الباحث القرآني

(p-٤٤٥٦)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٨ - ١٠] ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ أنْ تَشْهَدَ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الكاذِبِينَ﴾ ﴿والخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ﴾ [النور: ٩] ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ وأنَّ اللَّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: ١٠] . ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ﴾ أيِ: الدُّنْيَوِيَّ وهو الرَّجْمُ: ﴿أنْ تَشْهَدَ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الكاذِبِينَ﴾ أيْ: فِيما رَماها بِهِ مِنَ الزِّنى: ﴿والخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إنْ كانَ﴾ [النور: ٩] أيِ: الزَّوْجُ: ﴿مِنَ الصّادِقِينَ﴾ [النور: ٩] ﴿ولَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكم ورَحْمَتُهُ وأنَّ اللَّهَ تَوّابٌ حَكِيمٌ﴾ [النور: ١٠] أيْ: لَحَرَجْتُمْ ولَشَقَّ عَلَيْكم كَثِيرٌ مِن أُمُورِكم، ولَكِنْ لِرَحْمَتِهِ ولُطْفِهِ، شَرَعَ لَكم مِنَ الفَرَجِ والمَخْرَجَ، ما أنْزَلَهُ وأحْكَمَهُ. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ فِيها فَرَجٌ لِلْأزْواجِ وزِيادَةُ مَخْرَجٍ، إذا قَذَفَ أحَدُهم زَوْجَتَهُ وتَعَسَّرَ عَلَيْهِ إقامَةُ البَيِّنَةِ، أنْ يُلاعِنَها كَما أمَرَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ. وهو أنْ يُحْضِرَها إلى الإمامِ فَيَدَّعِيَ عَلَيْها بِما رَماها بِهِ. فَيُحَلِّفُهُ الحاكِمُ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ في مُقابَلَةِ أرْبَعَةِ شُهَداءَ إنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ. أيْ: فِيما رَماها بِهِ مِنَ الزِّنى. والخامِسَةَ أنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كانَ مِنَ الكاذِبِينَ. فَإذا قالَ ذَلِكَ بانَتْ مِنهُ بِنَفْسِ هَذا اللِّعانِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ وطائِفَةٍ كَثِيرَةٍ مِنَ العُلَماءِ. وحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أبَدًا. ويُعْطِيها مَهْرَها. ويَتَوَجَّهُ عَلَيْها حَدُّ الزِّنى. ولا يَدْرَأُ عَنْها العَذابَ إلّا أنْ تُلاعِنَ فَتَشْهَدَ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الكاذِبِينَ. أيْ: فِيما رَماها بِهِ. والخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إنْ كانَ مِنَ الصّادِقِينَ. الثّانِي: رُوِيَ في الصَّحِيحِ أنَّ ذَلِكَ وقَعَ في عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ . وأنَّ «رَجُلًا قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: (p-٤٤٥٧)أرَأيْتَ رَجُلًا رَأى مَعَ امْرَأتِهِ رَجُلًا، أيَقْتُلُهُ فَتَقْتُلُونَهُ، أمْ كَيْفَ يَفْعَلُ ؟ فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قَدْ قَضى اللَّهُ فِيكَ وفي امْرَأتِكَ. وتَلا عَلَيْهِ ما نَزَلَ مِن هَذِهِ الآيَةِ. فَتَلاعَنا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» . وصَحَّ أيْضًا أنَّها قَدْ وقَعَتْ لِرَجُلَيْنِ سُمِّيا. وقَدِ اخْتَلَفَ شُرّاحُ الصَّحِيحِ في مَعْنى ما رُوِيَ مِن أنَّها نَزَلَتْ فِيهِما مَعًا. وإذا راجَعْتَ ما كَتَبْناهُ في (المُقَدِّمَةِ ) في مَعْنى سَبَبِ النُّزُولِ، زالَ الإشْكالُ فارْجِعْ إلَيْهِ. الثّالِثُ: قالَ السُّيُوطِيُّ في (الإكْلِيلِ "): هَذِهِ الآيَةُ أصْلٌ في اللِّعانِ، فَفِيها أنَّ شَرْطَهُ سَبْقُ قَذْفٍ. وأنَّهُ إنَّما يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لا بَيْنَ الرَّجُلِ وأجْنَبِيَّةٍ ولا السَّيِّدِ وأمَتِهِ. واسْتَدَلَّ بِعُمُومِها مَن قالَ بِلِعانِ الكُفّارِ والعَبِيدِ والخِصِيِّ والمَجْبُوبِ والمَحْدُودِ في القَذْفِ والأعْمى والأخْرَسِ، ومِنَ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لا تَحْمِلُ والآيِسَةِ. واسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَمْ يَكُنْ لَهم شُهَداءُ إلا أنْفُسُهُمْ﴾ [النور: ٦] مَن قالَ: لا لِعانَ إذا أقامَ البَيِّنَةَ عَلى زِناها وبِقَوْلِهِ: ﴿فَشَهادَةُ أحَدِهِمْ﴾ [النور: ٦] مَن قالَ: إنَّ اللِّعانَ شَهادَةٌ لا يَمِينٌ. وقَوْلُهُ: ﴿أرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ﴾ [النور: ٦] إلَخْ فِيهِ أنَّ صِيغَتَهُ أنْ يَقُولَ: أشْهَدُ بِاللَّهِ إنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ، أرْبَعًا والخامِسَةَ أنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كانَ مِنَ الكاذِبِينَ فاسْتَدَلَّ بِهِ مَن لَمْ يُجِزْ إبْدالَ أشْهَدُ (بِأحْلِفُ أوْ أُقْسِمُ ونَحْوَهُ ) أوِ اللَّهِ (بِالرَّحْمَنِ ونَحْوِهِ ) أوْ زادَ (بِعِلْمِ اللَّهِ ونَحْوِهِ ) ومَن لَمْ يُوجِبْ زِيادَةَ: (الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو )، ومَن لَمْ يُجِزْ إسْقاطَ: إنِّي لَمِنَ الصّادِقِينَ، ولا إبْدالُها بِما كَذَبْتُ عَلَيْها ونَحْوِهِ ولا الِاكْتِفاءُ بِدُونِ أرْبَعٍ، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ، في اكْتِفائِهِ بِثَلاثِ شَهاداتٍ. ولا تَقْدِيمُ اللَّعْنَةِ عَلى الشَّهادَةِ، أوْ تَوَسُّطُها، أوْ إبْدالُها بِالغَضَبِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ﴾ الآيَةَ، فِيهِ أنَّ لِعانَهُ يُوجِبُ عَلى المَرْأةِ حَدَّ الزِّنى وأنَّ لَها دَفْعَهُ بِأنْ تَقُولَ أرْبَعَ مَرّاتٍ. أشْهَدُ بِاللَّهِ إنَّهُ لِمَنِ الكاذِبِينَ، والخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إلَخْ. وفِيهِ أيْضًا أنَّهُ لا يَجُوزُ لَها أنْ تُبْدِلَ أشْهَدُ (بِأحْلِفُ ) أوِ الغَضَبَ (بِاللَّعْنَةِ ) إلى آخِرِ ما تَقَدَّمَ. واسْتُدِلَّ بِهِ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ تَقْدِيمُ لِعانِها عَلى لِعانِهِ. انْتَهى. (p-٤٤٥٨)الرّابِعُ: اعْلَمْ أنَّ الحَدَّ الواجِبَ بِالزِّنى نَوْعانِ: جَلْدٌ ورَجْمٌ. فالجَلْدُ حَدُّ البِكْرَيْنِ الحُرَّيْنِ إذا زَنَيا. فَيُجْلَدُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. وفي تَغْرِيبِهِما سَنَةً، وتَغْرِيبِ الزّانِي وحْدَهُ كَذَلِكَ، خِلافٌ. نَعَمْ، إذا رَآهُ الإمامُ مَصْلَحَةً فَلا خِلافَ في إمْضائِهِ. والرَّجْمُ حَدُّ الزّانِيَيْنِ المُحْصَنَيْنِ. والإحْصانُ عِبارَةٌ عَنِ البُلُوغِ والعَقْلِ والحُرِّيَّةِ والدُّخُولِ في النِّكاحِ الصَّحِيحِ. فَلا يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ، بَلْ يُنَكَّلُ بِالرَّجْمِ، لا بِصَخْرَةٍ تُدَفِّفُ، ولا بِحَصَياتٍ تُعَذِّبُ، بَلْ بِحِجارَةٍ مُعْتَدِلَةٍ، كَما في (الوَجِيزِ ") وقَدِ اعْتَرَضَ جَماعَةُ الخَوارِجِ عَلى تَشْرِيعِ الرَّجْمِ في الإسْلامِ وقالُوا: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ في كِتابِهِ العَزِيزِ. فالَّذِي ورَدَ في عِقابِ الزِّنى في القُرْآنِ حُكْمانِ. أحَدُهُما قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكم فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكم فَإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا﴾ [النساء: ١٥] ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكم فَآذُوهُما فَإنْ تابا وأصْلَحا فَأعْرِضُوا عَنْهُما﴾ [النساء: ١٦] وهَذا الحُكْمُ قَدْ نُسِخَ - أيْ: بُيِّنَ - بِالحُكْمِ الثّانِي وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ولا تَأْخُذْكم بِهِما رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ولْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٢] هَذِهِ حُجَّةُ الخَوارِجِ. أمّا حُجَّةُ الإجْماعِ فَهي وُرُودُ الآثارِ الصَّحِيحَةِ الدّالَّةِ عَلى «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ بِرَجْمِ المُحْصَنِ»، وفَعَلَهُ. ورُوِيَ لِذَلِكَ جُمْلَةُ أحادِيثَ وأحْكامٍ عَنِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم، كَذا في كِتابِ (المُقابَلاتِ ") وسَبَقَهُ الرّازِيُّ في (تَفْسِيرِهِ ") فَطَوَّلَ النَّفَسَ في سَوْقِ شُبْهَةِ الخَوارِجِ، وأجابَ عَنْها بِما مُلَخَّصُهُ: أنَّ الآيَةَ المَذْكُورَةَ مَخْصُوصَةٌ بِالبِكْرِ، خَصَّصَها بِالخَبَرِ المُتَواتِرِ بِالرَّجْمِ، وتَخْصِيصُ القُرْآنِ الكَرِيمِ بِخَبَرِ الواحِدِ جائِزٌ. فَأوْلى بِالمُتَواتِرِ. وثانِيًا - قالَ - إنَّهُ لا يُسْتَبْعَدُ تَجَدُّدُ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ بِحَسَبِ تَجَدُّدِ المَصالِحِ. فَلَعَلَّ المَصْلَحَةَ الَّتِي تَقْتَضِي وُجُوبَ الرَّجْمِ، حَدَثَتْ بَعْدَ نُزُولِ تِلْكَ الآياتِ. انْتَهى. قالَ صاحِبُ (المُقابَلاتِ "): إنَّ الشَّرِيعَةَ الإسْلامِيَّةَ مُتَّفِقَةٌ مَعَ الشَّرْعِ العِبْرِيِّ في أغْلَبِ أحْكامِ الزِّنى، ولَمْ يَرِدْ في الدِّيانَةِ المَسِيحِيَّةِ نَصٌّ صَرِيحٌ يَنْسَخُ حُكْمَ اليَهُودِيَّةِ في الزِّنى. ولَكِنْ يُرْوى (p-٤٤٥٩)عَنْ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ما يُؤْخَذُ مِنهُ ضِمْنًا، عَدَمُ إمْكانِ إقامَةِ حَدِّ الرَّجْمِ. لِأنَّهُ اشْتَرَطَ بَراءَةَ الرّاجِمِينَ مِن كُلِّ عَيْبٍ، وأمَرَ الزّانِيَةَ، الَّتِي اعْتَرَفَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، بِالتَّوْبَةِ والِاسْتِغْفارِ. أمّا حُكْمُ الزِّنى في القَوانِينِ الحَدِيثَةِ فَيُخالِفُ مُخالَفَةً كُلِّيَّةً لِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ الغَرّاءِ، وحُكْمِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ. انْتَهى كَلامُهُ. وفَّقَنا اللَّهُ لِحِفْظِ حُدُودِهِ، وجَنَّبَنا مَحارِمَهُ بِمَنِّهِ وكَرَمِهِ. التَّنْبِيهُ الرّابِعُ: مِن مَباحِثِ اللَّفْظِ في الآيَةِ أنْ يُقالَ: قَدْ ورَدَتِ الفاصِلَةُ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ بِـ(تَوّابٍ رَحِيمٍ ) فَعَلامَ فُصِلَتْ هُنا بِـ(تَوّابٍ حَكِيمٍ ) مَعَ أنَّ التَّوْبَةَ مَعَ الرَّحْمَةِ، فِيما يَظْهَرُ ؟ و(الجَوابُ ): أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ حَكَمَ بِالتَّلاعُنِ عَلى الصُّورَةِ الَّتِي أمَرَ بِها. وأرادَ بِذَلِكَ سَتْرَ هَذِهِ الفاحِشَةِ عَلى عِبادِهِ. وذَلِكَ حِكْمَةٌ مِنهُ. فَفُصِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِـ(تَوّابٍ حَكِيمٍ ) إثْرَ بَيانِ الحُكْمِ. جَمْعًا بَيْنَ التَّوْبَةِ المَرْجُوَّةِ مِن صاحِبِ المَعْصِيَةِ، وبَيْنَ الحِكْمَةِ في سَتْرِها عَلى تِلْكَ الصُّورَةِ. فافْهَمْ ذَلِكَ. أشارَ لَهُ ابْنُ الأثِيرِ في (المَثَلِ السّائِرِ ") . ثُمَّ أشارَ تَعالى إلى نَبَأِ الإفْكِ، وتَبْرِئَةِ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب