقد أنصفك من جعلك حسيبًا على نفسك[[أخرجه ابن المبارك في الزهد (١٥٦٣)، وعبد الرزاق في التفسير (٢٩٥٣) وأبو نعيم في الحلية (٨ / ٧٠) من حديث الحسن البصري، بلفظ: يا ابن آدم، أنصفك من خلقك؛ جعلك حَسِيبَ نفسِك.]]. خذ هذا الكتاب اقرأه حاسب نفسك.
القسم الثاني من أقسام السمع أيش؟ سمع الاستجابة، أن الله يستجيب، وذلك فيما إذا أضيف إلى الدعاء أو نحو ذلك، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم ٣٩]، أي: لمجيبه، وليس مراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن الله يسمع دعاءه فقط؛ لأن سماع الدعاء لا شك أنه كمال، وأن الله تعالى مدرك لكل مسموع، لكن المقصود من دعاء الداعي أيش؟ الاستجابة، فيكون معنى ﴿لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ [إبراهيم ٣٩] أي: لمستجيب الدعاء، قالوا: ومن ذلك قول المصلي: سمع الله لمن حمده، أي: استجاب، وهذا حق، ويؤيد ذلك أنه عُدِّيَ باللام: سمع الله لمن حمده، ولو كان المراد إدراك الحمد أو إدراك قول الحامد لقال: سمع الله من حمده.
أما العليم فهذه أوسع شيء، علم الله تعالى محيط بكل شيء جل وعلا، محيط بالظاهر والباطن، بالماضي والمستقبل، بالواجب والممكن والمستحيل، ولهذا لا شيء أعم من العلم فيما يحضرني الآن، العلم شامل جدًّا، فهو يتعلق بالماضي والمستقبل، ومن ذلك قول موسى عليه الصلاة والسلام حين سأله فرعون: ﴿مَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ [طه ٥١]؟ قال: ﴿عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه ٥٢] سبحانه وتعالى، ﴿لَا يَضِلُّ﴾ جهلًا، ﴿وَلَا يَنْسَى﴾ ذكرًا، بل هو جل وعلا عالم بكل شيء، ولا ينسى الماضي، بينما العالم سوى الله أهل للنسيان.
كذلك علم الله عز وجل محيط بالظاهر والباطن، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق ١٦]، ولا شيء أخفى من هذا، ما توسوس به نفسك وتحدثك به نفسك فالله تعالى يعلم به، وأما الظاهر فظاهر علم الله به، وكذلك أيضًا علم الله محيط بالواجب والممكن والمستحيل، أما المستحيل فكقوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء ٢٢]، هذا خبر عن علم ولّا عن غير علم؟ عن علم، ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يكون في السماوات والأرض آلهة سوى الله، مستحيل غاية الاستحالة، فهذا خبر عن مستحيل صادر عن علم، أما العلم بالواجب فعلمه تعالى بنفسه وبما له من الأسماء والصفات، فإن هذا من العلم بالواجب، وهو أعلم بنفسه من غيره.
وأما تعلقه بالممكن فعلمه بما يحدث في الكون، كل ما يحدث في الكون من غير ما يتعلق بالله عز وجل فهو أيش؟ ممكن؛ لأن الكون كله حادث بعد أن لم يكن «كَانَ اللهُ تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ»[[أخرجه البخاري (٧٤١٨) من حديث عمران بن حصين.]]، وفي لفظ: «وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَعَهُ»[[أخرجه البخاري (٣١٩١) من حديث عمران بن حصين بلفظ: «وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ». ]]، فكل الكون حادث، كل الكون قابل للزوال؛ لأن كل حادث قابل للزوال، بدليل عدمه قبل وجوده.
وكلمة (قابل) ليس معناها أن كل موجود فانٍ، لكنه قابل للفناء، وإنما قلنا ذلك لئلا يرد علينا الروح، الروح مخلوقة بعد العدم لكنها باقية لا تفنى، الوِلْدان والحور في الجنة مخلوقة، ولكنها لا تفنى، تبقى أبد الآبدين، الجنة أيضًا مخلوقة وتبقى أيش؟ أبد الآبدين، النار مخلوقة وتبقى أبد الآبدين، ولهذا نقول: كل موجود قابل أيش؟ للزوال، لا أنه زائل؛ لأن من المخلوقات لا يزول، لكن كونه حادثًا بعد أن لم يكن دليل على أنه من أقسام الممكن القابل للعدم والوجود. ووجه ذلك أنه لو لم يكن قابلًا للوجود لم يوجد، ولو لم يكن قابلًا للعدم لم يُعدم أولًا.
المهم أن علم الله تعالى محيط بكل شيء. ويا إخواني، إيماننا بعلم الله ليس أن نؤمن بهذه الصفة العظيمة الواسعة الشاملة، لكن المهم أن نحذر من أن يعلم في قلوبنا ما لا يرضاه عنا، أو أن يعلم من أفعالنا ما لا يرضاه عنا، أو من أقوالنا ما لا يرضاه عنا، أو مما نترك ما لا يرضاه عنا، هذا هو المهم.
ولهذا يجب أن يركز طالب العلم على الفوائد المسلكية التي تُستفاد من أسماء الله وصفاته، لا على أقسامها وتقسيمها وعمومها وشمولها، لا، أهم شيء أن تعدل من منهجك ومسلكك، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف ١٨٠] اعبدوه بها، أن تعبدوه بمقتضى هذه الأسماء، وقال النبي ﷺ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٧٣٦)، ومسلم (٢٦٧٧ / ٦) من حديث أبي هريرة.]]، ومن إحصائها التعبد لله بمقتضاها وفقني الله وإياكم لذلك.
* طالب: إذا قال قائل: إن علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء التي تحدث في الأرض لا يكون ممكنًا؛ لأنه جل وعلا لما علم أن الشيء سيصير صار هذا الشيء واجبًا؟
* الشيخ: لا، غلط، هذا غلط؛ لأنه واجب الوقوع بإخبار الله، لكن أصله ممكن.
* طالب: إذا قال رجل كريم لرجل: أنت بخيل، فكيف يجيبه الثاني وهو كريم؟
* الشيخ: نعم، وهو كريم القائل؟
* الطالب: نعم.
* الشيخ: نعم في هذه الحال يقول: حسبك الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل؛ لأنه إن قال: أنت بخيل، صار كاذبًا، لكن لعله يجد صفة تقابل البخل.
* الطالب: وليقل بها؟ إذا كان جبانًا، هل يقول..
* الشيخ: إي نعم، هذا الذي أريد أن أقول، أقول: لعله يجد صفة أخرى تكون مكافئة للبخل؛ لأن الجبان بخيل بالنفس، وعدم الإنفاق بخل بالمال.
* الطالب: هذا ليس اعتداء بالمثل؟
* الشيخ: لا، مثله، المقصود صفة ذم تقابل هذا، لكن لو قال: أنت مبتدع، ما صار مثله.
* طالب: شيخ، عفا الله عنك، ما ضابط الأعمال التي يجوز القصاص فيها دائمًا؟
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: يعني أحيانًا يقول مثلًا: لعنة الله، فنقول: لعنة الله. لكن لو أنه مثلًا لاقى به (...) ما (...).
* الشيخ: لا، هذا أصلًا محرم بذاته، وما ذكرناه محرم؛ لكونه عدوانًا على غيره، يعني مثلًا كوني أقول: لعنه الله، أو أصفه بالبخل أو ما أشبه ذلك، إنما حرم لأنه عدوان على الغير، فإذا كان عدوانًا على الغير ثم هو انتهك حرمتي فلي أن أنتهك حرمته، أما ما كان محرمًا بحق الله فلا يمكن أن تقابله.
* طالب: الحرق بالنار يا شيخ؟
* الشيخ: من أتى هذه يحرّق، يعني لو أن إنسانًا قتل شخصًا بالنار قتلناه بها.
* طالب: شيخ، لا نستطع أن نميز بين الأعمال التي تكون من حق الله وبين..؟
* الشيخ: لا، هذه مكافأة، ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم﴾ [البقرة ١٩٤]. ولهذا «رضّ النبي ﷺ رأس اليهوديّ بين حجرَيْن »[[متفق عليه؛ البخاري (٢٧٤٦)، ومسلم (١٦٧٢ / ١٧) من حديث أنس. ]].
* طالب: لو أن أحدًا سب آخر بأبيه، هل يردها ولو بأبيه؟
* الشيخ: قال النبي ﷺ في جملة ما عدّ من الكبائر: «لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ»[[أخرجه مسلم (٩٠ / ١٤٩) من حديث عبد الله بن عمرو، بلفظ: «مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ».]]، فظاهر هذا الحديث أنه لا بأس إذا سبّ أبي، وأبي خالٍ من هذه المسبة، أنا أسب أباه؛ لأن المقصود إهانة هذا الرجل، ما هو إهانة الأب، إهانة الرجل.
* طالب: شيخ، جزاك الله خيرًا، الاستثناء إذا جاء بعد النهي يفيد الإثبات، مثلًا: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ﴾، ﴿إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ [النساء ١٤٨] يعنى يحب من؟ يحب الجهر..
* الشيخ: لا، ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾، فمن ظُلم فإنها لا نقول: إنها تنتفي عنه المحبة..
* الطالب: فهل يحب؟
* الشيخ: لا، قد تكون يحب وقد لا يحب، ولهذا نقول: من ظُلِم فله أن يفعل، فينتفي عنه انتفاء المحبة، وقد يكون من ظُلِم الأفضل له أن يعفو ويصفح.
* الطالب: لهذا جاء (...) ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ [النحل ١٢٦].
* الشيخ: إي نعم، هو هذا، أنه ليس معناه أن من ظُلِم أن الله يحب أن يجهر، لا، من ظُلِم فإنه ينتفي عنه انتفاء المحبة، واضح؟
* طالب: أحسن الله إليك، رجل مبتدع داع إلى البدعة، هل يجوز لك أن تذكره هو وبدعته عند الناس؟
* الشيخ: إي نعم، تحذّر منه نصحًا لله ورسوله.
(...) ظاهر الحديث أن من هم بحسنة ومن هم بسيئة أنهم يعلمون ذلك، لكن بعلم الله عز وجل.
* طالب: كيف (...).
* الشيخ: يعني يعلمون بعلم الله، بمعنى أن الله يعلمهم بهذا.
* طالب: شيخ، بارك الله فيك يا شيخ، بعض أهل العلم المشهود لهم بالعلم يقول: إنه لا يُعَدّ الشخص مبتدعًا إلا إذا أقيمت عليه الحجة، أما قبل أن تقام الحجة فإنه ولو وقع في البدعة فإنا لا نسميه مبتدعًا؟
* الشيخ: ما هو بالظاهر، الظاهر ما ذكرت لك، ألا يتبع هذا المنهج.. يعني منهج الأشاعرة بدعتهم ليست في الصفات فقط، في الصفات، في أفعال العباد، في القدر، في الإيمان، لكن لو أخطأ رجل في مسألة ما هذا لا يعد مبتدعًا، ما يقال: أشعري مثلًا، وضربت لكم مثلًا بالمذاهب الفقهية.
* طالب: بارك الله فيك، كيف يثني الله سبحانه وتعالى على العافين عن الناس، وهنا في الآية الأخرى يخاطب المؤمنين بأنه يعتدي عليه بمثل ما اعتدى عليه، كيف (...)؟
* الشيخ: لأن العفو مقيد، ليس كل عفو محبوبًا إلى الله، قيد الله العفو بقوله: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ [الشورى ٤٠]، فإذا لم يكن بالعفو إصلاح لا تعفُ.
* الطالب: يعني الآن إذا سبني، هل الأفضل أن أسكت أم..؟
* الشيخ: إذا ظننت أن سكوتك يؤدي إلى عدوان الرجل واستعلائه عليك وعلى غيرك فسبّه منين ما سبك، وإذا ظننت أن سكوتك لا يحصل به هذه المفسدة وربما تزول به مفسدة المشاجرة التي قد تؤدي إلى عداوة وبغضاء وربما إلى قتال فاعفُ.
* الطالب: إذن المسألة مسألة مصالح ومفاسد؟
* الشيخ: إي نعم.
* طالب: شيخ، بارك الله فيكم، أحيانًا قد يريد الإنسان أن ينصح أخاه بالخير، ولكن هو نفسه يعني غير مطبق لهذا الخير فيحجم، ويقول: أنا أخشى أن أقع في الوعيد بأني في «الذي تندلق أقتابه في النار فيدور حولها كما يدور الحمار على الرحى»[[أخرجه البخاري (٣٢٦٧) من حديث أسامة بلفظ: «يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ».]]؟
* الشيخ: هل قول الرسول عليه الصلاة والسلام هذا ليصد الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ليحذرهم من كونهم يأمرون ولا يفعلون؟
* الطلبة: الثاني.
* الشيخ: الثاني، إذن مر ثم خجِّل نفسك، قل: كيف تأمرين الناس بهذا الشيء وأنت لا تفعلين؟ وكذلك العكس في النهي، لا تظن أن الرسول قال هذا لأجل أن يحذرنا من أن نأمر الناس ولا نفعل، إنما يحذرنا من أن نأمر بالخير ثم نستمر في تركه.
* طالب: شيخ، الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ﴾، شيخ، هل القول يشمل فعل (...)؟
* الشيخ: لا بس هذا هو الغالب (...) جهلكم بالقول.
* * *
* طالب: ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١٥٠) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ١٥٠ - ١٥٢].
{"ayah":"۞ لَّا یُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلۡجَهۡرَ بِٱلسُّوۤءِ مِنَ ٱلۡقَوۡلِ إِلَّا مَن ظُلِمَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِیعًا عَلِیمًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق