الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا فَأخَذَهُمُ الطُّوفانُ وهم ظالِمُونَ﴾ ﴿فَأنْجَيْناهُ وأصْحابَ السَّفِينَةِ وجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾ ﴿وإبْراهِيمَ إذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿إنَّما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أوْثانًا وتَخْلُقُونَ إفْكًا إنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكم رِزْقًا فابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ واعْبُدُوهُ واشْكُرُوا لَهُ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ ﴿وإنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِن قَبْلِكم وما عَلى الرَّسُولِ إلّا البَلاغُ المُبِينُ﴾ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إنَّ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ ﴿قُلْ سِيرُوا في الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأةَ الآخِرَةَ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ﴿يُعَذِّبُ مَن يَشاءُ ويَرْحَمُ مَن يَشاءُ وإلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ ﴿وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ وما لَكم مِن دُونِ اللَّهِ مِن ولِيٍّ ولا نَصِيرٍ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ ولِقائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِن رَحْمَتِي وأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أوْ حَرِّقُوهُ فَأنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النّارِ إنَّ في ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: ٢٤] ﴿وقالَ إنَّما اتَّخَذْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ أوْثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكم في الحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكم بَعْضًا ومَأْواكُمُ النّارُ وما لَكم مِن ناصِرِينَ﴾ [العنكبوت: ٢٥] . (p-١٤٥)ذَكَرَ هَذِهِ القِصَّةَ تَسْلِيَةً لِرَسُولِ اللَّهِ، لِما كانَ يَلْقى مِن أذى الكُفّارِ. فَذَكَرَ ما لَقِيَ أوَّلُ الرُّسُلِ، وهو نُوحٌ، مِن أذى قَوْمِهِ، المُدَدَ المُتَطاوِلَةَ، تَسْلِيَةً لِخاتَمِ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ. والواوُ في (ولَقَدْ) واوُ عَطْفٍ، عَطَفَتْ جُمْلَةً عَلى جُمْلَةٍ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والقَسَمُ فِيها بِعِيدٌ، يَعْنِي أنْ يَكُونَ المُقْسَمُ بِهِ قَدْ حُذِفَ وبَقِيَ حَرْفُهُ وجَوابُهُ، وفِيهِ حَذْفُ المَجْرُورِ وإبْقاءُ حَرْفِ الجارِّ، وحَرْفُ الجَرِّ لا يُعَلَّقُ عَنْ عَمَلِهِ، بَلْ لا بُدَّ لَهُ مِن ذِكْرِهِ. والظّاهِرُ أنَّهُ أقامَ في قَوْمِهِ هَذِهِ المُدَّةَ المَذْكُورَةَ يَدْعُوهم إلى اللَّهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ المُدَّةُ المَذْكُورَةُ مُدَّةَ إقامَتِهِ في قَوْمِهِ، مِن لَدُنْ مَوْلِدِهِ إلى غَرَقِ قَوْمِهِ. انْتَهى. ولَيْسَ عِنْدِي مُحْتَمَلًا؛ لِأنَّ اللُّبْثَ مُتَعَقِّبٌ بِالفاءِ الدّالَّةِ عَلى التَّعْقِيبِ، واخْتُلِفَ في مِقْدارِ عُمُرِهِ، حِينَ كانَ بُعِثَ وحِينَ ماتَ، اخْتِلافًا مُضْطَرِبًا مُتَكاذِبًا، تَرَكْنا حِكايَتَهُ في كِتابِنا، وهو في كُتُبِ التَّفْسِيرِ. والِاسْتِثْناءُ مِنَ الألْفِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلى جَوازِ الِاسْتِثْناءِ مِنَ العَدَدِ، وفي كَوْنِهِ ثابِتًا مِن لِسانِ العَرَبِ خِلافٌ مَذْكُورٌ في النَّحْوِ، وقَدْ عَمِلَ الفُقَهاءُ المَسائِلَ عَلى جَوازِ ذَلِكَ، وغايَرَ بَيْنَ تَمْيِيزِ المُسْتَثْنى مِنهُ وتَمْيِيزِ المُسْتَثْنى؛ لِأنَّ التَّكْرارَ في الكَلامِ الواحِدِ مُجْتَنَبٌ في البَلاغَةِ، إلّا إذا كانَ لِغَرَضٍ مِن تَفْخِيمٍ، أوْ تَهْوِيلٍ، أوْ تَنْوِيهٍ. ولِأنَّ التَّعْبِيرَ عَنِ المُدَّةِ المَذْكُورَةِ بِما عُبِّرَ بِهِ؛ لِأنَّ ذِكْرَ رَأْسِ العَدَدِ الَّذِي لا رَأْسَ أكْبَرُ مِنهُ أوْقَعُ وأوْصَلُ إلى الغَرَضِ مِنَ اسْتِطالَةِ السّامِعِ مُدَّةَ صَبْرِهِ، ولِإزالَةِ التَّوَهُّمِ الَّذِي يَجِيءُ مَعَ قَوْلِهِ: تِسْعُمِائَةٍ وخَمْسُونَ عامًا، بِأنَّ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ المُبالَغَةِ لا التَّمامِ، والِاسْتِثْناءُ يَرْفَعُ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ المَجازِيَّ. وتَقَدَّمَتْ وقْعَةُ نُوحٍ بِأكْمَلِ مِمّا هُنا، والخِلافُ في عَدَدِ مَن آمَنَ ودَخَلَ السَّفِينَةَ. والضَّمِيرُ في (وجَعَلْناها) يَحْتَمِلُ أنْ يَعُودَ عَلى (السَّفِينَةِ) وأنْ يَعُودَ عَلى الحادِثَةِ والقِصَّةِ، وأفْرَدَ (آيَةً) وجاءَ بِالفاصِلَةِ (لِلْعالَمِينَ) لِأنَّ إنْجاءَ السُّفُنِ أمْرٌ مَعْهُودٌ. فالآيَةُ إنْجاؤُهُ تَعالى أصْحابَ السَّفِينَةِ وقْتَ الحاجَةِ، ولِأنَّها بَقِيَتْ أعْوامًا حَتّى مَرَّ عَلَيْها النّاسُ ورَأوْها، فَحَصَلَ العِلْمُ بِها لَهم، فَناسَبَ ذَلِكَ قَوْلَهُ: (لِلْعالَمِينَ) وانْتَصَبَ (إبْراهِيمَ) عَطْفًا عَلى (نُوحًا) . قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أوْ عَلى الضَّمِيرِ في (فَأنْجَيْناهُ) . وقالَ هو والزَّمَخْشَرِيُّ: بِتَقْدِيرِ ”اذْكُرُوا“ بَدَلٍ مِنهُ، إذْ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنهُ؛ لِأنَّ الأحْيانَ تَشْتَمِلُ عَلى ما فِيها، وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا أنَّ إذْ ظَرْفٌ لا يَتَطَرَّفُ، فَلا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، وقَدْ كَثُرَ تَمْثِيلُ المُعْرِبِينَ، إذْ في القُرْآنِ بِأنَّ العامِلَ فِيها اذْكُرْ، وإذا كانَتْ ظَرْفًا لِما مَضى، فَهو لَوْ كانَ مُنْصَرِفًا، لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِـ: ”اذْكُرْ“؛ لِأنَّ المُسْتَقْبَلَ لا يَقَعُ في الماضِي، لا يَجُوزُ: ثُمَّ أمْسِ، فَإنْ كانَ خُلِعَ مِنَ الظَّرْفِيَّةِ الماضِيَةِ وتَصَرَّفَ فِيهِ، جازَ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ ومَعْمُولًا لِـ: اذْكُرْ. وقَرَأ النَّخَعِيُّ، وأبُو جَعْفَرٍ، وأبُو حَنِيفَةَ، وإبْراهِيمُ: بِالرَّفْعِ، أيْ: ومِنَ المُرْسَلِينَ إبْراهِيمُ. وهَذِهِ القِصَّةُ تَمْثِيلٌ لِقُرَيْشٍ، وتَذْكِيرٌ لِحالِ أبِيهِمْ إبْراهِيمَ مِن رَفْضِ الأصْنامِ، والدَّعْوى إلى عِبادَةِ اللَّهِ، وكانَ نَمْرُوذُ وأهْلُ مَدِينَتِهِ عُبّادَ أصْنامٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿وتَخْلُقُونَ﴾ مُضارِعَ خَلَقَ ﴿إفْكًا﴾ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وسُكُونِ الفاءِ. وقَرَأ عَلِيٌّ، والسُّلَمِيُّ، وعَوْنٌ العُقَيْلِيُّ، وعُبادَةُ، وابْنُ أبِي لَيْلى، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: بِفَتْحِ التّاءِ والخاءِ واللّامِ مُشَدَّدَةً. قالَ ابْنُ مُجاهِدٍ: رُوِيَتْ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أصْلُهُ: تَتَخَلَّقُونَ، بِتاءَيْنِ، فَحُذِفَتْ إحْداهُما عَلى الخِلافِ الَّذِي في المَحْذُوفَةِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ أيْضًا، فِيما ذَكَرَ الأهْوازِيُّ: ”تُخَلِّقُونَ“، مِن خَلَّقَ المُشَدَّدِ. وقَرَأ ابْنُ الزُّبَيْرِ، وفُضَيْلُ بْنُ زُرْقانَ: ”أفِكًا“، بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وكَسْرِ الفاءِ، وهو مَصْدَرٌ مِثْلُ الكَذِبِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ﴿وتَخْلُقُونَ إفْكًا﴾ هو نَحْتُ الأصْنامِ وخَلْقُها، سَمّاها إفْكًا تَوَسُّعًا مِن حَيْثُ يَفْتَرُونَ بِها الإفْكَ في أنَّها آلِهَةٌ. وقالَ مُجاهِدٌ: هو اخْتِلاقُ الكَذِبِ في أمْرِ (p-١٤٦)الأوْثانِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ”إفْكًا“ فِيهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ مَصْدَرًا نَحْوَ: كِذْبٍ ولِعْبٍ، والإفْكُ مُخَفَّفٌ مِنهُ، كالكِذْبِ واللِّعْبِ مِن أصْلِهِما، وأنْ تَكُونَ صِفَةً عَلى فِعْلٍ، أيْ: خَلْقًا إفْكًا، ذا إفْكٍ وباطِلٍ، واخْتِلاقُهُمُ الإفْكَ تَسْمِيَةُ الأوْثانِ آلِهَةً وشُرَكاءَ لِلَّهِ وشُفَعاءَ إلَيْهِ، أوْ سَمّى الأصْنامَ إفْكًا، وعَمَلَهم لَها ونَحْتَهم خَلْقًا لِلْإفْكِ. انْتَهى. وهَذا التَّرْدِيدُ مِنهُ في نَحْوِ: ﴿وتَخْلُقُونَ إفْكًا﴾ قَوْلانِ لِابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا نَقْلُهُما عَنْهُما ونَفْيُهم بِقَوْلِهِ: ﴿لا يَمْلِكُونَ لَكم رِزْقًا﴾ عَلى جِهَةِ الِاحْتِجاجِ بِأمْرٍ يَفْهَمُهُ عامَّتُهم وخاصَّتُهم، فَقَرَّرَ أنَّ الأصْنامَ لا تُرْزَقُ، والرِّزْقُ يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ المَصْدَرَ: لا يَمْلِكُونَ أنْ يَرْزُقُوكم شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ اسْمَ المَرْزُوقِ، أيْ: لا يَمْلِكُونَ لَكم إيتاءَ رِزْقٍ ولا تَحْصِيلَهُ، وخُصَّ الرِّزْقُ لِمَكانَتِهِ مِنَ الخَلْقِ. ثُمَّ أمَرَهم بِابْتِغاءِ الرِّزْقِ مِمَّنْ هو يَمْلِكُهُ ويُؤْتِيهِ، وذَكَرَ الرِّزْقَ لِأنَّ المَقْصُودَ أنَّهم لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنهُ، وعَرَّفَهُ بَعْدُ؛ لِدَلالَتِهِ عَلى العُمُومِ؛ لِأنَّهُ تَعالى عِنْدَهُ الأرْزاقُ كُلُّها. ﴿واشْكُرُوا لَهُ﴾ عَلى نِعَمِهِ السّابِغَةِ مِنَ الرِّزْقِ وغَيْرِهِ. ﴿وإلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٤٥] أيْ: إلى جَزائِهِ، أخْبَرَ بِالمَعادِ والحَشْرِ. ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ تُكَذِّبُوا﴾ أيْ: لَيْسَ هَذا مُبْتَكَرًا مِنكم، وقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ مِن أُمَمِ الرُّسُلِ، قِيلَ: قَوْمُ شِيثَ وإدْرِيسَ وغَيْرِهِمْ. ورُوِيَ أنَّ إدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلامُ عاشَ في قَوْمِهِ ألْفَ سَنَةٍ، فَآمَنَ بِهِ ألْفُ إنْسانٍ عَلى عَدَدِ سِنِينِهِ، وباقِيهِمْ عَلى التَّكْذِيبِ. ﴿وما عَلى الرَّسُولِ إلّا البَلاغُ المُبِينُ﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مِثْلِ هَذِهِ الجُمْلَةِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ، بِخِلافٍ عَنْهُ: تَرَوْا، بِتاءِ الخِطابِ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: بِالياءِ. والجُمْهُورُ: (يُبْدِئُ)، مُضارِعَ أبْدَأ؛ والزُّبَيْرُ، وعِيسى، وأبُو عَمْرٍو: بِخِلافٍ عَنْهُ: ”يَبْدَأُ“، مُضارِعَ بَدَأ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: ﴿كَيْفَ بَدَأ الخَلْقَ﴾ بِتَخْفِيفِ الهَمْزَةِ بِإبْدالِها ألِفًا، فَذَهَبَتْ في الوَصْلِ، وهو تَخْفِيفٌ غَيْرُ قِياسِيٍّ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎فارْعَيْ فَزارَةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ وقِياسُ تَخْفِيفِ هَذا التَّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ، وتَقْرِيرُهم عَلى رُؤْيَةِ بَدْءِ الخَلْقِ في قَوْلِهِ: (أوَلَمْ يَرَوْا) وفي: ﴿فانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأ الخَلْقَ﴾ إنَّما هو لِمُشاهَدَتِهِمْ إحْياءَ الأرْضِ بِالنَّباتِ، وإخْراجَ أشْياءَ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ، وقَوْلُهُ: (ثُمَّ يُعِيدُهُ) وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ﴾ لَيْسَ داخِلًا تَحْتَ الرُّؤْيَةِ ولا تَحْتَ النَّظَرِ، فَلَيْسَ (ثُمَّ يُعِيدُهُ) مَعْطُوفًا عَلى (يُبْدِئُ)، ولا (ثُمَّ يُنْشِئُ) داخِلًا تَحْتَ كَيْفِيَّةِ النَّظَرِ في البَدْءِ، بَلْ هُما جُمْلَتانِ مُسْتَأْنَفَتانِ، إخْبارًا مِنَ اللَّهِ تَعالى بِالإعادَةِ بَعْدَ المَوْتِ. وقُدِّمَ ما قَبْلَ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ عَلى سَبِيلِ الدَّلالَةِ عَلى إمْكانِ ذَلِكَ، فَإذا أمْكَنَ ذَلِكَ وأخْبَرَ الصّادِقُ بِوُقُوعِهِ، صارَ واجِبًا مَقْطُوعًا بِعامَّةٍ، ولا شَكَّ فِيهِ. وقالَ قَتادَةُ: (أوَلَمْ يَرَوْا) بِالدَّلائِلِ والنَّظَرِ كَيْفَ يَجُوزُ أنْ يُعِيدَ اللَّهُ الأجْسامَ بَعْدَ المَوْتِ ؟ وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: المَعْنى: كَيْفَ يَبْدَأُ خَلْقَ الإنْسانِ ثُمَّ يُعِيدُهُ إلى أحْوالٍ أُخَرَ، حَتّى إلى التُّرابِ ؟ وقالَ مُقاتِلٌ: الخَلْقُ هُنا اللَّيْلُ والنَّهارُ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: النَّشاءَةُ هُنا، وفي النَّجْمِ والواقِعَةِ عَلى وزْنِ فَعالَةٍ؛ وباقِي السَّبْعَةِ: النَّشْأةُ، عَلى وزْنِ فَعْلَةٍ، وهُما كالرَّآفَةِ والرَّأْفَةِ، وهُما لُغَتانِ، والقَصْرُ أشْهَرُ، وانْتِصابُهُ عَلى المَصْدَرِ، إمّا عَلى غَيْرِ المَصْدَرِ قامَ مَقامَ الإنْشاءِ، وإمّا عَلى إضْمارِ فِعْلِهِ، أيْ: فَتُنَشَّئُونَ النَّشْأةَ. وفِي الآيَةِ الأُولى صَرَّحَ بِاسْمِهِ تَعالى في قَوْلِهِ: (كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الخَلْقَ، ثُمَّ أُضْمِرَ في قَوْلِهِ ( ثُمَّ يُعِيدُهُ) وهُنا عَكَسَ أُضْمِرُ في ”بَدَأ“ ثُمَّ أبْرَزَهُ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ﴾ حَتّى لا تَخْلُوَ الجُمْلَتانِ مِن صَرِيحِ اسْمِهِ. ودَلَّ إبْرازُهُ هُنا عَلى تَفْخِيمِ النَّشْأةِ الآخِرَةِ، وتَعْظِيمِ أمْرِها، وتَقْرِيرِ وجُودِها، إذْ كانَ نِزاعُ الكُفّارِ فِيها، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ ذَلِكَ الَّذِي بَدَأ الخَلْقَ هو الَّذِي ﴿يُنْشِئُ النَّشْأةَ الآخِرَةَ﴾ فَكانَ التَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ أفْخَمَ في إسْنادِ النَّشْأةِ إلَيْهِ. والآخِرَةُ صِفَةٌ لِلنَّشْأةِ، فَهُما نَشْأتانِ: نَشْأةُ اخْتِراعٍ مِنَ العَدَمِ، ونَشْأةُ إعادَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الصِّفَةَ الَّتِي النَّشْأةُ هي بَعْضُ مَقْدُوراتِها. ثُمَّ أخْبَرَ بِأنَّهُ ﴿يُعَذِّبُ مَن يَشاءُ﴾ أيْ: تَعْذِيبَهُ ﴿ويَرْحَمُ مَن يَشاءُ﴾ رَحْمَتَهُ، وبَدَأ بِالعَذابِ؛ لِأنَّ الكَلامَ هو مَعَ الكُفّارِ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ. ﴿وإلَيْهِ تُقْلَبُونَ﴾ أيْ: تُرَدُّونَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومُتَعَلَّقُ (p-١٤٧)المَشِيئَتَيْنِ مُفَسَّرٌ مُبَيَّنٌ في مَواضِعَ مِنَ القُرْآنِ، وهو يَسْتَوْجِبُهُما مِنَ الكافِرِ والفاسِقِ إذا لَمْ يَتُوبا، ومِنَ المَعْصُومِ والتّائِبِ. انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ. ﴿وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أيْ: فائِتِينَ ما أرادَ اللَّهُ لَكم. (في الأرْضِ ولا في السَّماءِ) إنْ حُمِلَ (السَّماءِ) عَلى العُلُوِّ فَجائِزٌ، أيْ: في البُرُوجِ والقِلاعِ الذّاهِبَةِ في العُلُوِّ، ويَكُونُ تَخْصِيصًا بَعْدَ تَعْمِيمٍ، أوْ عَلى المِظَلَّةِ، فَيَحْتاجُ إلى تَقْرِيرٍ، أيْ: لَوْ صِرْتُمْ فِيها، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎ولَوْ كُنْتَ في جُبٍّ ثَمانِينَ قامَةً ∗∗∗ ورُقِّيتَ أسْبابَ السَّماءِ بِسُلَّمِ ؎لَيَعْتَوِرَنْكَ القَوْلُ حَتّى تَهُرَّهُ ∗∗∗ وتَعْلَمَ أنِّي فِيكَ لَسْتُ بِمُحْرِمِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِن أقْطارِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الرحمن: ٣٣] عَلى تَقْدِيرِ الحُكْمِ لَوْ كُنْتُمْ فِيها ﴿والأرْضِ فانْفُذُوا﴾ [الرحمن: ٣٣] . وقالَ ابْنُ زَيْدٍ، والفَرّاءُ: التَّقْدِيرُ: ولا مَن في السَّماءِ، أيْ: يَعْجِزُ إنْ عَصى. وقالَ الفَرّاءُ: وهَذا مِن غَوامِضِ العَرَبِيَّةِ، وأنْشَدَ قَوْلَ حَسّانَ: ؎فَمَن يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنكم ∗∗∗ ويَمْدَحُهُ ويَنْصُرُهُ سَواءُ أيْ: ومَن يَنْصُرُهُ، وهَذا عِنْدَ البَصْرِيِّينَ لا يَكُونُ إلّا في الشِّعْرِ؛ لِأنَّ فِيهِ حَذْفَ المَوْصُولِ وإبْقاءَ صِلَتِهِ. وأبْعَدُ مِن هَذا القَوْلِ قَوْلُ مَن زَعَمَ أنَّ التَّقْدِيرَ: وما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ مَن في الأرْضِ مِنَ الإنْسِ والجِنِّ، ولا مَن في السَّماءِ مِنَ المَلائِكَةِ، فَكَيْفَ تُعْجِزُونَ اللَّهَ ؟ وقَرَأ الجُمْهُورُ: (يَئِسُوا) بِالهَمْزِ؛ والذِّمارِيُّ، وأبُو جَعْفَرٍ: بِغَيْرِ هَمْزٍ، بَلْ بِياءٍ بَدَلَ الهَمْزَةِ، وهو وعِيدٌ، أيْ: يَيْئَسُونَ يَوْمَ القِيامَةِ. وقِيلَ: ﴿مِن رَحْمَتِي﴾ . وقِيلَ: مِن دِينِي، فَلا أهْدِيهِمْ. وقِيلَ: هو وصْفٌ بِحالِهِمْ؛ لِأنَّ المُؤْمِنَ يَكُونُ دائِمًا راجِيًا خائِفًا، والكافِرَ لا يَخْطُرُ بِبالِهِ ذَلِكَ. شَبَّهَ حالَهم في انْتِفاءِ رَحْمَتِهِ عَنْهم بِحالِ مَن يَئِسَ مِنَ الرَّحْمَةِ. والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَ: ﴿وإنْ تُكَذِّبُوا﴾ مِن كَلامِ اللَّهِ، حِكايَةً عَنْ إبْراهِيمَ، إلى قَوْلِهِ: (عَذابٌ ألِيمٌ) . وقِيلَ: هَذِهِ الآياتُ اعْتِراضٌ مِن كَلامِ اللَّهِ بَيْنَ كَلامِ إبْراهِيمَ، والإخْبارُ عَنْ جَوابِ قَوْمِهِ، أيْ: وإنْ تُكَذِّبُوا مُحَمَّدًا، فَتَقْدِيرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ اعْتِراضًا يَرُدُّ عَلى أبِي عَلِيٍّ الفارِسِيِّ، حَيْثُ زَعَمَ أنَّ الِاعْتِراضَ لا يَكُونُ جُمْلَتَيْنِ فَأكْثَرَ، وفائِدَةُ هَذا الِاعْتِراضِ أنَّهُ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ ﷺ، حَيْثُ كانَ قَدِ ابْتُلِيَ بِمِثْلِ ما كانَ أبُوهُ إبْراهِيمُ قَدِ ابْتُلِيَ مِن شِرْكِ قَوْمِهِ وعِبادَتِهِمُ الأوْثانَ وتَكْذِيبِهِمْ إيّاهُ ومُحاوَلَتِهِمْ قَتْلَهُ. وجاءَتِ الآياتُ بَعْدَ الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ مُقَرِّرَةً لِما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ مِن تَوْحِيدِ اللَّهِ ودَلائِلِهِ وذِكْرِ آثارِ قُدْرَتِهِ والمَعادِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب