الباحث القرآني
(سُورَةُ سَبَأٍ خَمْسٌ وخَمْسُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ)
﷽
﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ ولَهُ الحَمْدُ في الآخِرَةِ وهو الحَكِيمُ الخَبِيرُ﴾ ﴿يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرْضِ وما يَخْرُجُ مِنها وما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وما يَعْرُجُ فِيها وهو الرَّحِيمُ الغَفُورُ﴾ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينا السّاعَةُ قُلْ بَلى ورَبِّي لَتَأْتِيَنَّكم عالِمُ الغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ ولا أصْغَرُ مِن ذَلِكَ ولا أكْبَرُ إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولَئِكَ لَهم مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ ﴿والَّذِينَ سَعَوْا في آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مِن رِجْزٍ ألِيمٍ﴾ ﴿ويَرى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ هو الحَقَّ ويَهْدِي إلى صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكم إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ ﴿أفْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا أمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ في العَذابِ والضَّلالِ البَعِيدِ﴾ ﴿أفَلَمْ يَرَوْا إلى ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّماءِ إنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ .
(p-٢٥٧)هَذِهِ السُّورَةُ قالَ في التَّحْرِيرِ: مَكِّيَّةٌ بِإجْماعِهِمْ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَكِّيَّةٌ إلّا قَوْلَهُ: ﴿ويَرى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ﴾ فَقالَتْ فِرْقَةٌ: مَدَنِيَّةٌ فِيمَن أسْلَمَ مِن أهْلِ الكِتابِ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وأشْباهِهِ. انْتَهى. وسَبَبُ نُزُولِها أنَّ أبا سُفْيانَ قالَ لِكُفّارِ مَكَّةَ، لَمّا سَمِعُوا ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والمُشْرِكِينَ والمُشْرِكاتِ﴾ [الأحزاب: ٧٣]: إنَّ مُحَمَّدًا يَتَوَعَّدُنا بِالعَذابِ بَعْدَ أنْ نَمُوتَ، ويُخَوِّفُنا بِالبَعْثِ، واللّاتِ والعُزّى لا تَأْتِينا السّاعَةُ أبَدًا، ولا نُبْعَثُ. فَقالَ اللَّهُ: (قُلْ) يا مُحَمَّدُ ﴿بَلى ورَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ [التغابن: ٧] قالَهُ مُقاتِلٌ، وباقِي السُّورَةِ تَهْدِيدٌ لَهم وتَخْوِيفٌ. ومَن ذَكَرَ هَذا السَّبَبَ ظَهَرَتِ المُناسَبَةُ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ والَّتِي قَبْلَها.
﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ المَحامِدِ.
﴿ولَهُ الحَمْدُ في الآخِرَةِ﴾ ظاهِرُهُ الِاسْتِغْراقُ. ولَمّا كانَتْ نِعْمَةُ الآخِرَةِ مُخْبَرًا بِها، غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ لَنا في الدُّنْيا، ذَكَرَها لِيُقاسَ نِعَمُها بِنِعَمِ الدُّنْيا، قِياسَ الغائِبِ عَلى الشّاهِدِ، وإنِ اخْتَلَفا في الفَضِيلَةِ والدَّيْمُومَةِ. وقِيلَ: ”ألْ“ لِلْعَهْدِ والإشارَةِ إلى قَوْلِهِ: ﴿وآخِرُ دَعْواهم أنِ الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [يونس: ١٠] أوْ إلى قَوْلِهِ: ﴿وقالُوا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وعْدَهُ﴾ [الزمر: ٧٤] . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الفَرْقُ بَيْنَ الحَمْدَيْنِ وُجُوبُ الحَمْدِ في الدُّنْيا؛ لِأنَّهُ عَلى نِعَمِهِ مُتَفَضِّلٌ بِها، وهو الطَّرِيقُ إلى تَحْصِيلِ نِعْمَةِ الآخِرَةِ، وهي الثَّوابُ. وحَمْدُ الآخِرَةِ لَيْسَ بِواجِبٍ؛ لِأنَّهُ عَلى نِعْمَةٍ واجِبَةِ الِاتِّصالُ إلى مُسْتَحِقِّها، إنَّما هو تَتِمَّةُ سُرُورِ المُؤْمِنِينَ وتَكْمِلَةُ اغْتِباطِهِمْ يَلْتَذُّونَ بِهِ. انْتَهى، وفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ.
﴿يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرْضِ﴾ مِنَ المِياهِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: مِنَ الأمْواتِ والدَّفائِنِ.
﴿وما يَخْرُجُ مِنها﴾ مِنَ النَّباتِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: مِن جَواهِرِ المَعادِنِ.
﴿وما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ﴾ مِنَ المَطَرِ والثَّلْجِ والبَرَدِ والصّاعِقَةِ والرِّزْقِ والمَلَكِ.
﴿وما يَعْرُجُ فِيها﴾ مِن أعْمالِ الخَلْقِ. وقالَ الكَلْبِيُّ: وما يَنْزِلُ مِنَ المَلائِكَةِ. وقِيلَ: مِنَ الأقْضِيَةِ والأحْوالِ والأدْعِيَةِ والأعْمالِ. وقِيلَ: مِنَ الأنْعامِ والعَطاءِ. وقَرَأ عَلِيٌّ والسُّلَمِيُّ: ”وما يُنْزَلُ“ بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ النُّونِ وشَدِّ الزّايِ أيِ: اللَّهُ تَعالى. و(بَلى) جَوابٌ لِلنَّفْيِ السّابِقِ مِن قَوْلِهِمْ ﴿لا تَأْتِينا السّاعَةُ﴾ أيْ: بَلى لَتَأْتِيَنَّكم. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ بِتاءِ التَّأْنِيثِ، أيِ: السّاعَةُ الَّتِي أنْكَرْتُمْ مَجِيئُها. وقَرَأ طَلْقٌ عَنْ أشْياخِهِ بِياءِ الغَيْبَةِ، أيْ: لَيَأْتِيَنَّكُمُ البَعْثُ؛ لِأنَّهُ مَقْصُودُهم مِن نَفْيِ السّاعَةِ أنَّهم لا يُبْعَثُونَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ عَلى مَعْنى السّاعَةِ أيِ: اليَوْمَ، أوْ عَلى إسْنادِهِ إلى اللَّهِ عَلى مَعْنى لَيَأْتِيَنَّكم أمْرُ عالِمِ الغَيْبِ كَقَوْلِهِ: ﴿أوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ [الأنعام: ١٥٨] أيْ: أمْرُهُ. ويَبْعُدُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ السّاعَةِ؛ لِأنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ مَذْهَبَ التَّذْكِيرِ، لا يَكُونُ إلّا في الشِّعْرِ نَحْوُ قَوْلِهِ:
؎ولا أرْضَ أبْقَلَ إبْقالَها
ثُمَّ أكَّدَ الجَوابَ بِالقَسَمِ عَلى البَعْثِ، وأتْبَعَ القَسَمَ بِقَوْلِهِ: ﴿عالِمِ الغَيْبِ﴾ وما بَعْدَهُ، لِيُعْلَمَ أنَّ إنْباتَها مِنَ الغَيْبِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ تَعالى. وجاءَ القَسَمُ بِقَوْلِهِ: (ورَبِّي) مُضافًا إلى الرَّسُولِ ﷺ، لِيَدُلَّ عَلى شِدَّةِ القَسَمِ، إذْ لَمْ يَأْتِ بِهِ في الِاسْمِ المُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَن أنْكَرَ السّاعَةَ، وهو لَفْظُ اللَّهِ. وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، ورُوَيْسٌ، وسَلامٌ، والجَحْدَرِيُّ، وقَعْنَبٌ: ”عالِمُ“ بِالرَّفْعِ عَلى إضْمارِ هو، وجَوَّزَ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً (p-٢٥٨)والخَبَرُ ﴿لا يَعْزُبُ﴾ . وقالَ الحَوْفِيُّ: أوْ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أيْ: عالِمُ الغَيْبِ هو. وباقِي السَّبْعَةِ: (عالِمِ) بِالجَرِّ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وأبُو البَقاءِ: وذَلِكَ عَلى البَدَلِ. وأجازَ أبُو البَقاءِ أنْ تَكُونَ صِفَةً، ويَعْنِي أنَّ (عالِمَ الغَيْبِ) يَجُوزُ أنْ يَتَعَرَّفَ، وكَذا كُلُّ ما أُضِيفَ إلى مَعْرِفَةٍ مِمّا كانَ لا يَتَعَرَّفُ بِذَلِكَ يَجُوزُ أنْ يَتَعَرَّفَ بِالإضافَةِ، إلّا الصِّفَةَ المُشَبَّهَةَ فَلا تَتَعَرَّفُ بِإضافَةٍ. ذَكَرَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ في كِتابِهِ، وقَلَّ مَن يَعْرِفُهُ. وقَرَأ ابْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: (عَلّامِ) عَلى المُبالَغَةِ والخَفْضِ، وتَقَدَّمَتْ قِراءَةُ ﴿يَعْزُبُ﴾ في يُونُسَ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿ولا أصْغَرُ مِن ذَلِكَ ولا أكْبَرُ﴾ بِرَفْعِ الرّاءَيْنِ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى ﴿مِثْقالَ﴾ [النساء: ٤٠] وأنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، والخَبَرُ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا في كِتابٍ﴾ . وعَلى الِاحْتِمالِ الأوَّلِ يَكُونُ ﴿إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ تَوْكِيدًا لِما تَضَمَّنَ النَّفْيَ في قَوْلِهِ: ﴿لا يَعْزُبُ﴾ وتَقْدِيرُهُ: لَكِنَّهُ في كِتابٍ مُبِينٍ، وهو كِنايَةٌ عَنْ ضَبْطِ الشَّيْءِ والتَّحَفُّظِ بِهِ، فَكَأنَّهُ في كِتابٍ، ولَيْسَ ثَمَّ كِتابٌ حَقِيقَةً. وعَلى التَّخْرِيجِ الأوَّلِ يَكُونُ الكِتابُ هو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ. وقَرَأ الأعْمَشُ وقَتادَةُ: بِفَتْحِ الرّاءَيْنِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفًا عَلى (ذَرَّةٍ) . ورُوِيَتْ عَنْ أبِي عَمْرٍو، وعَزاها أيْضًا إلى نافِعٍ، ولا يَتَعَيَّنُ ما قالَ، بَلْ تَكُونُ ”لا“ لِنَفْيِ الجِنْسِ، وهو مُبْتَدَأٌ، أعْنِي مَجْمُوعَ ”لا“ وما بُنِيَ مَعَها عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ، والخَبَرُ ﴿إلّا في كِتابٍ مُبِينٍ﴾ وهو مِن عَطْفِ الجُمَلِ، لا مِن عَطْفِ المُفْرَداتِ، كَما قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ.
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: جَوابًا لِسُؤالِ مَن قالَ: هَلْ جازَ عَطْفُ ﴿ولا أصْغَرُ﴾ عَلى ﴿مِثْقالُ﴾ وعَطْفُ ﴿ولا أصْغَرُ﴾ عَلى (ذَرَّةٍ) ؟ قُلْتُ: يَأْبى ذَلِكَ حَرْفُ الِاسْتِثْناءِ، إلّا إذا جَعَلْتَ الضَّمِيرَ في ”عَنْهُ“ لِلْغَيْبِ، وجَعَلْتَ الغَيْبَ اسْمًا لِلْخَفِيّاتِ قَبْلَ أنْ تُكْتَبَ في اللَّوْحِ؛ لِأنَّ إثْباتَها في اللَّوْحِ نَوْعٌ مِنَ البُرُوزِ عَنِ الحِجابِ عَلى مَعْنى أنَّهُ لا يَنْفَصِلُ عَنِ الغَيْبِ شَيْءٌ ولا يَزُولُ عَنْهُ إلّا مَسْطُورًا في اللَّوْحِ، انْتَهى. ولا يُحْتاجُ إلى هَذا التَّأْوِيلِ إذا جَعَلْنا الكِتابَ المُبِينَ لَيْسَ اللَّوْحَ المَحْفُوظَ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: ”﴿ولا أصْغَرُ مِن ذَلِكَ ولا أكْبَرُ﴾“ بِخَفْضِ الرّاءَيْنِ بِالكَسْرَةِ، كَأنَّهُ نَوى مُضافًا إلَيْهِ مَحْذُوفًا، التَّقْدِيرُ: ولا أصْغَرِهِ ولا أكْبَرِهِ، ومِن ذَلِكَ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِأفْعَلَ، بَلْ هو بِتَبْيِينٍ؛ لِأنَّهُ لَمّا حَذَفَ المُضافَ إلَيْهِ أبْهَمَ لَفْظًا فَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِن ذَلِكَ) أيْ: عَنى مِن ذَلِكَ، وقَدْ جاءَتْ مِن مَعَ كَوْنِ أفْعَلِ التَّفْضِيلِ مُضافًا في قَوْلِ الشّاعِرِ:
؎نَحْنُ بِغَرْسِ الوَدِيِّ أعْلَمُنا ∗∗∗ مِنّا بِرَكْضِ الجِيادِ في السَّدَفِ
وخُرِّجَ عَلى أنَّهُ أرادَ عِلْمٌ بِنا، فَأضافَ ناوِيًا طَرْحَ المُضافِ إلَيْهِ، فاحْتَمَلَتْ قِراءَةُ زَيْدٍ هَذا التَّوْجِيهَ الآخَرَ: أنَّهُ لَمّا أضافَ أصْغَرَ وأكْبَرَ عَلى إعْرابِهِما حالَةَ الإضافَةِ، وهَذا كُلُّهُ تَوْجِيهُ شُذُوذٍ، وناسَبَ وصْفَهُ تَعالى بِعالِمِ الغَيْبِ، وأنَّهُ لا يَفُوتُ عِلْمُهُ شَيْءٌ مِنَ الخَفِيّاتِ، فانْدَرَجَ في ذَلِكَ وقْتُ قِيامِ السّاعَةِ، وصارَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى صِحَّةِ ما أقْسَمَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ مَن كانَ عالِمًا بِجَمِيعِ الأشْياءِ كُلِّها وجُزْئِها، وكانَتْ قُدْرَتُهُ ثابِتَةً، كانَ قادِرًا عَلى إعادَةِ ما فَنِيَ مِن جَمِيعِ الأرْواحِ والأشْباحِ. قِيلَ: وقَوْلُهُ ﴿مِثْقالُ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ﴾ إشارَةٌ إلى عِلْمِهِ بِالأرْواحِ ﴿ولا في الأرْضِ﴾ إشارَةٌ إلى عِلْمِهِ بِالأشْياءِ. وكَما أبْرَزَهُما مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ أوَّلًا، فَكَذَلِكَ يُعِيدُهُما ثانِيًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكُونُ بِمَعْنى اليَمِينِ مُصَحِّحَةً لِما أنْكَرُوهُ ؟ قُلْتُ: هَذا لَوِ اقْتَصَرَ عَلى اليَمِينِ ولَمْ يُتْبِعْها بِالحُجَّةِ القاطِعَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ فَقَدْ وضَعَ اللَّهُ في العُقُولِ ورَكَّبَ في الغَرائِزِ وُجُوبَ الجَزاءِ، وأنَّ المُحْسِنَ لا بُدَّ لَهُ مِن ثَوابٍ، والمُسِيءُ لا بُدَّ لَهُ مِن عِقابٍ، انْتَهى. وفي السُّؤالِ بَعْضُ اخْتِصارٍ، وفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزالِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿لا يَعْزُبُ﴾ وقِيلَ: بِقَوْلِهِ ﴿لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ وقِيلَ: بِالعامِلِ ﴿فِي كِتابٍ مُبِينٍ﴾ أيْ: إلّا مُسْتَقِرًّا في كِتابٍ مُبِينٍ لِيَجْزِيَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”مُعْجِزِينَ“ مُخَفَّفًا، وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو والجَحْدَرِيُّ وأبُو السِّماكِ: مُثَقَّلًا وتَقَدَّمَ في الحَجِّ، أيْ: مُعَجِّزِينَ قُدْرَةَ اللَّهِ في زَعْمِهِمْ. وقالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: مَعْناهُ مُثَبِّطِينَ عَنِ الإيمانِ مَن أرادَهُ، مُدْخِلِينَ عَلَيْهِ العَجْزَ (p-٢٥٩)فِي نَشاطِهِ، وهَذا هو سَعْيُهم في الآياتِ أيْ: في شَأْنِ الآياتِ. وقالَ قَتادَةُ: مُسابِقِينَ يَحْسَبُونَ أنَّهم يَفُوتُونَنا. وقالَ عِكْرِمَةُ: مُراغِمِينَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُجاهِدِينَ في إبْطالِها. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحَفْصٌ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: (ألِيمٌ) هُنا، وفي الجاثِيَةِ، بِالرَّفْعِ صِفَةً لِلْعَذابِ، وباقِي السَّبْعَةِ بِالجَرِّ صِفَةً لِلرِّجْزِ، والرِّجْزُ: العَذابُ السَّيِّئُ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿والَّذِينَ سَعَوْا﴾ مُبْتَدَأٌ، والخَبَرُ في الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ، وهي (أُولَئِكَ) . وقِيلَ: هو مَنصُوبٌ عَطْفًا عَلى (الَّذِينَ آمَنُوا) أيْ: ولِيَجْزِيَ الَّذِينَ سَعَوْا. واحْتَمَلَ أنْ تَكُونَ الجُمْلَتانِ المُصَدَّرَتانِ بِـ: أُولَئِكَ، هُما نَفْسَ الثَّوابِ والعِقابِ، واحْتَمَلَ أنْ تَكُونا مُسْتَأْنَفَتَيْنِ، والثَّوابُ والعِقابُ ما تَضَمَّنَتا مِمّا هو أعْظَمُ، كَرِضا اللَّهِ عَنِ المُؤْمِنِ دائِمًا، وسُخْطِهِ عَلى الفاسِقِ دائِمًا. قالَ العُتْبِيُّ: والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ويَرى﴾ اسْتِئْنافُ إخْبارٍ عَمَّنْ أُوتِيَ العِلْمَ، يَعْلَمُونَ القُرْآنَ المُنَزَّلَ عَلَيْكَ هو الحَقُّ. وقِيلَ: ﴿ويَرى﴾ مَنصُوبٌ عَطْفًا عَلى ﴿لِيَجْزِيَ﴾، وقالَهُ الطَّبَرِيُّ والثَّعْلَبِيُّ، وتَقَدَّمَ الخِلافُ في ﴿الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ﴾ في ذَلِكَ المَكانِ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ السُّورَةُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْ: ولِيَعْلَمَ أُولُو العِلْمِ عِنْدَ مَجِيءِ السّاعَةِ أنَّهُ الحَقُّ عِلْمًا لا يُزادُ عَلَيْهِ في الِاتِّفاقِ، ويَحْتَجُّوا بِهِ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا وتَوَلَّوْا. ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ: ولِيَعْلَمَ مَن لَمْ يُؤْمِن مِنَ الأخْيارِ أنَّهُ هو الحَقُّ، فَيَزْدادَ حَسْرَةً وغَمًّا. انْتَهى. وإنَّما قالَ: عِنْدَ مَجِيءِ السّاعَةِ؛ لِأنَّهُ عَلَّقَ ﴿لِيَجْزِيَ﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ فَبَنى التَّخْرِيجَ عَلى ذَلِكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (الحَقَّ) بِالنَّصْبِ، مَفْعُولًا ثانِيًا لِـ: ”يَرى“، وهو فَصْلٌ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: بِالرَّفْعِ جَعَلَ (هو) مُبْتَدَأً و(الحَقُّ) خَبَرَهُ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لِـ: ”يَرى“، وهو لُغَةُ تَمِيمٍ، يَجْعَلُونَ ما هو فَصْلٌ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مُبْتَدَأً، قالَهُ أبُو عُمَرَ الجَرْمِيُّ. والظّاهِرُ أنَّ الفاعِلَ لِـ: ”يَهْدِي“ هو ضَمِيرُ ﴿الَّذِي أُنْزِلَ﴾، وهو القُرْآنُ، وهو اسْتِئْنافُ إخْبارٍ. وقِيلَ: هو في مَوْضِعِ الحالِ عَلى إضْمارِ: ”وهو يَهْدِي“، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى (الحَقَّ)، عُطِفَ الفِعْلُ عَلى الِاسْمِ كَقَوْلِهِ: ﴿صافّاتٍ ويَقْبِضْنَ﴾ [الملك: ١٩] أيْ: قابِضاتٍ، كَما عُطِفَ الِاسْمُ عَلى الفِعْلِ في قَوْلِهِ:
؎فَألْفَيْتُهُ يَوْمًا يُبِيدُ عَدُوَّهُ ∗∗∗ وبَحْرَ عَطاءٍ يَسْتَحِفُّ المَعابِرا
عُطِفَ ”وبَحْرَ“ عَلى ”يُبِيرُ“، وقِيلَ: الفاعِلُ بِـ: (يَهْدِي) ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلى اللَّهِ، وفِيهِ بُعْدٌ.
﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هم قُرَيْشٌ، قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عَلى جِهَةِ التَّعَجُّبِ والِاسْتِهْزاءِ كَما يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَن يُرِيدُ أنْ يُعَجِّبَهُ: هَلْ أدُلُّكَ عَلى قِصَّةٍ غَرِيبَةٍ نادِرَةٍ ؟ لَمّا كانَ البَعْثُ عِنْدَهم مِنَ المُحالِ، جَعَلُوا مَن يُخْبِرُ عَنْ وُقُوعِهِ في حَيِّزِ مَن يُتَعَجَّبُ مِنهُ، وأتَوْا بِاسْمِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - نَكِرَةً في قَوْلِهِ: ﴿هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ﴾ ؟ وكانَ اسْمُهُ أشْهَرَ عَلَمٍ في قُرَيْشٍ، بَلْ في الدُّنْيا، وإخْبارُهُ بِالبَعْثِ أشْهَرُ خَبَرٍ؛ لِأنَّهم أخْرَجُوا ذَلِكَ مَخْرَجَ الِاسْتِهْزاءِ والتَّحَلِّي بِبَعْضِ الأحاجِيِّ المَعْمُولَةِ لِلتَّلَهِّي والتَّعْمِيَةِ، فَلِذَلِكَ نَكَّرُوا اسْمَهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿يُنَبِّئُكُمْ﴾ بِالهَمْزِ؛ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِإبْدالِ الهَمْزَةِ ياءً مَحْضَةً. وحَكى عَنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: ”يُنْبِئُكم“، بِالهَمْزَةِ مِن أنْبَأ، و”إذا“ جَوابُها مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تُبْعَثُونَ، وحُذِفَ لِدَلالَةِ ما بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وهو العامِلُ ”إذا“ عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ. وقالَ الزَّجّاجُ ذَلِكَ، وقالَ أيْضًا هو والنَّحّاسُ: العامِلُ ﴿مُزِّقْتُمْ﴾ . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هو خَطَأٌ وإفْسادٌ لِلْمَعْنى. ولَيْسَ بِخَطَأٍ ولا إفْسادٍ لِلْمَعْنى، وإذا الشَّرْطِيَّةُ مُخْتَلَفٌ في العامِلِ فِيها، وقَدْ بَيَّنّا ما كَتَبْناهُ في (شَرْحِ التَّسْهِيلِ) أنَّ الصَّحِيحَ أنْ يَعْمَلَ فِيها فِعْلُ الشَّرْطِ، كَسائِرِ أدَواتِ الشَّرْطِ. والجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ يَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ مَعْمُولَةً لِـ: (يُنَبِّئُكم)؛ لِأنَّهُ في مَعْنى ”يَقُولُ لَكم“: ﴿إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ . ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ: ﴿إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ مَعْمُولًا لِـ: ﴿يُنَبِّئُكُمْ﴾ و﴿يُنَبِّئُكُمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ، ولَوْلا اللّامُ في خَبَرِ إنَّ لَكانَتْ مَفْتُوحَةً، فالجُمْلَةُ سَدَّتْ مَسَدَّ المَفْعُولَيْنِ. والجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ اعْتِراضٌ، وقَدْ مَنَعَ قَوْمٌ التَّعْلِيقَ في بابِ: اعْلَمْ، والصَّحِيحُ جَوازُهُ. قالَ الشّاعِرُ:
؎حَذارِ فَقَدْ نُبِّئْتَ أنَّكَ لَلَّذِي ∗∗∗ سَتُجْزى بِما تَسْعى فَتَسْعَدُ أوْ تَشْقى
(p-٢٦٠)و(مُمَزَّقٍ) مَصْدَرٌ جاءَ عَلى زِنَةِ اسْمِ المَفْعُولِ، عَلى القِياسِ في اسْمِ المَصْدَرِ مِن كُلِّ فِعْلٍ زائِدٍ عَلى الثَّلاثَةِ، كَقَوْلِهِ:
؎ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القَوافِي ∗∗∗ فَلا عِيًّا بِهِنَّ ولا اجْتِلابا
أيْ: تَسْرِيحِي القَوافِيَ. وأجازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أنْ يَكُونَ ظَرْفَ مَكانٍ، أيْ: إذا مُزِّقْتُمْ في مَكانٍ مِنَ القُبُورِ وبُطُونِ الطَّيْرِ والسِّباعِ، وما ذَهَبَتْ بِهِ السُّيُولُ كُلَّ مَذْهَبٍ، وما نَسَفَتْهُ الرِّياحُ فَطَرَحَتْهُ كُلَّ مَطْرَحٍ. انْتَهى. و(جَدِيدٍ) عِنْدَ البَصْرِيِّينَ بِمَعْنى فاعِلٍ، تَقُولُ: جَدَّ فَهو جادٌّ وجَدِيدٌ، وبِمَعْنى مَفْعُولٍ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ مِن جَدَّهُ إذا قَطَعَهُ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ: (أفْتَرى) مِن قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ أيْ: هو مُفْتَرٍ ﴿عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فِيما يُنْسَبُ إلَيْهِ مِن أمْرِ البَعْثِ ﴿أمْ بِهِ﴾ جُنُونٌ يُوهِمُهُ ذَلِكَ ويُلْقِيهِ عَلى لِسانِهِ. عادَلُوا بَيْنَ الِافْتِراءِ والجُنُونِ؛ لِأنَّ هَذا القَوْلَ عِنْدَهم إنَّما يَصْدُرُ عَنْ أحَدِ هَذَيْنِ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ يَعْتَقِدُ خِلافَ ما أُتِيَ بِهِ فَهو مُفْتَرٍ، وإنْ كانَ لا يَعْتَقِدُهُ فَهو مَجْنُونٌ. ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِن كَلامِ السّامِعِ المُجِيبِ لِمَن قالَ: ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ﴾ رَدَّدَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ ولَمْ يَجْزِمْ بِأحَدِهِما، حَيْثُ جَوَّزَ هَذا وجَوَّزَ هَذا، ولَمْ يَجْزِمْ بِأنَّهُ افْتِراءٌ مَحْضٌ؛ احْتِرازًا مِن أنْ يَنْسُبَ الكَذِبَ لِعاقِلٍ نِسْبَةً قَطْعِيَّةً، إذِ العاقِلُ حَتّى الكافِرِ لا يَرْضى بِالكَذِبِ، لا مِن نَفْسِهِ ولا مِن غَيْرِهِ، وأضْرَبَ تَعالى عَنْ مَقالَتِهِمْ، والمَعْنى: لَيْسَ لِلرَّسُولِ كَما نَسَبْتُمُ البَتَّةَ، بَلْ أنْتُمْ في عَذابِ النّارِ، أوْ في عَذابِ الدُّنْيا بِما تُكابِدُونَهُ مِن إبْطالِ الشَّرْعِ وهو بِحَقٍّ، وإطْفاءِ نُورِ اللَّهِ وهو مُتِمٌّ.
ولَمّا كانَ الكَلامُ في البَعْثِ قالَ: ﴿بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ فَرَتَّبَ العَذابَ عَلى إنْكارِ البَعْثِ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ في وصْفِ الضَّلالِ بِالبُعْدِ، وهو مِن أوْصافِ المَحالِّ، اسْتُعِيرَ لِلْمَعْنى، ومَعْنى بَعْدَهُ: أنَّهُ لا يَنْقَضِي خَبَرُهُ المُتَلَبَّسُ بِهِ.
﴿أفَلَمْ يَرَوْا﴾ أيْ: هَؤُلاءِ الكُفّارُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ﴿إلى ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ﴾ أيْ: حَيْثُ ما تَصَرَّفُوا، فالسَّماءُ والأرْضُ قَدْ أحاطَتا بِهِمْ، ولا يَقْدِرُونَ أنْ يَنْفُذُوا مِن أقْطارِهِما، ولا يَخْرُجُوا عَنْ مَلَكُوتِ اللَّهِ فِيهِما. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أُعْمُوا فَلَمْ يَنْظُرُوا، جَعَلَ بَيْنَ الفاءِ والهَمْزَةِ فِعْلًا يَصِحُّ العَطْفُ عَلَيْهِ، وهو خِلافُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ النَّحْوِيُّونَ مِن أنَّهُ لا مَحْذُوفَ بَيْنَهُما، وأنَّ الفاءَ لِلْعَطْفِ عَلى ما قَبْلَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهامِ، وأنَّ التَّقْدِيرَ ”فَألَمْ“، لَكِنَّ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهامِ لَمّا كانَ لَها الصَّدْرُ قُدِّمَتْ، وقَدْ رَجَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلى مَذْهَبِ النَّحْوِيِّينَ في ذَلِكَ، وقَدْ رَدَدْنا عَلَيْهِ هَذا المَذْهَبَ فِيما كَتَبْناهُ في (شَرْحِ التَّسْهِيلِ) . وقَّفَهم تَعالى عَلى قُدْرَتِهِ الباهِرَةِ، وحَذَّرَهم إحاطَتَها بِهِمْ عَلى سَبِيلِ الإهْلاكِ لَهم، وكانَ ثَمَّ حالٌ مَحْذُوفَةٌ، أيْ: أفَلا يَرَوْنَ إلى ما يُحِيطُ بِهِمْ مِن سَماءٍ وأرْضٍ مَقْهُورٍ تَحْتَ قُدْرَتِنا نَتَصَرَّفُ فِيهِ كَما نُرِيدُ ؟ ﴿إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ﴾ كَما فَعَلْنا بِقارُونَ ﴿أوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّماءِ﴾ كَما فَعَلْنا بِأصْحابِ الظُّلَّةِ، أوْ ﴿أفَلَمْ يَرَوْا إلى ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وما خَلْفَهُمْ﴾ مُحِيطًا بِهِمْ، وهم مَقْهُورُونَ تَحْتَ قُدْرَتِنا ؟ ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ النَّظَرِ إلى السَّماءِ والأرْضِ، والفِكْرِ فِيهِما، وما يَدُلّانِ عَلَيْهِ مِن قُدْرَةِ اللَّهِ (لَآيَةً) لَعَلامَةً ودَلالَةً ﴿لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ راجِعٍ إلى رَبِّهِ، مُطِيعٍ لَهُ. قالَ مُجاهِدٌ: مُخْبِتٍ. وقالَ الضَّحّاكُ: مُسْتَقِيمٍ. وقالَ أبُو رَوْقٍ: مُخْلِصٍ في التَّوْحِيدِ. وقالَ قَتادَةُ: مُقْبِلٍ إلى رَبِّهِ بِقَلْبِهِ؛ لِأنَّ المُنِيبَ لا يَخْلُو مِنَ النَّظَرِ في آياتِ اللَّهِ عَلى أنَّهُ قادِرٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ البَعْثِ ومِن عِقابِهِ مَن يَكْفُرُ بِهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”إنْ نَشَأْ نَخْسِفْ ونُسْقِطْ“ بِالنُّونِ في الثَّلاثَةِ؛ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ، وابْنُ وثّابٍ، وعِيسى، والأعْمَشُ، وابْنُ مُطَرِّفٍ: بِالياءِ فِيهِنَّ؛ وأدْغَمَ الكِسائِيُّ الفاءَ في الباءِ في ”نَخْسِفْ بِهِمْ“ . قالَ أبُو عَلِيٍّ: وذَلِكَ لا يَجُوزُ؛ لِأنَّ الباءَ أضْعَفُ في الصَّوْتِ مِنَ الفاءِ، فَلا تُدْغَمُ فِيها، وإنْ كانَتِ الباءُ تُدْغَمُ في الفاءِ، نَحْوُ: ضَرَبَ فُلانًا، وهَذا ما تُدْغَمُ الباءُ في المِيمِ، كَقَوْلِكَ: اضْرِبْ مالِكًا، ولا تُدْغَمُ المِيمُ في الباءِ، كَقَوْلِكَ: اضْمُمْ بِكَ؛ لِأنَّ الباءَ انْحَطَّتْ عَنِ المِيمِ بِفَقْدِ الغُنَّةِ الَّتِي في المِيمِ.
(p-٢٦١)وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقَرَأ الكِسائِيُّ نَخْسِفْ بِهِمْ بِالإدْغامِ، ولَيْسَتْ بِقَوِيَّةٍ. انْتَهى. والقِراءَةُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، ويُوجَدُ فِيها الفَصِيحُ والأفْصَحُ، وكُلُّ ذَلِكَ مِن تَيْسِيرِهِ تَعالى القُرْآنَ لِلذِّكْرِ، فَلا التِفاتَ لِقَوْلِ أبِي عَلِيٍّ ولا الزَّمَخْشَرِيِّ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡخَبِیرُ","یَعۡلَمُ مَا یَلِجُ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا یَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا یَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَمَا یَعۡرُجُ فِیهَاۚ وَهُوَ ٱلرَّحِیمُ ٱلۡغَفُورُ","وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَا تَأۡتِینَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّی لَتَأۡتِیَنَّكُمۡ عَـٰلِمِ ٱلۡغَیۡبِۖ لَا یَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَاۤ أَصۡغَرُ مِن ذَ ٰلِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرُ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ","لِّیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَرِزۡقࣱ كَرِیمࣱ","وَٱلَّذِینَ سَعَوۡ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا مُعَـٰجِزِینَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابࣱ مِّن رِّجۡزٍ أَلِیمࣱ","وَیَرَى ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلۡحَقَّ وَیَهۡدِیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰطِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَمِیدِ","وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ هَلۡ نَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلࣲ یُنَبِّئُكُمۡ إِذَا مُزِّقۡتُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمۡ لَفِی خَلۡقࣲ جَدِیدٍ","أَفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِۦ جِنَّةُۢۗ بَلِ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ فِی ٱلۡعَذَابِ وَٱلضَّلَـٰلِ ٱلۡبَعِیدِ","أَفَلَمۡ یَرَوۡا۟ إِلَىٰ مَا بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ إِن نَّشَأۡ نَخۡسِفۡ بِهِمُ ٱلۡأَرۡضَ أَوۡ نُسۡقِطۡ عَلَیۡهِمۡ كِسَفࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّكُلِّ عَبۡدࣲ مُّنِیبࣲ"],"ayah":"ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡخَبِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق