مكية وهي خمس وخمسون آية وثمان مائة وثلاث وثمانون كلمة وأربعة آلاف وخمسمائة واثنا عشر حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات﴾ اعلم أن السور المفتوحة بالحمد خمسٌ، سورتان منها في النصف الأول وهما الأنعام والكهف وسورتان في النصف الأخير وهما هذه سورة الملائكة، والخامسة وهي سورة فاتحة الكتاب تقرأ مع النصف الأخير. والحكمة فيها أن نعم الله مع كثرتها وعدم قدرتنا على إحصائها منحصرة في قسمين نعمةِ الإيجاد ونعمة الإبقاء فإن الله خلقنا أولاً برحمته وخلق لنا ما نقوم به وهذه النعمة توجد مرة أخرى بالإعادة فإنه خلقنا مرةً أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا مرةً أخرى ويخلق لنا ما ندوم به فلنا حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة له تعالى علينا نعمتان نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فقال في النصف الأول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ» إشارة إلى الشكر على نعمة الإيجاد، ويدل عليه قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِين» فأشار إلى الإيجاد الأول وقال في السورة الثانية: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أنْزَالَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلُ لَهُ عِوَاجاً قِيَماً لِيُنْذِرَ» فأشار إلى الشكر على نعمة الإبقاء فإن الشرائع بها البقاء ولولا شرع يُنْقاد له لا تّبع كُلُّ واحدٍ هواه ووقعت المنازعات وأدت إلى التقاتل والتّفاني وقال ههنا: «الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَهُ مَا هِي السَّمَواتِ والأرْضِ» إشارة إلى نعمةِ الإيجاد الثاني دليل قوله: ﴿وَلَهُ الحمد فِي الآخرة﴾ [سبأ: 1] وقال في الملائكة: ﴿الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ [فاطر: 1] إشارة إلى نعمة الإبقاء بدليل قوله تعالى: ﴿جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً﴾ اي: يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كما قال تعالى: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة﴾ [الأنبياء: 103] وقال تعالى عنهم: ﴿سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73] وفاتحة الكتاب لما اشتملت على ذلك نعمتين أشار بقوله: ﴿الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ [الفاتحة: 2] إلى النعمة العاجلة، وأشار بقوله: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» إلى النعمة الآجلة، فرتب الافتتاح والاختتام عليهما.
فإن قيل: قد ذكرتم أن الحمد ههنا إشارة إلى النعم التي في يالآخرة فلماذا ذكر الله السموات والأرض؟
فالجواب: أن نعم الآخرة غير مرئية فذكر الله النعم المرئية وهي ما في السموات وما في الأرض ثم قال: «وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ» لتنقاس نعم الآخرة بنعم الدنيا ويعلم فضلها بدوامها.
قوله: «الَّذِي لَهُ» يجوز فيه أن يكون تابعاً وأن يكون مقطوعاً نصباً ورفعاً على المحد فيهما و «مَا فِي السَّمَاواتِ» يجوز أن يكون فاعلاً به وهو الأحسن وأن يكون متبدأ.
قوله: «فِي الآخِرَةِ» يجوز أن يتعلق بنفس الحَمْدِ، وأن يتعللق بما تعلق به خبره (وَهُو الحَكِيمُ) يجوز أن يكون معترضاً إذا أعربنا «يَعْلَمُ» حالاً مؤكدة من ضمير الباري تعالى، ويجوز أن يكون «يَعْلَمُ» مستأنفاً، وأن يكون حالاً من الضمير في «الخَبِير» .
فصل
له ما في السموات وما في الأرض مِلْكاً وخَلْقاً وله الحمد في الآخرة كما وله في الدنيا؛ لأن النعم في الدين كلها منه وقيل: احمد في الاخرة هو حمد أهل الجنة كما قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن﴾ [فاطر: 34] و ﴿الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ [الزمر: 74] وهو الحكيم الخبير فالحكمة هي العلم الذي يتصل به الفعل فإن من يعلم أمراً ولا يأتي بما يناسب علمه لا يقال له حكيم، والفاعل الذي فعله على وفق العلم وهو الحكيم، والخبير هو الذي يعلم عواقب الأمور وبواطنها، فقوله حكيم أي في ابتداء الخلق كما ينبغي وخبير أي بالانتهاء يعلم ما يصدر من المخلوق وما لا يصدر فهو حكيم في الابتداء خبير في الانتهاء ثم بيّن كمال خيره بقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرض﴾ أي ما يدخل فيهما من الماء والأموات وما يخرج منها من النبات والأموات إذا حشروا.
قوله: «وَمَا يَنْزِلُ» العامة على «يَنْزِلُ» مفتوح اياء مخفف الزاي مسندٌ إلى ضمير «مَا» وعَليُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسُّلَميُّ بضمها وتشدشد الزاي أي الله تعالى. والمراد الأمطار والملائكة والقرآن. «وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا» من الكلام الطيب لقوله: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب﴾ [فاطر: 10] والملائكة والأعمال الصالحة لقوله: ﴿والعمل الصالح يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10] وقدم: ﴿مَا يَلْجُ فِي الأرض﴾ على: ﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء﴾ ؛ لأن الحبة تُبْذَرُ أولاص ثم تسقي ثانيا. وقال: ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ ولم يقل: «مَا يَعْرُج إليها» إشارة إلى بقول الأعمال الصالحة لأن كلمة: «إلَى» للغاية فلو قال وما يعرج إليها لفم الوقوف عند السموات فقلك وما يعرد فيها ليفهم نفوذها فيها وصعودها منها ولهذا قال في الكلم الطيب: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب﴾ لأن الله هو المنتهى ولا مرتبة فوق الوصول إليه ثم قال: ﴿وَهُوَ الرحيم الغفور﴾ رحيم عند الإنزلا حيث ينزل الرزق من المساء غفور عندما يعرج إليه الأرواح والأعيان والأعمال. ثم بين أن هذه النعمة التي يستحق الله بها الحمد هي نعمة الآخرة أنكرها قَوْمٌ فقال: ﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة﴾ قوله: «بَلَى» جواب لقولهم: «لاَ تَأتينَا» وما بعدها قسمٌ على ذلك. وقرأ العامة: لتأتِيَنَّكُمْ بالتأنيث، وقرا (طَلْقٌ) بالياء فقيل: (أي) البعث. وقيل: على معنى الساعة أي اليوم. قال الزمخشري وره أبو حيان بأنه ضرورة كقوله:
4101 - ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا
وليس مثله، وقيل: (أي) الله بمعنى أمره. ويجوز على قياس هذا الوجه أن يكون: «عالم» فاعلاً لِتَأتِيَنَّكُمْ في قراءة مَنْ رفعه.
قوله: «عَالِمُ» قرأ الأخَوانِ: عَلاَّم على صيغة المبالغة وخفضه نعتاً ل «ربِّي» او بدلاً منه.
وهو قليل؛ لكونه مشتقاً. ونافعُ وابْنُ عَامرٍ عالمٌ بالرفع على هُوَ عالم، او على أنه مبتدأ وخبره «لاَ يَعْزُبُ» أو على أن خبره مضمر أي: هو ذكره الحَوفيّ. وفيه بعد، والباقون عالم بالخفض على ما تقدم وإذا جعل نعتاً فلا بدّ من تقدير تعريفه. وقد تقدم أن كل صفة يجوز أن تتعرف بالإضافة إلى الصفة المشبهة، وتقدمت قراءتا «يَعْزُب» في يُونُسِ.
فصل
اعمل أن الله تعالى ردَّ على مُنْكِري الساعة فقال: ﴿قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ فأخر بإيتيانها وأكدها باليمين.
فإن قيل: إنهم يقولون لا ريب أو إن كانوا يقولون به لكن المسألة الأصولية لا تثبت باليمين فأجاب عن هذا بأنه لم يقتصر على اليمين بل ذكر الدليل وهو قوله: ﴿لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ . وبيان كونه دليلاً هو أن المسيء قد يبقى في الدنيا مدة مديدة في اللذات العاجلة ويموت عليها والمحسن قد يدوم في الدنيا في الآلام الشديدة ويموت فيها فلولا دار تكون للجزاء لكان الأمر على خلاف الحكمة.
قوله: ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾ فيه لطيفة وهي أن الإنسان له جسم وروح، فالأجسام أجزاءها في الأرض والأرواح في السماء فقوله: ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات﴾ إشارة إلى علمه بالأرواح، وقوله: ﴿وَلاَ فِي الأرض﴾ إشارة إلى عمله بالأجسم فإذا علم الروح والأجسام قدر على جمعها فلا اسبعاد في الإعادة.
قوله: «وَلاَ أَصْغَرُ» العامة على رفع «أصْغَر وأَكْبَر» وفيه وجهان:
أحدهما: الابتداء، والخبر قوله «إلاَّ فِي كِتَابٍ» .
والثاني: النَّسَق على «مِثْقَالِ» وعلى هذا فيكون: «إلاَّ فِي كِتَابٍ» تأكيداً للنفي في: «لاَ يَعْزُبُ» كأنه قال لكنه في كتاب مبين وقرأ قتادة والأعمش ورويت عن أبي عمرو ونافع أيضاً بفتح الراءين. وفيها وجهان:
أحدهما: أنها «لا» التبرئة وبني اسمها معها، والخبر قوله: «إلاَّ فِي كِتَابٍ» .
والثاني: النسق على «ذَرَّةٍ» وتقدم في يونس أن حمزة قرأ بفتح رَاءِ «أَصْغَر» وأَكْبَر «وهنا وافق على الرفع وتقدم البحث هناك.
قال الزمخشري: فإن قلتَ: هَلاَّ جَازَ عطفُ:» وَلاَ أصْغَر «على» مِثْقَالِ «وعطف» وَلاَ أَكْبَر «على ذرة؟
قُلْتُ: يأبي ذلك حرف الاستثناء إلاا إذا جعلت الغيب اسماً للخفيات قبل أن تكتب في اللوح المحفوظ لأنها إثبات في اللوح نوع من البُرُوزِ عن الحجاب على معنى أنه لا ينفصل عن الغيب شيء ولا يُزَال عنه إلا مسطوراً في اللوح.
قال أبو حيان: ولاَ يُحْتَاج إلى هذا التأويلٍ إذ جعلنا الكتاب ليس اللوح المحفوظ، وقرأ زيد بن علي بخفض راء أصغر وأكبر وهي مشكلة جداً، وخرجت على أنهما في نية الإضافة، إذ الأصل: «ولا اصغره ولا أكبره» وما لا ينصرف إذا أضيف انجر في موضع الجر ثم حذف المضاف إليه ونوي معناه فترك المضاف بحاله وله نظائر كقولهم:
4102 - بَيْنَ ذِرَاعِيْ وَجَبْهَةِ الأَسَدِ ... 4103 - يَا تَيْمَ تَيْم عَدِيِّ ... على خلاف. وقد يفرق بأن هناك ما يدل على المحذفو لفظاً بخلافِ هنا.
وقد ردّ بعضهم هذا التخريج لوجود «من» ؛ لأنَّ «أفعل» متى أضيف لم يجامع «مِنْ» وأجيب عن ذلك بوجهين:
أحدهما: أن (مِنْ) ليست متعقة «بأفعل» بل محذوف على سبيل البيان؛ لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم المضاف فبين «بمن» ومجروها أي أعني من ذلك.
والثاني: أنه مع تقديره للمضاف إليه نوي طرحه، فلذلك أتى «بِمن» ويدل على ذلك أنه قد ورد التصريح بالإضافة مع وجود «من» قال الشاعر:
4101 - نَحْنُ بِغَرْسِ الوَدِيِّ أعْلَمُنَا ... مِنَّا بِرَكْضِ الجِيادِ في السُّدَفِ وخرج على هذين الوجهين إلى التعليق بمحذوف وإما نية طرح المضاف إليه وهذا كما احتاجوا إلى تأويل الجمع بين «أل» ومن في أفعل كقوله:
4105 - ولَسْتُ بالأكْثَرِ مِنْهُمْ حَصَى..... ... ... ... ... ... ... ... . .
وهذه توجيهات شذوذ ويكفي فيها مثل ذلك.
فصل
قوله: ﴿وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ﴾ إشارة إلى أن مثقال لم يذكر للتحديد بل الأصغر منه لا يعزب.
فإن قيل: فأيُّ حاجة إلى ذلك الأكبر وإنَّ من علم الأصغر من الذرة لا بدّ وأن يعلم الأكبر؟
فالجواب: لما كان الله تعالى أراد بينان إثبات الأمور في الكتاب فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهمٌ أنه يثبت الصغائر لكونها محل النّسيان وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته فقال الإثبات في الكبائر ليس كذلك فإن الأكبر فيه أيضاً مكتوب ثم لما بين علمه بالصغائر والكبائر ذكر أن جميع ذلك وإثباته للجزاء فقال: ﴿لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ .
قوله: «لِيَجْزِيَ» فيه أوجه:
أحدهما: أنه متعلق (بلا) وقال أبو البقاء و (يعزب) بمعنى لا يعزب أي يُحْصِي ذلك ليجزي. وهو حس أو بقوله: «ليأتِيَنًّكُمْ» أو بالعامل في قوله: «إلاَّ فِي كَتَابٍ» اي إلا استقر ذلك «في كتاب مبين» لِيَجْزِيَ.
فصل
اعمل أنه تعالى ذكر منهم أمرين الإيمانَ والعملَ الصالح وذكر لهم أمرين المغفرةَ والرِّزْقَ الكريمة فالمغفرة جزاء الإيمان فكل مؤمن مفغور له لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: 116] وقوله عليه (الصلاة و) السلام:
«يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إله إلاَّ اللَّهَ ومَنْ (في) قَلْبِهِ وزنُ ذَرَّةٍ مِنْ إيمانٍ» .
والرزق الكريم مرتب على العمل الصالح وهذا مناسب فإن من عمل لسيد كريم عملاً فعند فراغه من العمل لا بدّ وأن ينعم عليه. وتقدم وصف الرزق بالكريم أنه بمعنى ذَا كرم أو مُكْرِم أو لأنه من غير طلب بخلاف رزق الدنيا فإنه إن لم يُطْلَبْ ويتسبب إليه لا يأتي.
فإن قيل: ما الحكمة في تَمييزِهِ الرزق بوصفه بأنّه كريمٌ ولم يضف المغفرة؟
فالجواب: لأنَّ المغفرة واحدة وهي للمؤمنين وأما الرزق فمنه شجرة الزَّقّوم والحَميم ومن الفواكهُ والشَّرَاب الطهور فميز الرزق لحصول الانقسام فيه ولم يميز المغفرة لعدم الانْقِسَام فيها.
فصل
قوله: ﴿أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ذلك لهم جزاء فيوصله إليه لقوله: «ليَجْزِي الَّذِينَ آمَنُو» .
وثانيهما: أن يكون ذلك لهم واللَّهُ يجزيهم بشيء آخر لأن قوله: «أُلَئكَ لَهُمْ» جُملة (تامة اسمية، وقوله تعالى: «لِيَجْزيَ الَّذِينَ آمَنُوا» جملة) فعلية مستقلة وهذا أبلغ في البشارة من قول القائل: لِيَجْزِيَ الَّذين آمنوا وعملوا الصالحات رزقاً» .
فصل
اللام في «ليجزي» ومعناه الآخرة للجزاء.
فإن قيل: فما وجه المناسبة؟
فالجواب: أن الله تعالى أرد أن لا يقطع ثوابه فجعل للمكلف داراً باقيةً تكون ثوابه واصلاً إليه فيها دائماً أبداً وجعل قبلها داراً فيه الآلام والأسقام وفيها الموت ليعلم المكلق مقدار ما يكون فيه في الآخرة إذا نسبه إلى ما قبله.
قوله: «والِّذِين سَعَوْا» يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مبتدأ و «أولئك» (و) ما بعده خبره.
والثاني: أنه عطف على الذي قبله أي ويجزي الذين سعوا ويكون» أُلَئِكَ «الذي بعده مستأنفاً و» أُلَئِكَ» الذي قبله وما في خبره معترضاً بين المُتَعَاطِفَيْن.
قوله: ﴿والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ أي في إبطال أَدِلَّتِنَا مُعَاجِزِينَ يحسبون أنهم يَفُوتُونَنَا وقد تقدم في الحج قراءتا معاجزين. وعلم أنه تعالى لما بين حال المؤمنين يوم القيامة بين حال الكافرين والمراد بهم الذين كذبوا بآياتنا وقوله: «مُعَاجِزِينَ» أي سَعَوا في إبْطَالِهَا لأن المكذّب آتٍ بإخفاء آياتِ بيناتٍ فيحتاج إلى السعي العظيم والجدّ البليغ ليروّج كَذِبَهُ لعله يُعْجز المتمسك به.
قوله: ﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾ قرأ ابنُ كثير وحفصٌ هنا وفي الجاثية ألِيمٌ بالرفع والباقون بالخفض. فالرفع على أنه نعت» لعَذَابِ «والخفض على أنه نعت» لرجزٍ «إلا أن مَكِّيَّا ضعف قراءة الرفع واستبعدها قال: لأن الرّجز هو العذاب فيصير التقدير عذاب أليم من عذاب وهذا المعنى غير ممكن قال: والاختيار خَفْضُ» أليم «لأنه أصحّ في التقدير والمعنى إذ تقديره لهم عذابٌ من عذابٍ أليم أي هذا الصِّنف من أصناف العذاب، لأن العاب بعضه آلم من بعض وأجيب: بأن الرجز مطلق العذاب فكأنه قيل: لهم هذا الصنف من العذاب من جنس العذاب، وكأن أبا البقاء لَحَظَ هذا حيث قال: وبالرفع صفة لعذاب، والرِّجْز مطلق العذاب.
فصل
قال قتادة: الرجز أسوأ العذاب فيكون «مِنْ» لبَيَان الجِنْس كقولك: خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ. قال ابن الخطيب: قال هناك: لَهُمْ رِزْقٌ كَريمٌ ولم يقدر بمن التبغيضية فلم يقل: لهم نصيبٌ من رزقٍ، ولا رزق من جنس كريم، وقال ههنا «لهم عذابٌ مِنء رجزٍ أليم» بلفظة صالحة للتبعيض، وذلك إشارة إلى سَعَةِ الرحمة وقله الغضب وقال هناك: «لَهُمْ مغَفْرَةٌ» ثم قال: ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 4] وههنا لم يقل إلا: «لَهُمْ عَذَابٌ» فزادهم هناك الرزق الكريم، وههنا لم يزدهم على العذاب وفيما قاله نظر، لقوله تعالى في موضع آخر: ﴿زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب﴾ [النحل: 88] .
قوله: ﴿وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم﴾ فيه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على «لِيَجْزِيَ» قال الزمخشري: أي وليعلم الذين أوتوا العلم عند مجيء الساعة. وإنما قيده بقوله عند مجيء الساعة لأنه علق: «ليجزي» بقوله: «لَتَأتِيَنَّكُمْ» فبنى هذا عليه وهو من احسن ترتيبز
والثاني: أنه مستأنف أخبر عنهم بذلك «والَّذِي أُنْزِلَ» هو المفعول الأول وهُو فَصْلٌ و «الْحَقَّ» مفعول ثانٍ، لأن الرؤية عِلْميَّة وقرا ابنُ أَبي عَبْلَةَ الْحَقُّ بالرفع على أن خبر «هُوَ» والجملة في موضع المفعول الثاني وهي لغة تميم يجلعون ما هو فل مبتدأ وخبر و «مِنْ رَبِّك» حال على القراءتين.
فصل
لما لين حال من يسعى في التكذيب في الآخرة بين حاله في الدنيا وهو أن سَعْيَه باطل فإن من أُوتِيَ علماً لا يعتبر تكذيبه وهو يعلم أن ما أنزل إلى محمد عليه (الصلاة و) السلام حق وصدق وقوله: هُوَ الحَقّ يفيد الحصر أي ليس الحق إلا ذلك وأم قول المكذب فباطل بخلاف ما إذا تنازع خَصْمَان والنزاع لفظي فيكون قوله كل واحد حقاً في المعنى، قال المفسرون: ﴿وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم﴾ يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سَلام وأصْحَابه ﴿الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق﴾ يعني القرآن هو الحق يعني أنه من عند الله.
قوله: ﴿ويهدي﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه مستأنف وفي فاعل احتمالان: أظهرهما: أنَّه ضمير «الَّذِي» وهو القرآن والثاني: ضمير الله تعالى ويتعلق هذا بقوله: ﴿إلى صِرَاطِ العزيز الحميد﴾ إذ لو كان كذلك لقيل: إلى صِراطِهِ ويجاب بأنه من الالتفات ومن إبراز المضمير ظاهراً تنبيهاً على وصفه بهاتين الصِّفَتَيْنِ.
الوجه الثاني: أنه معطوف على موضع «الحق» و «ان» معه مضمرة تقديره هو الحق والهداية.
الثالث: أنه عطف على «الحق» عَطْفَ فعل على اسم لأنه في تأويله كقوله تعالى: ﴿صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾ [الملك: 19] أي: وقَابِضَاتٍ كما عطف الاسم على الفعل بمعناه كقوله:
4106 - فَألْفْيْتُهُ يَوْمًا يُبِيرُ عَدُوَّهُ ... وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَخِفُّ المَعابِرَا
كأنه قيل: وليروه الحق وهادياً.
الرابع: أن «ويهدي» حال من «الَّذِي أُنْزِلَ» ولا بدّ من إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كقوله:
4107 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... .....
نَجَوْتُ وَأرَهْنُهُمْ مَالِكاً
وهو قليل جداً، ثم قال: ﴿إلى صِرَاطِ العزيز الحميد﴾ وهاتان الصفتان يفيدان الرهبة والرغبة فالعزيز يفيد التخويف والانقام من المكذب والحميد يفيد الترغيب في الرحمة للمصدق.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡخَبِیرُ","یَعۡلَمُ مَا یَلِجُ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَمَا یَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا یَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَمَا یَعۡرُجُ فِیهَاۚ وَهُوَ ٱلرَّحِیمُ ٱلۡغَفُورُ","وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَا تَأۡتِینَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّی لَتَأۡتِیَنَّكُمۡ عَـٰلِمِ ٱلۡغَیۡبِۖ لَا یَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَلَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَاۤ أَصۡغَرُ مِن ذَ ٰلِكَ وَلَاۤ أَكۡبَرُ إِلَّا فِی كِتَـٰبࣲ مُّبِینࣲ","لِّیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَرِزۡقࣱ كَرِیمࣱ","وَٱلَّذِینَ سَعَوۡ فِیۤ ءَایَـٰتِنَا مُعَـٰجِزِینَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابࣱ مِّن رِّجۡزٍ أَلِیمࣱ","وَیَرَى ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡعِلۡمَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلۡحَقَّ وَیَهۡدِیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰطِ ٱلۡعَزِیزِ ٱلۡحَمِیدِ"],"ayah":"ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی لَهُۥ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِیمُ ٱلۡخَبِیرُ"}