الباحث القرآني

(p-٤٢٨)سُورَةُ سَبَأٍ مَقْصُودُها أنَّ الدّارَ الآخِرَةَ - الَّتِي أشارَ إلَيْها آخِرَ تِلْكَ بِالعَذابِ والمَغْفِرَةِ بَعْدَ أنْ أعْلَمَ أنَّ النّاسَ يَسْألُونَ عَنْها - كائِنَةٌ لا رَيْبَ فِيها، لِما في ذَلِكَ مِنَ الحِكْمَةِ، ولَهُ عَلَيْهِ مِنَ القُدْرَةِ، وفي تَرْكِها مِن عَدَمِ الحِكْمَةِ والتَّصْوِيرِ بِصُورَةِ الظُّلْمِ، ولِقِصَّةِ سَبَأٍ الَّتِي سُمِّيَتْ بِها السُّورَةُ مُناسَبَةٌ كَبِيرَةٌ لِهَذا المَقْصِدِ كَما يَأْتِي بَيانُهُ لِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِها ”بِسْمِ اللَّهِ“ الَّذِي مِن شُمُولِ قُدْرَتِهِ إقامَةُ الحِسابِ ”الرَّحْمَن“ الَّذِي مِن عُمُومِ رَحْمَتِهِ تَرْتِيبُ الثَّوابِ والعِقابِ ”الرَّحِيم“ الَّذِي يَمُنُّ عَلى أهْلِ كَرامَتِهِ بِطاعَتِهِ حَتّى لا عِقابَ يَلْحَقُهم ولا عِتابَ. لَمّا خُتِمَتْ سُورَةُ الأحْزابِ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ عَرَضَ أداءَ الأمانَةِ وحَمْلَها - وهي جَمِيعُ ما في الوُجُودِ مِنَ المَنافِعِ - عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ، فَأشْفَقْنَ مِنها وحَمَلَها الإنْسانُ الَّذِي هو الإنْسُ والجانُّ، وأنْ نَتِيجَةَ العَرْضِ والأداءِ والحَمْلِ العَذابُ والثَّوابُ، فَعُلِمَ أنَّ الكُلَّ مِلْكُهُ وفي مُلْكِهِ، خائِفُونَ مِن عَظَمَتِهِ مُشْفِقُونَ مِن قَهْرِ سَطْوَتِهِ وقاهِرٌ جَبَرُوتُهُ، وأنَّهُ المالِكُ التّامُّ المِلْكِ والمَلِكُ المُطاعُ المُتَصَرِّفُ في كُلِّ شَيْءٍ (p-٤٢٩)مِن غَيْرِدِفاعٍ، وخَتَمَ ذَلِكَ بِصِفَتَيِ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ، دَلَّ عَلى ذَلِكَ كُلِّهِ بِأنِ ابْتَدَأ هَذِهِ بِقَوْلِهِ ﴿الحَمْدُ﴾ أيِ الإحاطَةُ بِأوْصافِ الكَمالِ مِنَ الخَلْقِ والأمْرِ كُلِّهِ مُطْلَقًا في الأُولى والأُخْرى وغَيْرِهِما مِمّا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ ويُحِيطُ بِهِ عِلْمُهُ سُبْحانَهُ ﴿لِلَّهِ﴾ ذِي الجَلالِ والجَمالِ. ولَمّا كانَ هَذا [هُوَ] المُرادَ، وصَفَهُ بِما يُفِيدُ ذَلِكَ، فَقالَ مُنَبِّهًا عَلى نِعْمَةِ الإبْداءِ والإبْقاءِ أوَّلًا: ﴿الَّذِي لَهُ﴾ أيْ وحْدَهُ مِلْكًا ومُلْكًا وإنْ نَسَبْتُمْ إلى غَيْرِهِ مُلْكًا ومِلْكًا ظاهِرِيًّا ﴿ما في السَّماواتِ﴾ أيْ بِأسْرِها ﴿وما في الأرْضِ﴾ أيْ كَما تَرَوْنَ أنَّهُ لا مُتَصَرِّفَ في شَيْءٍ مِن ذَلِكَ كَمالَ التَّصَرُّفِ غَيْرُهُ، وقَدْ عُلِمَ في غَيْرِ مَوْضِعٍ وتَقَرَّرَ في كُلِّ فِطْرَةٍ أنَّهُ ذُو العَرْشِ العَظِيمِ، فَأنْتَجَ ذَلِكَ أنَّ لَهُ ما يَحْوِيهِ عَرْشُهُ مِنَ السَّماواتِ والأراضِي وما فِيها، لِأنَّ مِنَ المَعْلُومِ أنَّ العَرْشَ مُحِيطٌ بِالكُلِّ، فالكُلُّ فِيهِ، وكُلُّ سَماءٍ في الَّتِي فَوْقَها، وكَذا الأراضِي، وقَدْ تَقَرَّرَ أنَّ لَهُ ما في الكُلِّ، فَأنْتَجَ ذَلِكَ أنَّ لَهُ الكُلَّ بِهَذا البُرْهانِ الصَّحِيحِ، وهو أبْلَغُ مِمّا لَوْ عَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ عَلى وجْهِ التَّصْرِيحِ، وإذْ قَدْ كانَ لَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ فَلا نِعْمَةَ عَلى شَيْءٍ إلّا مِنهُ، فَكُلُّ شَيْءٍ يَحْمَدُهُ لِما لَهُ عَلَيْهِ مِن نِعَمِهِ بِلِسانٍ قالَ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَبِلِسانِ حالِهِ. (p-٤٣٠)ولَمّا أفادَ ذَلِكَ أنَّ لَهُ الدُّنْيا وما فِيها، وقَدْ عُلِمَ في آخِرِ الأحْزابِ أنَّ نَتِيجَةَ الوُجُودِ العَذابُ والمَغْفِرَةُ، ونَحْنُ نَرى أكْثَرَ الظَّلَمَةِ والمُنافِقِينَ يَمُوتُونَ مِن غَيْرِ عَذابٍ، وأكْثَرُ المُؤْمِنِينَ يَمُوتُونَ لَمْ يُوَفَّوْا ما وُعِدُوهُ مِنَ الثَّوابِ، ونَعْلَمُ قَطْعًا أنَّهُ لا يَجُوزُ عَلى حَكِيمٍ أنْ يَتْرُكَ عَبِيدَهُ سُدًى يَبْغِي بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ وهو لا يَغِيرُ عَلَيْهِمْ، فَأفادَ ذَلِكَ أنَّ لَهُ دارًا أُخْرى يُظْهِرُ فِيها العَدْلَ ويَنْشُرُ الكَرَمَ والفَضْلَ، فَلِذَلِكَ قالَ عاطِفًا عَلى ما يُسَبِّبُهُ الكَلامُ الأوَّلُ مِن نَحْوِ: فَلَهُ الحَمْدُ في الأُولى، وطَواهُ لِأجْلِ خَفائِهِ عَلى أكْثَرِ الخَلْقِ، وأظْهَرَ ما في الآخِرَةِ لِظُهُورِهِ لِأنَّها دارُ كَشْفِ الغِطاءِ، فَقالَ مُنَبِّهًا عَلى نِعْمَةِ الإعادَةِ والإبْقاءِ ثانِيًا: ﴿ولَهُ﴾ أيْ وحْدَهُ ﴿الحَمْدُ﴾ أيِ الإحاطَةُ بِالكَمالِ ﴿فِي الآخِرَةِ﴾ ظاهِرًا لِكُلِّ مَن يَجْمَعُهُ الحَشْرُ، ولَهُ كُلُّ ما فِيها، لا يَدَّعِي ذَلِكَ أحَدٌ في شَيْءٍ مِنهُ لا ظاهِرًا ولا باطِنًا، فَكُلُّ شَيْءٍ فِيها لِظُهُورِ الحَمْدِ إذْ ذاكَ بِحَمْدِهِ كَما يَنْبَغِي لِجَلالِهِ بِما لَهُ عَلَيْهِ مِن نِعْمَةٍ أقَلُّها نِعْمَةُ الإيجادِ حَتّى أهْلُ النّارِ فَإنَّهم يَحْمَدُونَهُ بِما يُحَبِّبُ إلَيْهِمْ في الدُّنْيا مِن إسْباغِ نِعَمِهِ ظاهِرَةً وباطِنَةً، ومِنها إنْزالُ الكُتُبِ وإرْسالُ الرُّسُلِ عَلى وجْهٍ ما أبْقى فِيهِ لِلتَّحَبُّبِ مَوْضِعًا في دُعائِهِمْ إلَيْهِ وإقْبالِهِمْ عَلَيْهِ، وبَذَلَ النَّصِيحَةَ عَلى وُجُوهٍ مِنَ اللُّطْفِ كَما هو مَعْرُوفٌ عِنْدَ مَن عاناهُ، فَعَلِمُوا أنَّهم هُمُ المُفَرِّطُونَ حَيْثُ أبَوْا في الأُولى حَيْثُ يَنْفَعُ (p-٤٣١)الإيمانُ، واعْتَرَفُوا في الآخِرَةِ حَيْثُ فاتَ الأوانُ ﴿وقالُوا آمَنّا بِهِ وأنّى لَهُمُ التَّناوُشُ﴾ [سبإ: ٥٢] الآياتُ، وأيْضًا فَهم يَحْمَدُونَهُ في الآخِرَةِ لِعِلْمِهِمْ أنَّهُ لا يُعَذِّبُ أحَدًا مِنهم فَوْقَ ما يَسْتَحِقُّ وهو قادِرٌ عَلى ذَلِكَ، ولِذَلِكَ جَعَلَ النّارَ طَبَقاتٍ، ورُتَبَها دَرَكاتٍ، فَكانُوا في الأُولى حامِدِينَ عَلى غَيْرِ وجْهِهِ، فَلَمْ يَنْفَعْهم حَمْدُهم لِبِنائِهِ عَلى غَيْرِ أساسٍ، وحَمِدُوا في الآخِرَةِ عَلى وجْهِهِ فَما أغْنى عَنْهم لِكَوْنِها لَيْسَتْ دارَ العَمَلِ لِفَواتِ شَرْطِهِ، وهو الإيمانُ بِالغَيْبِ، والآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: حَذَفَ أوَّلًا ”لَهُ الحَمْدُ في الأُولى“ لِما دَلَّ عَلَيْهِ ثانِيًا، وثانِيًا ”ولَهُ كُلُّ ما في الآخِرَةِ“ لِما دَلَّ عَلَيْهِ أوَّلًا، وقَدْ عُلِمَ بِهَذا وبِما قَدَّمْتُهُ في النَّحْلِ والفاتِحَةِ أنَّ الحَمْدَ تارَةً يَكُونُ بِالنَّظَرِ إلى الحامِدِ، وتارَةً بِالنَّظَرِ إلى المَحْمُودِ، فالثّانِي اتِّصافُ المَحْمُودِ بِالجَمِيلِ، والأوَّلُ وصْفُ الحامِدِ لَهُ بِالجَمِيلِ، فَحَمْدُ اللَّهِ تَعالى اتِّصافُهُ بِكُلِّ وصْفٍ جَمِيلٍ، وحَمْدُ الحامِدِ لَهُ وصْفُهُ بِذَلِكَ، فَكُلُّ الأكْوانِ ناطِقَةٌ بِألْسُنِ أحْوالِها بِحَمْدِهِ سَواءٌ أنَطَقَ لِسانُ القالِ بِذَلِكَ أمْ لا، وهو مَحْمُودٌ قَبْلَ تَكْوِينِها، وذَلِكَ هو مَعْنى قَوْلِي الإحاطَةُ بِأوْصافِ الكَمالِ، وحَمْدُ غَيْرِهِ لَهُ تارَةً (p-٤٣٢)يُطْلَقُ بِالمَدْلُولِ اللُّغَوِيِّ، وتارَةً بِالمَدْلُولِ العُرْفِيِّ، وتَحْقِيقُ ما قالَ العُلَماءُ في ذَلِكَ في نَفْسِهِ وبِالنِّسْبَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الشُّكْرِ أنَّ الحَمْدَ في اللُّغَةِ هو الوَصْفُ بِالجَمِيلِ الِاخْتِيارِيِّ عَلى جِهَةِ التَّعْظِيمِ، ومَوْرِدُهُ اللِّسانُ وحْدَهُ فَهو مُخْتَصٌّ بِالظّاهِرِ ومُتَعَلِّقُهُ النِّعْمَةُ وغَيْرُها، فَمَوْرِدُهُ خاصٌّ ومُتَعَلِّقُهُ عامٌّ، والشُّكْرُ لُغَةً عَلى العَكْسِ مِن ذَلِكَ مُتَعَلِّقُهُ خاصٌّ ومَوْرِدُهُ عامٌّ، لِأنَّهُ فِعْلٌ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ المُنْعِمِ بِسَبَبِ إنْعامِهِ فَمَوْرِدُهُ الظّاهِرُ والباطِنُ لِأنَّهُ يَعُمُّ اللِّسانَ والجَنانَ والأرْكانَ، ومُتَعَلِّقُهُ النِّعْمَةُ الواصِلَةُ إلى الشّاكِرِ، ومِن مَوارِدِهِ القَلْبُ وهو أشْرَفُ المَوارِدِ كُلِّها، لِأنَّهُ فَعَلَهُ وإنْ كانَ خَفِيًّا يَسْتَقِلُّ بِكَوْنِهِ شُكْرًا مِن غَيْرِ أنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ فِعْلٌ غَيْرُهُ بِخِلافِ المَوْرِدَيْنِ الآخَرَيْنِ، إذْ لا يَكُونُ فِعْلُ شَيْءٍ مِنهُما حَمْدًا ولا شُكْرًا حَقِيقَةً ما لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ فِعْلُ القَلْبِ. ولَمّا كانَ تَعاكُسُ المَوْرِدَيْنِ والمُتَعَلِّقَيْنِ ظاهِرَ الدَّلالَةِ عَلى النِّسْبَةِ بَيْنَ الحَمْدِ والشُّكْرِ اللُّغَوِيَّيْنِ، عُلِمَ أنَّ بَيْنَهُما عُمُومًا وخُصُوصًا وجْهِيًّا، لِأنَّ الحَمْدَ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلى الفَضائِلِ المُجَرَّدَةِ، والشُّكْرُ قَدْ يَخْتَصُّ بِالفَواضِلِ، فَيَنْفَرِدُ الحَمْدُ مِن هَذِهِ الجِهَةِ، ويَنْفَرِدُ الشُّكْرُ بِالفِعْلِ الظّاهِرِ والِاعْتِقادِ الباطِنِ عَلى الفَواضِلِ مِن غَيْرِ قَوْلٍ، ويَجْتَمِعانِ في الوَصْفِ الجَنانِيِّ واللِّسانِيِّ عَلى الفَواضِلِ، فَفِعْلُ القَلْبِ اعْتِقادُ اتِّصافِ المَشْكُورِ بِصِفاتِ (p-٤٣٣)الكَمالِ مِنَ الجَلالِ والجَمالِ، وفِعْلُ اللِّسانِ ذِكْرُ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، وفِعْلُ الأرْكانِ الإتْيانُ بِأفْعالٍ دالَّةٍ عَلى ذَلِكَ. ولَمّا كانَ هَذا حَقِيقَةَ الحَمْدِ والشُّكْرِ لُغَةً لا عُرْفًا، وكانَتِ الأوْهامُ تَسْبِقُ إلى أنَّ الحَمْدَ ما يَشْتَمِلُ عَلى لَفْظِ حَ مِ دَ، قالَ القُطْبُ الرّازِي في شَرْحِ المَطالِعِ: ولَيْسَ الحَمْدُ عِبارَةً عَنْ خُصُوصِ قَوْلِ القائِلِ [”الحَمْدُ لِلَّهِ“ وإنْ كانَ هَذا القَوْلُ فَرْدًا مِن أفْرادِ الماهِيَّةِ، وكَذا لَيْسَ ماهِيَّةُ الشُّكْرِ عِبارَةً عَنْ خُصُوصِ قَوْلِ القائِلِ] ”الشُّكْرُ لِلَّهِ“ ولا القَوْلُ المُطْلَقُ الدّالُّ عَلى تَعْظِيمِ اللَّهِ وإنْ كانَ الثّانِي جُزْءًا مِنهُ والأوَّلُ فَرْدٌ مِن هَذا الجُزْءِ، وحَقِيقَةُ الحَمْدِ في العُرْفِ ما يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ المُنْعِمِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُنْعِمًا، وحَقِيقَةُ الشُّكْرِ العُرْفِيِّ هو صَرْفُ العَبْدِ جَمِيعَ ما أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ القُوى إلى ما خَلَقَ لَهُ كَصَرْفِ النَّظَرِ إلى مُطالَعَةِ مَصْنُوعاتِهِ لِلِاعْتِبارِ إلى عَلِيِّ حَضَراتِهِ، وإلْقاءِ السَّمْعِ إلى تَلَقِّي ما يُنْبِئُ عَنْ مَرْضاتِهِ، والِاجْتِنابُ عَنْ مُنْهِيّاتِهِ، فَذِكْرُ الوَصْفِ في اللُّغَوِيِّ يُفْهِمُ الكَلامَ سَواءٌ كانَ نَفْسانِيًّا أوْ لِسانِيًّا فَيَشْمَلُ حَمْدَ اللَّهِ تَعالى نَفْسَهُ وحَمْدَنا لَهُ، والجَمِيلُ مُتَناوِلٌ لِلْإنْعامِ وغَيْرِهِ مِن مَكارِمِ الأخْلاقِ ومَحاسِنِ الأعْمالِ، وعَدَمُ تَقْيِيدِ الوَصْفِ بِكَوْنِهِ في مُقابَلَةِ نِعَمِهِ مَظْهَرٌ لِأنَّ الحَمْدَ قَدْ يَكُونُ واقِعًا بِإزاءِ النِّعْمَةِ وقَدْ لا يَكُونُ، واشْتِراطُ التَّعْظِيمِ يُفْهِمُ تَطابُقَ الظّاهِرِ والباطِنِ، فَإنْ عَرى قَوْلُ اللِّسانِ (p-٤٣٤)عَنْ مُطابَقَةِ الِاعْتِقادِ أوْ خالَفَهُ فِعْلُ الجَوارِحِ لَمْ يَكُنْ حَمْدًا حَقِيقَةً، بَلِ اسْتِهْزاءً وسُخْرِيَةً، ومُطابَقَةُ الجَنانِ والأرْكانِ شَرْطٌ في الحَمْدِ لا شَطْرٌ، فَلا يَتَداخَلُ التَّعْرِيفانِ، ولا يَخْرُجُ بِالِاخْتِيارِ صِفاتُ اللَّهِ القَدِيمَةُ، فَإنَّها مِن حَيْثُ قُدْرَتُهُ عَلى تَعْلِيقِها بِالأشْياءِ تَكُونُ داخِلَةً فَيَكُونُ الحَمْدُ عَلى الوَصْفِ الِاخْتِيارِيِّ، وكَذا إذا مُدِحَ الشُّجاعُ بِشَجاعَتِهِ والقُدْرَةِ عَلى تَعْلِيقِ الوَصْفِ بِما يَتَحَقَّقُ بِهِ كانَتِ الشَّجاعَةُ خاصَّةً لَمْ يَكُنْ هُناكَ مَحْمُودٌ عَلَيْهِ، فَقَدْ عُلِمَ مِن هَذا أنَّهُ إذا كانَ هُناكَ اخْتِيارٌ في الآثارِ كانَ الحَمْدُ عَلَيْهِ وإلّا فَلا، فَلا يُسَمّى وصْفُ اللُّؤْلُؤَةِ بِصَفاءِ الجَوْهَرِ وبَهْجَةِ المَنظَرِ حَمْدًا بَلْ مَدْحًا، ويُسَمّى الوَصْفُ بِالشَّجاعَةِ لِلِاخْتِيارِ في إظْهارِ آثارِها حَمْدًا، فاخْتَصَّ الحَمْدُ بِالفاعِلِ المُخْتارِ دُونَ المَدْحِ، وعُلِمَ أيْضًا أنَّ القَوْلَ المَخْصُوصَ وهو ”الحَمْدُ لِلَّهِ“ لَيْسَ حَمْدًا لِخُصُوصِهِ، بَلْ لِأنَّهُ دالٌّ عَلى صِفَةِ الكَمالِ ومُظْهِرٌ لَها، فَيُشارِكُهُ في التَّسْمِيَةِ كُلُّ ما دَلَّ عَلى ذَلِكَ مِنَ الوَصْفِ، ولِذَلِكَ قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ: حَقِيقَةُ الحَمْدِ إظْهارُ الصِّفاتِ الكَمالِيَّةِ، وذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالقَوْلِ كَما عُرِفَ، وقَدْ يَكُونُ بِالفِعْلِ وهو أقْوى، لِأنَّ الأفْعالَ الَّتِي هي آثارُ الأوْصافِ تَدُلُّ عَلَيْها دَلالَةً عَقْلِيَّةً قَطْعِيَّةً، لا يُتَصَوَّرُ فِيها خُلْفٌ بِخِلافِ الأقْوالِ، فَإنَّ دَلالَتَها عَلَيْها وضْعِيَّةٌ، وقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْها مَدْلُولُها، وقَدْ حَمِدَ اللَّهُ تَعالى نَفْسَهُ بِما يَقْطَعُ بِهِ مِن (p-٤٣٥)القَوْلِ والفِعْلِ، ما الفِعْلُ فَإنَّهُ بَسَطَ بِساطَ الوُجُودِ عَلى مُمَكِناتٍ لا تُحْصى ووَضَعَ عَلَيْهِ مَوائِدَ كَرَمِهِ الَّتِي لا تَتَناهى، فَكَشَفَ ذَلِكَ عَنْ صِفاتِ كَمالِهِ وأظْهَرَها بِدَلالاتٍ قَطْعِيَّةٍ تَفْصِيلِيَّةٍ غَيْرِ مُتَناهِيَةٍ، فَإنَّ كُلَّ ذَرَّةٍ مِن ذَرّاتِ الوُجُودِ تَدُلُّ عَلَيْها، ولا يُتَصَوَّرُ في عِباراتِ المَخْلُوقِ مِثْلُ هَذِهِ الدَّلالاتِ، ومِن ثَمَّةَ قالَ ﷺ «لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْكَ أنْتَ كَما أثْنَيْتَ عَلى نَفْسِكَ» ولا بُدَّ لِلتَّنَبُّهِ لِما قالَهُ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ التَّجِيبِيُّ المَغْرِبِيُّ الحِرالِيُّ في تَفْسِيرِهِ بِأنَّ حَمْدَلَةَ الفاتِحَةِ تَتَضَمَّنُ مِن حَيْثُ ظاهِرُها المَدْحَ التّامَّ الكامِلَ مِمَّنْ يَرى المِدْحَةَ سارِيَةً في كُلِّ ما أبْدَعَهُ اللَّهُ وما أحْكَمَهُ مِنَ الأسْبابِ الَّتِي احْتَواها الكَوْنُ كُلُّهُ، وعُلِمَ أنَّ كِلْتا يَدَيْ رَبِّهِ يَمِينٌ مُبارَكَةٌ، وهو مَعْنى ما يُظْهِرُهُ إحاطَةُ العِلْمِ بِإبْداءِ اللَّهِ حِكْمَتِهِ عَلى وجْهٍ لا نَكِرَةَ فِيهِ مِنهُ، ولا مِمَّنْ هو في أمْرِهِ خَلِيفَتُهُ، ولَيْسَ مِن مَعْنى ما بَيْنَ العَبْدِ ورَبِّهِ مِن وجْهِ إسْداءِ النِّعَمِ وهو أمْرٌ يَجِدُهُ القَلْبُ عِلْمًا، لا أمْرٌ يُوافِقُ النَّفْسَ غَرَضًا، فَمَن لَمْ يُكْمِلْ بِعِلْمِ ذَلِكَ تاليًا عَلى أثَرٍ مِن عِلْمِهِ، واجِدًا بَرَكَةَ تِلاوَتِهِ. انْتَهى. وأمّا القَوْلُ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا عَلِمَ أنَّ لِسانَ الحالِ إنَّما يَرْمُزُ رَمْزًا خَفِيًّا لا يَفْهَمُهُ إلّا الأفْرادُ وإنْ كانَ بَعْدَ التَّحْقِيقِ جَلِيًّا، أنْزَلَ عَلَيْنا كِتابًا مُفْصِحًا بِالمُرادِ أثْنى فِيهِ عَلى نَفْسِهِ، وبَيَّنَ صِفاتِ كَمالِهِ (p-٤٣٦)بِالبَيانِ الَّذِي يَعْجِزُ عَنْهُ القَوِيُّ، ثُمَّ جَعَلَ الإعْجازَ دَلالَةً قَطْعِيَّةً عَلى كَمالِهِ، وعَلى كُلِّ ما لَهُ مِن جَلالِهِ وجَمالِهِ، وقَدْ عُلِمَ مِن هَذِهِ التَّعارِيفِ أنَّ بَيْنَ الحَمْدِ والشُّكْرِ اللُّغَوِيَّيْنِ عُمُومًا وخُصُوصًا مِن وجْهٍ، لِأنَّ الحَمْدَ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلى الفَضائِلِ [وهِيَ الصِّفاتُ] الجَمِيلَةُ الَّتِي لا يَتَجاوَزُ مِنها أثَرٌ ومَنفَعَةٌ إلى غَيْرِ المَمْدُوحِ كالشَّجاعَةِ، والشُّكْرُ يَخْتَصُّ بِالفَواضِلِ وهي النِّعَمُ وهي الصِّفاتُ والمَزايا المُتَعَدِّيَةُ الَّتِي يَحْصُلُ مِنها مَنفَعَةٌ لِغَيْرِ المَمْدُوحِ كالإحْسانِ والمَواهِبِ والعَطايا كَما مَضى، وبَيْنَ الحَمْدِ والشُّكْرِ العُرْفِيَّيْنِ عُمُومًا وخُصُوصًا مُطْلَقًا، فالحَمْدُ أعَمُّ مُطْلَقًا لِعُمُومِ النِّعَمِ الواصِلَةِ إلى الحامِدِ وغَيْرِهِ، واخْتِصاصُ الشُّكْرِ بِما يَصِلُ إلى الشّاكِرِ، وذَلِكَ لِأنَّ المُنْعِمَ المَذْكُورَ في التَّعْرِيفِ مُطْلَقٌ لَمْ يُقَيَّدْ بِكَوْنِهِ مُنْعِمًا عَلى الحامِدِ أوْ عَلى غَيْرِهِ، فَمُتَناوِلُهُما بِخِلافِ الشُّكْرِ وقَدِ اعْتُبِرَ فِيهِ مُنْعِمٌ مَخْصُوصٌ وهو اللَّهُ تَعالى، ونِعَمٌ واصِلَةٌ مِنهُ إلى الشّاكِرِ، ولِعُمُومِ هَذا الحَمْدِ مُطْلَقًا وخُصُوصٍ هَذا الشُّكْرِ مُطْلَقًا وجْهٌ ثانٍ، وهو أنَّ فِعْلَ القَلْبِ واللِّسانِ مَثَلًا قَدْ يَكُونُ حَمْدًا ولَيْسَ شُكْرًا أصْلًا، إذْ قَدِ اعْتُبِرَ فِيهِ شُمُولُ الآلاتِ، ووَجْهٌ ثالِثٌ وهو أنَّ الشُّكْرَ بِهَذا المَعْنى لا يَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ تَعالى بِخِلافِ الحَمْدِ، (p-٤٣٧)وما يُقالُ مِن أنَّ النِّسْبَةَ بِالعُمُومِ المُطْلَقِ، بَيْنَ العُرْفَيْنِ إنَّما تَصِحُّ بِحَسَبِ الوُجُودِ دُونَ الحَمْلِ الَّذِي كَلامُنا فِيهِ، لِأنَّ الحَمْدَ بِصَرْفِ القَلْبِ مَثَلًا فِيما خُلِقَ لِأجْلِهِ جُزْءٌ مِن صَرْفِ الجَمِيعِ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَيْهِ لِامْتِيازِهِ في الوُجُودِ عَنْ سائِرِ أجْزائِهِ وأمّا في الحَمْلِ فَلا يَمْتازُ المَحْمُولُ عَنِ المَوْضُوعِ في الوُجُودِ الخارِجِيِّ، فَغَلُظَ مِن بابِ اشْتِباهِ الشَّيْءِ بِما صَدَقَ هو عَلَيْهِ، فَإنَّ ما لَيْسَ مَحْمُولًا عَلى ذَلِكَ الصَّرْفِ هو ما صَدَقَ عَلَيْهِ الحَمْدُ، أعْنِي صَرْفَ القَلْبِ وحْدَهُ لا مَفْهُومَهُ المَذْكُورَ، وهو فِعْلٌ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِ المُنْعِمِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُنْعِمًا، وهَذا المَفْهُومُ يَحْمِلُ عَلى صَرْفِ الجَمِيعِ، وما يُقالُ إنَّ صَرْفَ الجَمِيعِ أفْعالٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَلا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أنَّهُ فِعْلٌ واحِدٌ، وما يُقالُ إنَّ صَرْفَ الجَمِيعِ أفْعالٌ مُتَعَدِّدَةٌ، فَلا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أنَّهُ فِعْلٌ واحِدٌ، جَوابُهُ أنَّهُ فِعْلٌ واحِدٌ تَعَدَّدَ مُتَعَلِّقُهُ، فَلا يُنافِي وصْفَهُ بِالوَحْدَةِ كَما يُقالُ: صَدَرَ عَنْ زَيْدٍ فِعْلٌ واحِدٌ إكْرامَ جَمِيعِ القَوْمِ مَثَلًا، وتَحْقِيقُهُ أنَّ المُرَكَّبَ قَدْ يُوصَفُ بِالوَحْدَةِ الحَقِيقِيَّةِ كَبَدَنٍ واحِدٍ، والِاعْتِبارِيَّةُ كَعَسْكَرٍ واحِدٍ، وصِدْقُ الجَمِيعِ مِن قَبِيلِ الثّانِي كَما لا يَرْتابُ فِيهِ ذُو مِسْكَةِ، والنِّسْبَةُ بَيْنَ الحَمْدَيْنِ اللُّغَوِيِّ والعُرْفِيِّ عُمُومٌ وخُصُوصٌ مِن وجْهٍ، لِأنَّ الحَمْدَ العُرْفِيَّ هو الشُّكْرُ اللُّغَوِيُّ، وقَدْ مَضى بَيانُ ذَلِكَ فِيهِما. وبَيْنَ الشُّكْرِ العُرْفِيِّ (p-٤٣٨)واللُّغَوِيِّ عُمُومٌ مُطْلَقٌ لِأنَّ الشُّكْرَ اللُّغَوِيَّ يَعُمُّ النِّعْمَةَ إلى الغَيْرِ دُونَ العُرْفِيِّ فَهو أعَمُّ، والعُرْفِيُّ أخَصُّ مُطْلَقًا، وكَذا بَيْنَ الشُّكْرِ العُرْفِيِّ والحَمْدِ اللُّغَوِيِّ لِأنَّ الأوَّلَ مَخْصُوصٌ بِالنِّعْمَةِ عَلى الشّاكِرِ سَواءٌ كانَ بِاللِّسانِ أوْ لا، والثّانِي وإنَّ خُصَّ بِاللِّسانِ فَهو مُشْتَرَطٌ فِيهِ مُطابَقَةُ الأرْكانِ والجَنانِ، لِيَكُونَ عَلى وُجْهَةِ التَّبْجِيلِ، وقَدْ لا يَكُونُ في مُقابَلَةِ نِعْمَةٍ فَهو أعَمُّ مُطْلَقًا فَكُلُّ شُكْرٍ عُرْفِيٍّ حَمْدٌ لُغَوِيٌّ، ولا يَنْعَكِسُ وهَذا بِحَسَبِ الوُجُودِ، وكَذا بَيْنَ الحَمْدِ العُرْفِيِّ والشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ عُمُومٌ مُطْلَقٌ أيْضًا إذا قُيِّدَتِ النِّعْمَةُ في اللُّغَوِيِّ بِوُصُولِها إلى الشّاكِرِ كَما مَرَّ، وأمّا إذا لَمْ تُقَيَّدْ فَهُما مُتَّحِدانِ، وأمّا الشُّكْرُ المُطْلَقُ فَهو عَلى قِياسِ ما مَضى تَعْظِيمُ المُنْعِمِ بِصَرْفِ نِعْمَتِهِ إلى ما يُرْضِيهِ، ولا يَخْفى أنَّهُ إذا كانَ نَفْسُ الحَمْدِ والشُّكْرِ مِنَ النِّعَمِ لَمْ يُمْكِنْ أحْدًا الإتْيانُ بِهِما عَلى التَّمامِ والكَمالِ لِاسْتِلْزامِهِ تَسَلْسُلَ الأفْعالِ إلى ما لا يَتَناهى، وهَذا التَّحْقِيقُ مَنقُولٌ عَنْ إمامِ الحَرَمَيْنِ والإمامِ الرّازِي - هَذا حاصِلُ ما في شَرْحِ المَطالِعِ لِلْقُطْبِ الرّازِي وحاشِيَتِهِ لِلشَّرِيفِ الجُرْجانِيِّ بِزِياداتٍ، وقَدْ عُلِمَ صِحَّةُ ما أسْلَفْتُهُ في شَرْحِ الحَمْدِ بِالنَّظَرِ إلى الحامِدِ وبِالنَّظَرِ إلى المَحْمُودِ، وإذا جَمَعْتَ أطْرافَ ما تَقَدَّمَ في سُورَةِ النَّحْلِ (p-٤٣٩)والفاتِحَةِ وغَيْرِهِما مِن أنَّ المادَّةَ تَدُورُ عَلى الإحاطَةِ عُلِمَ أنَّهُ بِالنَّظَرِ إلى الحامِدِ وصِفَةِ المَحْمُودِ بِالإحاطَةِ بِأوْصافِ الكَمالِ، وبِالنَّظَرِ إلى المَحْمُودِ اتِّصافُهُ بِالإحاطَةِ بِأوْصافِ الكَمالِ، فَإنَّ الوَصْفَ يُشْتَرَطُ أنْ يَكُونَ مُطابِقًا وإلّا كانَ مَدْحًا لا حَمْدًا، كَما حَقَّقَهُ العَلّامَةُ قاضِي دِمَشْقَ شَمْسُ الدِّينِ أحْمَدُ بْنُ خَلِيلٍ الخُوَيِيُّ في كِتابِهِ أقالِيمِ التَّعالِيمِ. ولَمّا تَقَرَّرَ أنَّ الحِكْمَةَ لا تَتِمُّ إلّا بِإيجادِ الآخِرَةِ قالَ: ﴿وهُوَ الحَكِيمُ﴾ أيِ الَّذِي بَلَغَتْ حِكْمَتُهُ النِّهايَةَ الَّتِي لا مَزِيدَ عَلَيْها، والحِكْمَةُ هي العِلْمُ بِالأُمُورِ عَلى وجْهِ الصَّوابِ مُتَّصِلًا بِالعَمَلِ عَلى وفْقِهِ. ولَمّا كانَتِ الحِكْمَةُ لا تَتَهَيَّأُ إلّا بِدَقِيقِ العِلْمِ وصافِيهِ ولُبابِهِ وهو الخِبْرَةُ قالَ: ﴿الخَبِيرُ﴾ أيِ البَلِيغُ الخُبْرِ وهو العِلْمُ بِظَواهِرِ الأُمُورِ وبَواطِنِها حالًا ومالًا، فَلا يَجُوزُ في عَقْلٍ أنَّهُ - وهو المُتَّصِفُ بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ كَما هو مُشاهَدٌ في إتْقانِ أفْعالِهِ وإحْكامِ كُلِّ شَيْءٍ سَمِعْناهُ مِن أقْوالِهِ - يَخْلُقُ الخَلْقَ سُدًى مِن غَيْرِ إعادَةٍ لِدارِ الجَزاءِ، وقَدْ مَضى في الفاتِحَةِ وغَيْرِها عَنِ العَلّامَةِ سَعْدِ الدِّينِ التَّفْتازانِيِّ أنَّهُ قالَ: التَّصْدِيرُ بِالحَمْدِ إشارَةٌ إلى أُمَّهاتِ النِّعَمِ الأرْبَعِ، وهي الإيجادُ الأوَّلُ، والإيجادُ الثّانِي، والإبْقاءُ الأوَّلُ، والإبْقاءُ الثّانِي، وأنَّ الفاتِحَةَ لِكَوْنِها أُمَّ الكِتابِ أُشِيرَ فِيها (p-٤٤٠)إلى الكُلِّ، ثُمَّ أُشِيرَ في كُلِّ سُورَةٍ صُدِّرَتْ بَعْدَها بِالحَمْدِ إلى نِعْمَةٍ مِنها عَلى التَّرْتِيبِ، وأنَّهُ أُشِيرَ في الأنْعامِ إلى الإيجادِ الأوَّلِ وهو ظاهِرٌ وفي الكَهْفِ إلى الإبْقاءِ الأوَّلِ، لِأنَّ انْتِظامَ البَقاءِ الأوَّلِ والِانْتِفاعِ بِالإيجادِ لا يَكُونُ إلّا بِالكِتابِ والرَّسُولِ، وأنَّهُ أُشِيرَ في هَذِهِ السُّورَةِ إلى الإيجادِ الثّانِي لِانْسِياقِ الكَلامِ إلى إثْباتِ الحَشْرَ والرَّدِّ عَلى مُنْكِرِي السّاعَةِ حَيْثُ قالَ سُبْحانَهُ ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينا السّاعَةُ قُلْ بَلى ورَبِّي﴾ [سبإ: ٣] انْتَهى، وقَدْ عُلِمَ مِمّا قَرَّرْتُهُ أنَّها مِن أوَّلِها مُشِيرَةٌ إلى ذَلِكَ عَلى طَرِيقِ البُرْهانِ. وقالَ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: افْتُتِحَتْ بِالحَمْدِ [لِلَّهِ] لَمّا أعْقَبَ بِها ما انْطَوَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الأحْزابِ مِن عَظِيمِ الآلاءِ وجَلِيلِ النَّعْماءِ حَسَبَ ما أُبِينَ - آنِفًا - يَعْنِي في آخِرِ كَلامِهِ عَلى سُورَةِ الأحْزابِ - فَكانَ مَظِنَّةَ الحَمْدِ عَلى ما مَنَحَ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ وأعْطاهم فَقالَ تَعالى ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ مِلْكًا واخْتِراعًا، وقَدْ أشارَ هَذا إلى إرْغامِ مَن تَوَقَّفَ مُنْقَطِعًا عَنْ فَهْمِ تَصَرُّفِهِ سُبْحانَهُ في عِبادِهِ بِما تَقَدَّمَ وتَفْرِيقِهِمْ بِحَسَبِ ما شاءَ فَكَأنْ قَدْ قِيلَ: إذا كانُوا لَهُ مِلْكًا وعَبِيدًا، فَلا يَتَوَقَّفُ في فِعْلِهِ [بِهِمْ] ما فَعَلَ مِن تَيْسِيرٍ لِلْحُسْنى (p-٤٤١)أوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا شاءَهُ بِهِمْ عَلى فَهْمِ عِلَّتِهِ واسْتِطْلاعِ سَبَبِهِ، بَلْ يَفْعَلُ بِهِمْ ما شاءَ وأرادَ مِن غَيْرِ حَجْرٍ ولا مَنعٍ ﴿وهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ﴾ وجْهُ الحِكْمَةِ في ذَلِكَ الَّتِي خَفِيَتْ عَنْكُمْ، وأشارَ قَوْلُهُ ﴿ولَهُ الحَمْدُ في الآخِرَةِ﴾ إلى أنَّهُ سَيُطْلِعُ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ - مِن مُوجِباتِ حَمْدِهِ ما يَمْنَحُهم أوْ يُضاعِفُ لَهم مِنَ الجَزاءِ أوْ عَظِيمِ الثَّوابِ في الآخِرَةِ - عَلى ما لَمْ تَبْلُغْهُ عُقُولُهم في الدُّنْيا ولا وفَتْ بِهِ أفْكارُهم ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧] ثُمَّ أتْبَعَ سُبْحانَهُ ما تَقَدَّمَ مِن حَمْدِهِ عَلى ما هو أهْلُهُ بِبَسْطِ شَواهِدِ حِكْمَتِهِ وعِلْمِهِ فَقالَ تَعالى ﴿يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرْضِ وما يَخْرُجُ مِنها وما يَنْـزِلُ مِنَ السَّماءِ وما يَعْرُجُ فِيها﴾ [سبإ: ٢] إلى قَوْلِهِ ﴿وهُوَ الرَّحِيمُ﴾ [سبإ: ٢] فَبِرَحْمَتِهِ وغُفْرانِهِ أنالَ عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ ما خَصَّهم بِهِ وأعْطاهُمْ، فَلَهُ الحَمْدُ الَّذِي هو أهْلُهُ، ثُمَّ أتْبَعَ هَذا بِذِكْرِ إمْهالِهِ مِن كَذِبٍ وكُفْرٍ مَعَ عَظِيمِ اجْتِرائِهِمْ لِتَتَبَيَّنَ سَعَةُ رَحْمَتِهِ ومَغْفِرَتِهِ فَقالَ تَعالى ﴿وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينا السّاعَةُ﴾ [سبإ: ٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [سبإ: ٩] أيْ إنَّ في إمْهالِهِ سُبْحانَهُ لِهَؤُلاءِ بَعْدَ عُتُوِّهِمْ واسْتِهْزائِهِمْ في قَوْلِهِمْ ﴿لا تَأْتِينا السّاعَةُ﴾ [سبإ: ٣] وقَوْلِهِ: ﴿هَلْ نَدُلُّكم عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكم إذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إنَّكم لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [سبإ: ٧] وإغْضائِهِمْ عَنِ الِاعْتِبارِ بِما بَيْنَ أيْدِيهِمْ مِنَ السَّماءِ والأرْضِ وأمْنِهِمْ أخَذَهم مِن أيِّ الجِهاتِ وفي إمْهالِهِمْ وإدْرارِ أرْزاقِهِمْ مَعَ عَظِيمِ مُرْتَكَبِهِمْ آياتٌ لِمَن أنابَ واعْتَبَرَ، ثُمَّ بَسَطَ لِعِبادِهِ المُؤْمِنِينَ مِن ذِكْرِ الآيَةِ ونِعَمِهِ (p-٤٤٢)وتَصْرِيفِهِ في مَخْلُوقاتِهِ ما يُوَضِّحُ اسْتِيلاءَ قَهْرِهِ ومُلْكِهِ، ويُشِيرُ إلى عَظِيمِ مُلْكِهِ كَما أعْلَمَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ [ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ فَقالَ سُبْحانَهُ]: ﴿ولَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلا يا جِبالُ أوِّبِي مَعَهُ والطَّيْرَ وألَنّا لَهُ الحَدِيدَ﴾ [سبإ: ١٠] ثُمَّ قالَ ﴿ولِسُلَيْمانَ الرِّيحَ﴾ [سبإ: ١٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا﴾ [سبإ: ١٣] ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ حالِ مَن لَمْ يَشْكُرْ فَذَكَرَ قِصَّةَ سَبَأٍ إلى آخِرِها، ثُمَّ وبَّخَ تَعالى مَن عَبَدَ غَيْرَهُ مَعَهُ بَعْدَ وُضُوحِ الأمْرِ وبَيانِهِ فَقالَ ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [سبإ: ٢٢] إلى وصْفِهِ حالَهُمُ الأُخْرَوِيَّ ومُراجَعَةَ مُتَكَبِّرِيهِمْ ضُعَفاءَهم وضُعَفائِهِمْ مُتَكَبَّرِيهِمْ ﴿وأسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأوُا العَذابَ﴾ [سبإ: ٣٣] ثُمَّ التَحَمَتِ الآيُ جارِيَةً عَلى ما تَقَدَّمَ مِن لَدُنِ افْتِتاحِ السُّورَةِ إلى خَتْمِها. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب