الباحث القرآني

﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾ هَذا الِاسْتِثْناءُ يَعْقُبُ جُمَلًا ثَلاثَةً، جُمْلَةَ الأمْرِ بِالجَلْدِ، وهو لَوْ تابَ وأكْذَبَ نَفْسَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حَدُّ القَذْفِ، وجُمْلَةَ النَّهْيِ (p-٤٣٣)عَنْ قَبُولِ شَهادَتِهِمْ أبَدًا، وقَدْ وقَعَ الخِلافُ في قَبُولِ شَهادَتِهِمْ إذا تابُوا بِناءً عَلى أنَّ هَذا الِاسْتِثْناءَ راجِعٌ إلى جُمْلَةِ النَّهْيِ، وجُمْلَةَ الحُكْمِ بِالفِسْقِ أوْ هو راجِعٌ إلى الجُمْلَةِ الأخِيرَةِ، وهي الثّالِثَةُ، وهي الحُكْمُ بِفِسْقِهِمْ، والَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أنَّ الِاسْتِثْناءَ إذا تَعَقَّبَ جُمْلَةً يَصْلُحُ أنْ يَتَخَصَّصَ كُلُّ واحِدٍ مِنها بِالِاسْتِثْناءِ أنْ يُجْعَلَ تَخْصِيصًا في الجُمْلَةِ الأخِيرَةِ، وهَذِهِ المَسْألَةُ تُكُلِّمَ عَلَيْها في أُصُولِ الفِقْهِ، وفِيها خِلافٌ وتَفْصِيلٌ، ولَمْ أرَ مَن تَكَلَّمَ عَلَيْها مِنَ النُّحاةِ غَيْرَ المَهاباذِيِّ وابْنِ مالِكٍ، فاخْتارَ ابْنُ مالِكٍ أنْ يَعُودَ إلى الجُمَلِ كُلِّها كالشَّرْطِ، واخْتارَ المَهاباذِيُّ أنْ يَعُودَ إلى الجُمْلَةِ الأخِيرَةِ، وهُوالَّذِي نَخْتارُهُ، وقَدِ اسْتَدْلَلْنا عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ في كِتابِ التَّذْيِيلِ والتَّكْمِيلِ في شَرْحِ التَّسْهِيلِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وجَعَلَ - يَعْنِي الشّافِعِيَّ - الِاسْتِثْناءَ مُتَعَلِّقًا بِالجُمْلَةِ الثّانِيَةِ، وحَقُّ المُسْتَثْنى عِنْدَهُ أنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بَدَلًا مِن (هم) في (لَهم)، وحَقُّهُ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ النَّصْبُ؛ لِأنَّهُ عَنْ مُوجَبٍ، والَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ الآيَةِ ونَظْمُها أنْ تَكُونَ الجُمَلُ الثَّلاثُ مَجْمُوعُهُنَّ جَزاءُ الشَّرْطِ، يَعْنِي المَوْصُولَ المُضَمَّنَ مَعْنى الشَّرْطِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ومَن قَذَفَ المُحْصَناتِ فاجْلِدُوهُ ورُدُّوا شَهادَتَهُ وفَسِّقُوهُ، أيِ اجْمَعُوا لَهُ الحَدَّ والرَّدَّ والفِسْقَ. ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا﴾ عَنِ القَذْفِ، ﴿وأصْلَحُوا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فَيَنْقَلِبُونَ غَيْرَ مَحْدُودِينَ ولا مَرْدُودِينَ ولا مُفَسَّقِينَ، انْتَهى. ولَيْسَ يَقْتَضِي ظاهِرُ الآيَةِ عَوْدَ الِاسْتِثْناءِ إلى الجُمَلِ الثَّلاثِ، بَلِ الظّاهِرُ هو ما يُعَضِّدُهُ كَلامُ العَرَبِ، وهُوالرُّجُوعُ إلى الجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيها، والقَوْلُ بِأنَّهُ اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ مَعَ ظُهُورِ اتِّصالِهِ ضَعِيفٌ لا يُصارُ إلَيْهِ إلّا عِنْدَ الحاجَةِ. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى قَذْفَ المُحْصَناتِ، وكانَ الظّاهِرُ أنَّهُ يَتَناوَلُ الأزْواجَ وغَيْرَهُنَّ؛ ولِذَلِكَ قالَ سَعْدُ بْنُ عُبادَةَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ وجَدْتُ مَعَ امْرَأتِي رَجُلًا أُمْهِلُهُ حَتّى آتِيَ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ، واللَّهِ لَأضْرِبَنَّهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَزَمَ عَلى حَدِّ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ رَمى زَوْجَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْماءَ، فَنَزَلَتْ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهُمْ﴾، واتَّضَحَ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ [النور: ٤] غَيْرُ الزَّوْجاتِ، والمَشْهُورُ أنَّ نازِلَةَ هِلالٍ قَبْلَ نازِلَةِ عُوَيْمِرٍ. وقِيلَ: نازِلَةُ عُوَيْمِرٍ قَبْلُ، والمَعْنى بِالزِّنا ولَمْ يَكُنْ لَهم شُهَداءُ، ولَمْ يُقَيَّدْ بِعَدَدٍ اكْتِفاءً بِالتَّقْيِيدِ في قَذْفِ غَيْرِ الزَّوْجاتِ، والمَعْنى (شُهَداءَ) عَلى صِدْقِ قَوْلِهِمْ. وقُرِئَ ”ولَمْ تَكُنْ“ بِالتّاءِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِالياءِ، وهُوالفَصِيحُ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ العامِلُ مُفَرَّغًا لِما بَعْدَ إلّا وهو مُؤَنَّثٌ، فالفَصِيحُ أنْ يَقُولَ: ما قامَ إلّا هِنْدٌ، وأمّا ما قامَتْ إلّا هِنْدٌ، فَأكْثَرُ أصْحابِنا يَخُصُّهُ بِالضَّرُورَةِ، وبَعْضُ النَّحْوِيِّينَ يُجِيزُهُ في الكَلامِ عَلى قِلَّةٍ. و(أزْواجَهم) يَعُمُّ سائِرَ الأزْواجِ مِنَ المُؤْمِناتِ والكافِراتِ والإماءِ، فَكُلُّهُنَّ يُلاعِنَّ الزَّوْجَ لِلِانْتِفاءِ مِنَ العَمَلِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ: بِأحَدِ مَعْنَيَيْنِ أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ لا يَجِبُ عَلى قاذِفِها الحَدُّ وإنْ كانَ أجْنَبِيًّا، نَحْوَ أنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَمْلُوكَةً أوْ ذِمِّيَّةً وقَدْ وُطِئَتْ وطْأً حَرامًا في غَيْرِ مِلْكٍ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ أحَدُهُما لَيْسَ مِن أهْلِ الشَّهادَةِ بِأنْ يَكُونَ مَحْدُودًا في قَذْفٍ أوْ كافِرًا أوْ عَبْدًا، فَأمّا إذا كانَ أعْمى أوْ فاسِقًا فَلَهُ أنْ يُلاعِنَ. وقالَ الثَّوْرِيُّ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: لا لِعانَ إذا كانَ أحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَمْلُوكًا أوْ كافِرًا، ويُلاعِنُ المَحْدُودُ في القَذْفِ. وقالَ الأوْزاعِيُّ: لا لِعانَ بَيْنَ أهْلِ الكِتابِ ولا بَيْنَ المَحْدُودِ في القَذْفِ وامْرَأتِهِ. وقالَ اللَّيْثُ: يُلاعِنُ العَبْدُ امْرَأتَهُ الحُرَّةَ، والمَحْدُودُ في القَذْفِ. وعَنْ مالِكٍ: الأمَةُ المُسْلِمَةُ والحُرَّةُ الكِتابِيَّةُ يُلاعِنَّ الحُرَّ المُسْلِمَ، والعَبْدُ يُلاعِنُ زَوْجَتَهُ الكِتابِيَّةَ، وعَنْهُ: لَيْسَ بَيْنَ المُسْلِمِ والكافِرَةِ لِعانٌ إلّا لِمَن يَقُولُ: رَأيْتُها تَزْنِي، فَيُلاعِنُ ظَهَرَ الحَمْلُ أوْ لَمْ يَظْهَرْ، ولا يُلاعِنِ المُسْلِمُ الكافِرَةَ ولا زَوْجَتَهُ الأمَةَ إلّا في نَفْيِ الحَمْلِ ويَتَلاعَنُ المَمْلُوكانِ المُسْلِمانِ لا الكافِرانِ. وقالَ الشّافِعِيُّ (p-٤٣٤)كُلُّ زَوْجٍ جازَ طَلاقُهُ ولَزِمَهُ الفَرْضُ يُلاعِنُ، والظّاهِرُ العُمُومُ في الرّامِينَ وزَوْجاتِهِمُ المُرْمَياتِ بِالزِّنا، والظّاهِرُ إطْلاقُ الرَّمْيِ بِالزِّنا، سَواءٌ قالَ: عايَنْتُها تَزْنِي، أمْ قالَ: زَنَيْتِ، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ، وكانَ مالِكٌ لا يُلاعِنُ إلّا أنْ يَقُولَ: رَأيْتُكِ تَزْنِينَ، أوْ يَنْفِي حَمْلًا بِها أوْ ولَدًا مِنها، والأعْمى يُلاعِنُ. وقالَ اللَّيْثُ: لا يُلاعِنُ إلّا أنْ يَقُولَ: رَأيْتُ عَلَيْها رَجُلًا أوْ يَكُونَ اسْتَبْرَأها، فَيَقُولَ: لَيْسَ هَذا الحَمْلُ مِنِّي، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ في اللِّعانِ إلّا لِكَيْفِيَّتِهِ مِنَ الزَّوْجَيْنِ. وقَدْ أطالَ المُفَسِّرُونَ: الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُما؛ في ذِكْرِ كَثِيرٍ مِن أحْكامِ اللِّعانِ مِمّا لَمْ تَتَعَرَّضْ لَهُ الآيَةُ ويُنْظَرُ ذَلِكَ في كُتُبِ الفِقْهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (أرْبَعَ شَهاداتٍ) بِالنَّصْبِ عَلى المَصْدَرِ. وارْتَفَعَ ﴿فَشَهادَةُ﴾ خَبَرًا عَلى إضْمارِ مُبْتَدَأٍ، أيْ فالحُكْمُ أوِ الواجِبُ، أوْ مُبْتَدَأً عَلى إضْمارِ الخَبَرِ مُتَقَدَّمًا، أيْ فَعَلَيْهِ أنْ يَشْهَدَ، أوْ مُؤَخَّرًا، أيْ كافِيهِ أوْ واجِبُهُ. و(بِاللَّهِ) مِن صِلَةِ (شَهاداتٍ)، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن صِلَةِ ﴿فَشَهادَةُ﴾؛ قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وفَرَّغَ الحَوْفِيُّ ذَلِكَ عَلى الأعْمالِ، فَعَلى رَأْيِ البَصْرِيِّينَ واخْتِيارِهِمْ يَتَعَلَّقُ بِشَهاداتٍ، وعَلى اخْتِيارِ الكُوفِيِّينَ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَشَهادَةُ﴾ . وقَرَأ الأخَوانِ، وحَفْصٌ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، والزَّعْفَرانِيُّ، وابْنُ مِقْسَمٍ، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وأبُو بَحْرِيَّةَ، وأبانُ، وابْنُ سَعْدانَ: (أرْبَعُ) بِالرَّفْعِ خَبَرًا لِلْمُبْتَدَأِ، وهو ﴿فَشَهادَةُ﴾ و(بِاللَّهِ) مِن صِلَةِ (شَهاداتٍ) عَلى هَذِهِ القِراءَةِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ ﴿فَشَهادَةُ﴾ لِلْفَصْلِ بَيْنَ المَصْدَرِ ومَعْمُولِهِ بِالجَرِّ، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (والخامِسَةُ) بِالرَّفْعِ فِيهِما. وقَرَأ طَلْحَةُ والسُّلَمِيُّ والحَسَنُ والأعْمَشُ وخالِدُ بْنُ إياسٍ - ويُقالُ ابْنُ إلْياسٍ -: بِالنَّصْبِ فِيهِما. وقَرَأ حَفْصٌ والزَّعْفَرانِيُّ بِنَصْبِ الثّانِيَةِ دُونَ الأُولى، فالرَّفْعُ عَلى الِابْتِداءِ وما بَعْدَهُ الخَبَرُ، ومَن نَصَبَ الأُولى فَعَطْفٌ عَلى (أرْبَعُ) في قِراءَةِ مَن نَصَبَ (أرْبَعَ)، وعَلى إضْمارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَعْنى في قِراءَةِ مَن رَفَعَ (أرْبَعُ)، أيْ: وتَشْهَدُ (الخامِسَةَ)، ومَن نَصَبَ الثّانِيَةَ فَعَطَفَ عَلى (أرْبَعَ)، وعَلى قِراءَةِ النَّصْبِ في (الخامِسَةَ) يَكُونُ (أنَّ) بَعْدَهُ عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ بِأنَّ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ (أنَّ) وما بَعْدَهُ بَدَلًا مِنَ (الخامِسَةُ) . وقَرَأ نافِعٌ (أنْ لَعْنَةُ) بِتَخْفِيفِ (أنْ) ورَفْعِ (لَعْنَةُ)، و(أنْ غَضِبَ) بِتَخْفِيفِ (أنْ)، و(غَضِبَ) فِعْلٌ ماضٍ، والجَلالَةُ بَعْدُ مَرْفُوعَةٌ، وهي أنِ المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ لَمّا خُفِّفَتْ حُذِفَ اسْمُها وهو ضَمِيرُ الشَّأْنِ. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ وقَتادَةُ وعِيسى وسَلامٌ وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ والأعْرَجُ ويَعْقُوبُ، بِخِلافٍ عَنْهُما، والحَسَنُ (أنْ لَعْنَةُ) كَقِراءَةِ نافِعٍ، و(أنْ غَضَبُ) بِتَخْفِيفِ (أنْ)، و(غَضَبُ) مَصْدَرٌ مَرْفُوعٌ وخَبَرُهُ ما بَعْدَهُ، وهي أنِ المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ (أنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ) و(أنَّ غَضَبَ اللَّهِ) بِتَشْدِيدِ (أنَّ)، ونَصْبِ ما بَعْدَهُما اسْمًا لَها وخَبَرُهُ ما بَعْدَهُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأنِ الخَفِيفَةُ عَلى قِراءَةِ نافِعٍ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ غَضِبَ﴾ قَدْ ولِيَها الفِعْلُ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: وأهْلُ العَرَبِيَّةِ يَسْتَقْبِحُونَ أنْ يَلِيَها الفِعْلُ إلّا أنْ يُفْصَلَ بَيْنَها وبَيْنَهُ بِشَيْءٍ، نَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿عَلِمَ أنْ سَيَكُونُ﴾ [المزمل: ٢٠]، وقَوْلِهِ: (أفَلا يَرَوْنَ أنْ لا يَرْجِعُ)، وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأنْ لَيْسَ لِلْإنْسانِ إلّا ما سَعى﴾ [النجم: ٣٩] فَذَلِكَ لِعِلَّةِ تَمَكُّنِ لَيْسَ في الأفْعالِ. وأمّا قَوْلُهُ ﴿أنْ بُورِكَ مَن في النّارِ﴾ [النمل: ٨] فَبُورِكَ عَلى مَعْنى الدُّعاءِ، فَلَمْ يَجْرِ دُخُولُ الفَواصِلِ لِئَلّا يَفْسُدَ المَعْنى، انْتَهى. ولا فَرْقَ بَيْنَ ﴿أنْ غَضِبَ اللَّهُ﴾ و﴿أنْ بُورِكَ﴾ [النمل: ٨] في كَوْنِ الفِعْلِ بَعْدَ أنْ دُعاءً، ولَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ ولا الفارِسِيُّ، ويَكُونُ غَضِبَ دُعاءً مَثَّلَ النُّحاةُ أنَّهُ إذا كانَ الفِعْلُ دُعاءً لا يُفْصَلُ بَيْنَهُ وبَيْنَ أنْ بِشَيْءٍ، وأوْرَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ ﴿أنْ غَضِبَ﴾ في قِراءَةِ نافِعٍ مَوْرِدَ المُسْتَغْرَبِ. ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ﴾ أيْ: يَدْفَعُ و(العَذابَ) قالَ الجُمْهُورُ: الحَدُّ. وقالَ أصْحابُ الرَّأْيِ: لا حَدَّ عَلَيْها إنْ لَمْ يُلاعِنْ ولا يُوجِبُهُ عَلَيْها قَوْلُ الزَّوْجِ. وحَكى الطَّبَرِيُّ عَنْ آخَرِينَ أنَّ (العَذابَ) هُوالحَبْسُ، والظّاهِرُ الِاكْتِفاءُ في اللِّعانِ بِهَذِهِ الكَيْفِيَّةِ المَذْكُورَةِ في الآيَةِ، وبِهِ قالَ اللَّيْثُ، ومَكانُ ضَمِيرِ الغائِبِ ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ في شَهادَتِهِ مُطْلَقًا وفي شَهادَتِها في قَوْلِهِ عَلَيْها تَقُولُ عَلَيَّ. فَقالَ الثَّوْرِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٌ وأبُو يُوسُفَ: يَقُولُ بَعْدَ (p-٤٣٥)﴿مِنَ الصّادِقِينَ﴾ فِيما رَماها بِهِ مِنَ الزِّنا وكَذا بَعْدَ ﴿مِنَ الكاذِبِينَ﴾، وكَذا هي بَعْدَ (مِنَ الكاذِبِينَ) و(مِنَ الصّادِقِينَ)، فَإنْ كانَ هُناكَ ولَدٌ يَنْفِيهِ زادَ بَعْدَ قَوْلِهِ فِيما رَماها بِهِ مِنَ الزِّنا في نَفْيِ الوَلَدِ. وقالَ مالِكٌ: يَقُولُ أشْهَدُ بِاللَّهِ أنِّي رَأيْتُها تَزْنِي، وهي أشْهَدُ بِاللَّهِ ما رَآنِي أزْنِي، والخامِسَةُ تَقُولُ ذَلِكَ أرْبَعًا، و(الخامِسَةَ) لَفْظَ الآيَةِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: يَقُولُ أشْهَدُ بِاللَّهِ أنِّي لَصادِقٌ فِيما رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي فُلانَةَ بِنْتَ فُلانٍ، ويُشِيرُ إلَيْها إنْ كانَتْ حاضِرَةً أرْبَعَ مَرّاتٍ، ثُمَّ يَقْعُدُ الإمامُ ويُذَكِّرُهُ اللَّهَ تَعالى فَإنْ رَآهُ يُرِيدُ أنْ يَمْضِيَ، أمَرَ مَن يَضَعُ يَدَهُ عَلى فِيهِ، ويَقُولُ: إنَّ قَوْلَكَ وعَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إنْ كُنْتُ مِنَ الكاذِبِينَ فِيما رَمَيْتُ بِهِ فُلانَةَ مِنَ الزِّنا، فَإنْ قَذَفَها بِأحَدٍ يُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ واحِدًا أوِ اثْنَيْنِ في كُلِّ شَهادَةٍ، وإنْ نَفى ولَدَها زادَ وأنَّ هَذا الوَلَدَ ما هو مِنِّي، والظّاهِرُ أنَّهُ إذا طَلَّقَها بائِنًا فَقَذَفَها ووَلَدَتْ قَبْلَ انْقِضاءِ العِدَّةِ، فَنَفى الوَلَدَ أنَّهُ يُحَدُّ ويَلْحَقُهُ الوَلَدُ؛ لِأنَّهُ لا يَنْطَلِقُ عَلَيْها زَوْجَةٌ إلّا مَجازًا. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: إذا طَلَّقَها تَطْلِيقَةً أوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ قَذَفَها حُدَّ. وعَنِ ابْنِ عُمَرَ: يُلاعِنُ. وعَنِ اللَّيْثِ والشّافِعِيِّ: إذا أنْكَرَ حَمْلَها بَعْدَ البَيْنُونَةِ لاعَنَ. وعَنْ مالِكٍ: إنْ أنْكَرَهُ بَعْدَ الثَّلاثِ لاعَنَها. ولَوْ قَذَفَها ثُمَّ بانَتْ مِنهُ بِطَلاقٍ أوْ غَيْرِهِ، فَقالَ الثَّوْرِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ: لا حَدَّ ولا لِعانَ. وقالَ الأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ: يُلاعِنُ، وهَذا هُوالظّاهِرُ؛ لِأنَّها كانَتْ زَوْجَتَهُ حالَةَ القَذْفِ، والظّاهِرُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ﴾ أنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ فَإنْ نَكَلَ حُبِسَ حَتّى يُلاعِنَ، وكَذَلِكَ هي، وهَذا مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ. وقالَ مالِكٌ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ: أيُّهُما نَكَلَ حُدَّ هو لِلْقَذْفِ وهي لِلزِّنا. وعَنِ الحَسَنِ: إذا لاعَنَ وأبَتْ حُبِسَتْ. وعَنْ مَكْحُولٍ والضَّحّاكِ والشَّعْبِيِّ: تُرْجَمُ، ومَشْرُوعِيَّةُ اللِّعانِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الزِّنا والقَذْفَ لَيْسا بِكُفْرٍ مِن فاعِلِهِما، خِلافًا لِلْخَوارِجِ في قَوْلِهِمْ: إنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ مِنَ الكاذِبِ مِنهُما لِاسْتِحْقاقِ اللَّعْنِ مِنَ اللَّهِ والغَضَبِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): لِمَ خُصَّتِ المُلاعِنَةُ بِأنْ تُخَمِّسَ بِغَضَبِ اللَّهِ ؟ (قُلْتُ): تَغْلِيظًا عَلَيْها؛ لِأنَّها هي أصْلُ الفُجُورِ ومُتَّبَعَةٌ بِإطْماعِها، ولِذَلِكَ كانَتْ مُقَدَّمَةً في آيَةِ الجَلْدِ، ويَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ لِخُوَيْلَةَ: «والرَّجْمُ أهْوَنُ عَلَيْكِ مِن غَضَبِ اللَّهِ» . ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ﴾ إلى آخِرِهِ. قالَ السُّدِّيُّ فَضْلُهُ مِنَّتُهُ ورَحْمَتُهُ نِعْمَتُهُ. وقالَ ابْنُ سَلامٍ: فَضْلُهُ الإسْلامُ، ورَحْمَتُهُ الكِتْمانُ. ولَمّا بَيَّنَ تَعالى حُكْمَ الرّامِي المُحْصَناتِ والأزْواجِ، كانَ في فَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ أنْ جَعَلَ اللِّعانَ سَبِيلًا إلى السَّتْرِ وإلى دَرْءِ الحَدِّ، وجَوابُ (لَوْلا) مَحْذُوفٌ. قالَ التَّبْرِيزِيُّ: تَقْدِيرُهُ لَهَلَكْتُمْ أوْ لَفَضَحَكم أوْ لَعاجَلَكم بِالعُقُوبَةِ أوْ لَتَبَيَّنَ الكاذِبُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَكَشَفَ الزُّناةَ بِأيْسَرَ مِن هَذا، أوْ لَأخَذَهم بِعِقابٍ مِن عِنْدِهِ، ونَحْوُ هَذا مِنَ المَعانِي الَّتِي يُوجِبُ تَقْدِيرَها إبْهامُ الجَوابِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب