الباحث القرآني

سُورَةُ سَبَأٍ مَكِّيَّةٌ كَما رُوِيَ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ، وفي التَّحْرِيرِ هي مَكِّيَّةٌ بِإجْماعِهِمْ، وقالَ اِبْنُ عَطِيَّةَ: مَكِّيَّةٌ إلّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَرى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ﴾ [سَبَأٍ: 6] ورَوى التِّرْمِذِيُّ «عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكَةَ المُرادِيِّ قالَ: أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَقُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ ألا أُقاتِلُ مَن أدْبَرَ مِن قَوْمِي،» الحَدِيثَ، وفِيهِ وأُنْزِلَ في سَبَأٍ ما أُنْزِلَ فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ وما سَبَأٌ؟ الحَدِيثَ، قالَ اِبْنُ الحَصّارِ هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذِهِ القِصَّةَ مَدَنِيَّةٌ لِأنَّ مُهاجَرَةَ فَرْوَةَ بَعْدَ إسْلامِ ثَقِيفٍ سَنَةَ تِسْعٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وأُنْزِلَ حِكايَةً عَمّا تَقَدَّمَ نُزُولُهُ قَبْلَ هِجْرَتِهِ فَلا يَأْبى كَوْنَها مَكِّيَّةً. وآياتُها خَمْسٌ وخَمْسُونَ في الشّامِيِّ وأرْبَعٌ وخَمْسُونَ في الباقِينَ، وما قِيلَ خَمْسٌ وأرْبَعُونَ سَهْوٌ مِن قَلَمِ النّاسِخِ، ووَجْهُ اِتِّصالِها بِما قَبْلَها أنَّ الصِّفاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلى اللَّهِ تَعالى في مُفْتَتَحِها مِمّا يُناسِبُ الحِكَمَ الَّتِي في مُخْتَتَمِ ما قَبْلُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ﴾ [اَلْأحْزابِ: 73] الخ. وأيْضًا قَدْ أُشِيرَ فِيما تَقَدَّمَ إلى سُؤالِ الكُفّارِ عَنِ السّاعَةِ عَلى جِهَةِ الِاسْتِهْزاءِ وهاهُنا قَدْ حُكِيَ عَنْهم إنْكارُها صَرِيحًا والطَّعْنُ بِمَن يَقُولُ بِالمَعادِ عَلى أتَمِّ وجْهٍ وذُكِرَ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ ما لَمْ يُذْكَرْ هُناكَ، وفي البَحْرِ أنَّ سَبَبَ نُزُولِها أنَّ (p-103)أبا سُفْيانَ قالَ لِكُفّارِ مَكَّةَ لَمّا سَمِعُوا ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والمُشْرِكِينَ والمُشْرِكاتِ﴾ كَأنَّ مُحَمَّدًا يَتَوَعَّدُنا بِالعَذابِ بَعْدَ أنْ نَمُوتَ ويَتَخَوَّفُنا بِالبَعْثِ، واَللّاتِ والعُزّى لا تَأْتِينا السّاعَةُ أبَدًا ولا نُبْعَثُ، فَقالَ اللَّهُ تَعالى قُلْ يا مُحَمَّدُ بَلى ورَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، قالَهُ مُقاتِلٌ، وباقِي السُّورَةِ تَهْدِيدٌ لَهم وتَخْوِيفٌ، ومِن هَذا ظَهَرَتِ المُناسِبَةُ بَيْنَ هَذِهِ السُّورَةِ واَلَّتِي قَبْلَها، اِنْتَهى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ أيْ لَهُ عَزَّ وجَلَّ خَلْقًا ومُلْكًا وتَصَرُّفًا بِالإيجادِ والإعْدامِ والإحْياءِ والإماتَةِ جَمِيعَ ما وُجِدَ فِيهِما داخِلًا في حَقِيقَتِهِما أوْ خارِجًا عَنْهُما مُتَمَكِّنًا فِيهِما، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لَهُ هَذا العالَمُ بِالأسْرِ، ووَصْفُهُ تَعالى بِذَلِكَ عَلى ما قالَهُ أبُو السُّعُودِ لِتَقْرِيرِ ما أفادَهُ تَعْلِيقُ الحَمْدِ المُعَرَّفِ بِلامِ الحَقِيقَةِ عِنْدَ أرْبابِ التَّحْقِيقِ بِالِاسْمِ الجَلِيلِ مِنَ اِخْتِصاصِ جَمِيعِ أفْرادِ المَخْلُوقاتِ بِهِ عَزَّ وجَلَّ بِبَيانِ تَفَرُّدِهِ تَعالى واسْتِقْلالِهِ بِما يُوجِبُ ذَلِكَ، وكَوْنُ كُلِّ ما سِواهُ سُبْحانَهُ مِنَ المَوْجُوداتِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها الإنْسانُ تَحْتَ مَلَكُوتِهِ تَعالى لَيْسَ لَها في حَدِّ ذاتِها اِسْتِحْقاقُ الوُجُودِ فَضْلًا عَمّا عَداهُ مِن صِفاتِها بَلْ كُلُّ ذَلِكَ نِعَمٌ فائِضَةٌ عَلَيْها مِن جِهَتِهِ عَزَّ وجَلَّ فَما هَذا شَأْنُهُ فَهو بِمَعْزِلٍ مِنَ اِسْتِحْقاقِ الحَمْدِ الَّذِي مَدارُهُ الجَمِيلُ الصّادِرُ عَنِ القادِرِ بِالِاخْتِيارِ فَظَهَرَ اِخْتِصاصُ جَمِيعِ أفْرادِهِ بِهِ تَعالى، وفي الوَصْفِ بِما ذُكِرَ أيْضًا إيذانٌ بِأنَّهُ تَعالى المَحْمُودُ عَلى نِعَمِ الدُّنْيا حَيْثُ عَقَّبَ الحَمْدَ بِما تَضَمَّنَ جَمِيعَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَيَكُونُ الكَلامُ نَظِيرَ قَوْلِكَ: اِحْمَدْ أخاكَ الَّذِي حَمَلَكَ وكَساكَ، فَإنَّكَ تُرِيدُ بِهِ اِحْمَدْهُ عَلى حُمْلانِهِ وكُسْوَتِهِ. وفِي عَطْفِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَهُ الحَمْدُ في الآخِرَةِ﴾ عَلى الصِّلَةِ كَما هو الظّاهِرُ إيذانٌ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ المَحْمُودُ عَلى نِعَمِ الآخِرَةِ لِيَتَلاءَمَ الكَلامُ، وفي تَقْيِيدِ الحَمْدُ فِيهِ بِأنَّ مَحَلَّهُ الآخِرَةُ إيذانٌ بِأنَّ مَحَلَّ الحَمْدِ الأوَّلِ الدُّنْيا لِذَلِكَ أيْضًا فَتُفِيدُ الجُمْلَتانِ أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ المَحْمُودُ عَلى نِعَمِ الدُّنْيا فِيها، وأنَّهُ تَبارَكَ وتَعالى المَحْمُودُ عَلى نِعَمِ الآخِرَةِ فِيها، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ في الكَلامِ صَنْعَةُ الِاحْتِباكِ وأصْلُهُ الحَمْدُ لِلَّهِ إلخ في الدُّنْيا ولَهُ ما في الآخِرَةِ والحَمْدُ فِيها، فَأُثْبِتَ في كُلٍّ مِنهُما ما حُذِفَ مِنَ الآخَرِ، وقالَ أبُو السُّعُودِ: إنَّ الجُمْلَةَ الثّانِيَةَ لِاخْتِصاصِ الحَمْدِ الأُخْرَوِيِّ بِهِ تَعالى إثْرَ بَيانِ اِخْتِصاصِ الدُّنْيَوِيِّ بِهِ سُبْحانَهُ عَلى أنَّ ( في الآخِرَةِ ) مُتَعَلِّقٌ بِنَفْسِ الحَمْدِ أوْ بِما تَعَلَّقَ بِهِ (لَهُ) مِنَ الِاسْتِقْرارِ، وإطْلاقُهُ عَنْ ذِكْرِ ما يُشْعِرُ بِالمَحْمُودِ عَلَيْهِ لَيْسَ لِلِاكْتِفاءِ بِذِكْرِ كَوْنِهِ في الآخِرَةِ عَنِ التَّعْيِينِ كَما اِكْتَفى فِيما سَبَقَ بِذِكْرِ كَوْنِ المَحْمُودِ عَلَيْهِ في الدُّنْيا عَنْ ذِكْرِ كَوْنِ الحَمْدِ فِيها أيْضًا بَلْ لِيَعُمَّ النِّعَمَ الأُخْرَوِيَّةَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وعْدَهُ وأوْرَثَنا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ﴾ [اَلزُّمَرِ: 74] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنّا الحَزَنَ إنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ﴿الَّذِي أحَلَّنا دارَ المُقامَةِ مِن فَضْلِهِ﴾ [فاطِرٍ: 35] وما يَكُونُ ذَرِيعَةً إلى نَيْلِها مِنَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهَذا﴾ [اَلْأعْرافِ: 43] أيْ لِما جَزاؤُهُ هَذا النَّعِيمُ مِنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ المُتَبادَرَ إلى الذِّهْنِ هو ما قُرِّرَ أوَّلًا، والفَرْقُ بَيْنَ الحَمْدَيْنِ مَعَ كَوْنِ نِعَمِ الدُّنْيا ونِعَمِ الآخِرَةِ بِطَرِيقِ التَّفَضُّلِ أنَّ الأوَّلَ عَلى نَهْجِ العِبادَةِ والثّانِي عَلى وجْهِ التَّلَذُّذِ والِاغْتِباطِ، وقَدْ ورَدَ في الخَبَرِ أنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ كَما يُلْهَمُونَ النَّفَسَ، وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّ الأوَّلَ واجِبٌ لِأنَّهُ عَلى نِعْمَةٍ مُتَفَضَّلٍ بِها، والثّانِي لَيْسَ بِواجِبٍ لِأنَّهُ عَلى نِعْمَةٍ واجِبَةِ الإيصالِ إلى مُسْتَحِقِّها - مَبْنِيٌّ عَلى رَأْيِ المُعْتَزِلَةِ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: لِأنَّهُ عَلى نِعْمَةٍ واجِبَةِ الإيصالِ لَيْسَ عَلى إطْلاقِهِ عِنْدَهم لِأنَّ ما يُعْطِي اللَّهُ تَعالى العِبادَ في الآخِرَةِ لَيْسَ مَقْصُورًا عَلى الجَزاءِ عِنْدَهم بَلْ بَعْضُ ذَلِكَ تَفَضُّلٌ وبَعْضُهُ أجْرٌ. وتَقْدِيمُ الخَبَرِ في الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ لِتَأْكِيدِ الحَصْرِ المُسْتَفادِ مِنَ اللّامِ عَلى ما هو الشّائِعُ اِعْتِناءً بِشَأْنِ (p-104)نِعَمِ الآخِرَةِ، وقِيلَ: لِلِاخْتِصاصِ لِأنَّ النِّعَمَ الدُّنْيَوِيَّةَ قَدْ تَكُونُ بِواسِطَةِ مَن يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ لِأجْلِها ولا كَذَلِكَ نِعَمُ الآخِرَةِ، وكَأنَّهُ أرادَ لِتَأْكِيدِ الِاخْتِصاصِ أوْ بَنى الأمْرَ عَلى أنَّ الِاخْتِصاصَ المُسْتَفادَ مِنَ اللّامِ بِمَعْنى المُلابَسَةِ التّامَّةِ لا الحَصْرِ كَما فَصَّلَهُ الفاضِلُ اليَمَنِيُّ، وأمّا أنَّهُ أرادَ لِاخْتِصاصِ الِاخْتِصاصِ فَكَما تَرى، ويَرُدُّ عَلى قَوْلِهِ: ولا كَذَلِكَ نِعَمُ الآخِرَةِ ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ [اَلْإسْراءِ: 79] فَتَأمَّلْ. ﴿وهُوَ الحَكِيمُ﴾ الَّذِي أحْكَمَ أمْرَ الدّارَيْنِ ودَبَّرَهُ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ ﴿الخَبِيرُ﴾ العالِمُ بِبَواطِنِ الأشْياءِ ومَكْنُوناتِها، ويَلْزَمُ مِن ذَلِكَ عِلْمُهُ تَعالى بِغَيْرِها، وعَمَّمَ بَعْضُهم مِن أوَّلِ الأمْرِ، وما ذُكِرَ مَبْنِيٌّ عَلى ما قالَهُ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ مِن أنَّ الخِبْرَةَ تَخْتَصُّ بِالبَواطِنِ لِأنَّها مِن خَبَرَ الأرْضَ إذا شَقَّها، وفي هَذِهِ الفاصِلَةِ إيذانٌ بِأنَّهُ تَعالى كَما يَسْتَحِقُّ الحَمْدَ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ مُنْعِمٌ يَسْتَحِقُّهُ لِأنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ مَنعُوتٌ بِالكَمالِ الِاخْتِيارِيِّ، وتَكْمِيلُ مَعْنى كَوْنِهِ تَعالى مُنْعِمًا أيْضًا بِأنَّهُ عَلى وجْهِ الحِكْمَةِ والصَّوابِ وعَنْ عِلْمٍ بِمَوْضِعِ الِاسْتِحْقاقِ والِاسْتِيجابِ لا كَمَن يُطْلَقُ عَلَيْهِ أنَّهُ مُنْعِمٌ مَجازًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب