الباحث القرآني

﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ المَحِيضِ﴾، في صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ أنَسٍ أنَّ اليَهُودَ كانَتْ إذا حاضَتِ امْرَأةٌ مِنهم أخْرَجُوها مِنَ البَيْتِ، ولَمْ يُؤاكِلُوها، ولَمْ يُشارِبُوها، ولَمْ يُجامِعُوها في البَيْتِ، فَسَألُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ. وقِيلَ: كانَتِ العَرَبُ عَلى ما جاءَ في هَذا الحَدِيثِ، فَسَألَ أبُو الدَّحْداحِ عَنْ ذَلِكَ، فَقالَ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِالنِّساءِ إذا حِضْنَ ؟ فَنَزَلَتْ. وقالَ مُجاهِدٌ: كانُوا يَأْتُونَ الحُيَّضَ اسْتَثْنَوْا سُنَّةَ بَنِي إسْرائِيلَ في تَجَنُّبِ مُؤاكَلَةِ الحُيَّضِ ومُساكَنَتِها؛ فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: كانَتِ النَّصارى يُجامِعُونَ الحُيَّضَ ولا يُبالُونَ بِالحَيْضِ، واليَهُودُ يَعْتَزِلُونَهُنَّ في كُلِّ شَيْءٍ، فَأمَرَ اللَّهُ بِالِاقْتِصادِ بَيْنَ الأمْرَيْنِ. وقِيلَ: سَألَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وعَبّادُ بْنُ بَشِيرٍ عَنِ المَحِيضِ؛ فَنَزَلَتْ. وقِيلَ كانَتِ اليَهُودُ تَقُولُ: مَن أتى امْرَأةً مِن دُبُرِها جاءَ ولَدُهُ أحْوَلَ، فامْتَنَعَ نِساءُ الأنْصارِ مِن ذَلِكَ، وسُئِلَ عَنْ إتْيانِ الرَّجُلِ امْرَأتَهُ وهي حائِضٌ، وما قالَتِ اليَهُودُ؛ فَنَزَلَتْ. والضَّمِيرُ في ”ويَسْألُونَكَ“ ضَمِيرُ جَمْعٍ، فالظّاهِرُ أنَّ السّائِلَ عَنْ ذَلِكَ هو ما يَصْدُقُ عَلَيْهِ الجَمْعُ، لا اثْنانِ ولا واحِدٌ، وجاءَ: ويَسْألُونَكَ هُنا، وقَبْلَهُ في: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ اليَتامى﴾ [البقرة: ٢٢٠]، وقَبْلَهُ: (p-١٦٧)﴿ويَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ العَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] بِالواوِ العاطِفَةِ عَلى: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ﴾ [البقرة: ٢١٩]، قِيلَ: لِأنَّ السُّؤالَ عَنِ الثَّلاثَةِ في وقْتٍ واحِدٍ؛ فَجِيءَ بِحَرْفِ الجَمْعِ لِذَلِكَ، كَأنَّهُ قِيلَ: جَمَعُوا لَكَ بَيْنَ السُّؤالِ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ، والسُّؤالِ عَنْ كَذا وكَذا. وقِيلَ هَذِهِ سُؤالاتٌ ثَلاثَةٌ بِغَيْرِ واوٍ: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ﴾ [البقرة: ١٨٩]، ﴿يَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ﴾ [البقرة: ٢١٥]، ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ﴾ [البقرة: ٢١٧]، وثَلاثَةٌ: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الخَمْرِ﴾ [البقرة: ٢١٩]، قِيلَ: إنَّها جاءَتْ بِغَيْرِ واوِ العَطْفِ لِأنَّ سُؤالَهم عَنْ تِلْكَ الحَوادِثِ وقَعَ في أوْقاتٍ مُتَبايِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ، فَلَمْ يُؤْتَ فِيها بِحَرْفِ العَطْفِ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنها سُؤالٌ مُبْتَدَأٌ. انْتَهى. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها هو أنَّهُ لَمّا نَهى عَنْ مُناكَحَةِ الكُفّارِ، وتَضَمَّنَ مُناكَحَةَ أهْلِ الإيمانِ وإيثارَ ذَلِكَ، بَيَّنَ حُكْمًا عَظِيمًا مِن أحْكامِ النِّكاحِ، وهو حُكْمُ النِّكاحِ في زَمانِ الحَيْضِ. والمَحِيضُ - كَما قَرَّرْناهُ - هو مَفْعَلٌ مِنَ الحَيْضِ، يَصْلُحُ مِن حَيْثُ اللُّغَةِ لِلْمَصْدَرِ والزَّمانِ والمَكانِ، فَأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ مِنَ الأُدَباءِ زَعَمُوا أنَّ المُرادَ بِهِ المَصْدَرُ، وكَأنَّهُ قِيلَ: عَنِ الحَيْضِ، وبِهِ فَسَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وبِهِ بَدَأ ابْنُ عَطِيَّةَ قالَ: المَحِيضُ مَصْدَرٌ كالحَيْضِ، ومِثْلُهُ المَقِيلُ مِن قالَ يَقِيلُ، قالَ الرّاعِي: ؎بُنِيَتْ مَرافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ لا يَسْتَطِيعُ بِها القُرادُ مَقِيلا وقالَ الطَّبَرِيُّ: المَحِيضُ: اسْمُ الحَيْضِ، ومِثْلُهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ في العَيْشِ: ؎إلَيْكَ أشْكُو شِدَّةَ المَعِيشِ ∗∗∗ ومَرَّ أعْوامٍ نَتَفْنَ رِيشِي انْتَهى كَلامُهُ. ويَظْهَرُ مِنهُ أنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِ: المَحِيضُ مَصْدَرٌ كالحَيْضِ، وبَيْنَ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ: المَحِيضُ اسْمُ الحَيْضِ، ولا فَرْقَ بَيْنَهُما، يُقالُ فِيهِ مَصْدَرٌ، ويُقالُ فِيهِ اسْمُ مَصْدَرٍ، والمَعْنى واحِدٌ. والقَوْلُ بِأنَّ المَحِيضَ مَصْدَرٌ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو مَوْضِعُ الدَّمِ، وبِهِ قالَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ؛ فَعَلى هَذا يَكُونُ المُرادُ مِنهُ المَكانُ، ورَجَّحَ كَوْنَهُ مَكانَ الدَّمِ بِقَوْلِهِ: ﴿فاعْتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ﴾، فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ المَصْدَرُ لَكانَ الظّاهِرُ مَنعَ الِاسْتِمْتاعِ بِها فِيما فَوْقَ السُّرَّةِ ودُونَ الرُّكْبَةِ غَيْرُ ثابِتٍ؛ لَزِمَ القَوْلُ بِتَطَرُّقِ النَّسْخِ، أوِ التَّخْصِيصِ، وذَلِكَ خِلافُ الأصْلِ، فَإذا حُمِلَ عَلى مَوْضِعِ الحَيْضِ كانَ المَعْنى: فاعْتَزِلُوا النِّساءَ في مَوْضِعِ الحَيْضِ. قالُوا واسْتِعْمالُهُ في المَوْضِعِ أكْثَرُ وأشْهَرُ مِنهُ في المَصْدَرِ. انْتَهى. ويُمْكِنُ أنْ يُرَجَّحَ المَصْدَرُ بِقَوْلِهِ: ﴿قُلْ هو أذًى﴾، ومَكانُ الدَّمِ نَفْسُهُ لَيْسَ بِأذًى؛ لِأنَّ الأذى كَيْفِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ، وهو عَرَضٌ، والمَكانُ جِسْمٌ، والجِسْمُ لا يَكُونُ عَرَضًا. وأُجِيبُ عَنْ هَذا بِأنَّهُ يَكُونُ عَلى حَذْفٍ إذا أُرِيدَ المَكانُ، أيْ: ذُو أذًى. والخِطابُ في ”ويَسْألُونَكَ“، وفي ”قُلْ“ لِلنَّبِيِّ ﷺ والضَّمِيرُ في ”هو“ عائِدٌ عَلى المَحِيضِ، والمَعْنى: أنَّهُ يَحْصُلُ نَفْرَةٌ لِلْإنْسانِ واسْتِقْذارٌ بِسَبَبِهِ. ﴿فاعْتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ﴾، تَقَدَّمَ الخِلافُ في المَحِيضِ، أهُوَ مَوْضِعُ الدَّمِ أمِ الحَيْضُ ؟ ويُحْتَمَلُ أنْ يُحْمَلَ الأوَّلُ عَلى المَصْدَرِ، والثّانِي عَلى المَكانِ، وإنْ حَمَلْنا الثّانِيَ عَلى المَصْدَرِ فَلا بُدَّ مِن حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: فاعْتَزِلُوا وطْءَ النِّساءِ في زَمانِ الحَيْضِ. واخْتُلِفَ في هَذا الِاعْتِزالِ، فَذَهَبَ ابْنُ عَبّاسٍ، وشُرَيْحٌ، وابْنُ جُبَيْرٍ، ومالِكٌ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ، وجَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّهُ يَجِبُ اعْتِزالُ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الإزارُ، ويُعَضِّدُهُ ما صَحَّ أنَّها: (تَشُدُّ عَلَيْها إزارَها ثُمَّ شَأْنُهُ بِأعْلاها) . وذَهَبَتْ عائِشَةُ، والشَّعْبِيُّ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، والثَّوْرِيُّ، ومُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ، وداوُدُ إلى أنَّهُ لا يَجِبُ إلّا اعْتِزالُ الفَرْجِ فَقَطْ، وهو الصَّحِيحُ مِن قَوْلِ الشّافِعِيِّ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وعَبِيدَةَ السَّلْمانِيِّ أنَّهُ يَجِبُ اعْتِزالُ الرَّجُلِ فِراشَ زَوْجَتِهِ إذا حاضَتْ، أخْذٌ بِظاهِرِ الآيَةِ، وهو قَوْلٌ شاذٌّ. ولَمّا كانَ الحَيْضُ مَعْرُوفًا في اللُّغَةِ؛ لَمْ يَحْتَجْ إلى تَفْسِيرٍ، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِأقَلِّهِ ولا لِأكْثَرِهِ، بَلْ دَلَّتْ عَلى وُجُوبِ اعْتِزالِ النِّساءِ في المَحِيضِ، وأقَلُّهُ عِنْدَ مالِكٍ لا حَدَّ لَهُ، بَلِ الدَّفْعَةُ مِنَ الدَّمِ عِنْدَهُ حَيْضٌ، والصُّفْرَةُ والكُدْرَةُ حَيْضٌ. والمَشْهُورُ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّ أقَلَّهُ ثَلاثَةُ أيّامٍ، وبِهِ قالَ الثَّوْرِيُّ. وقالَ عَطاءٌ (p-١٦٨)والشّافِعِيُّ: يَوْمٌ ولَيْلَةٌ. وأمّا أكْثَرُهُ فَقالَ عَطاءٌ، والشّافِعِيُّ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وقالَ الثَّوْرِيُّ: عَشَرَةُ أيّامٍ، وهو المَشْهُورُ عَنْ أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ. ومَذْهَبُ مالِكٍ في ذَلِكَ كَقَوْلِ عَطاءٍ، وخَرَجَ مِن قَوْلِ نافِعٍ سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وقِيلَ: ثَمانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وقالَ القُرْطُبِيُّ: رُوِيَ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ لا وقْتَ لِقَلِيلِ الحَيْضِ ولا كَثِيرِهِ إلّا ما يُوجَدُ في النِّساءِ عادَةً. ورُوِيَ عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّ ذَلِكَ مَرْدُودٌ إلى عُرْفِ النِّساءِ، كَقَوْلِ مالِكٍ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ: الحَيْضُ إلى ثَلاثَةَ عَشَرَ، فَإذا زادَ فَهو اسْتِحاضَةٌ. وجَمِيعُ دَلائِلِ هَذا وبَقِيَّةُ أحْكامِ الحَيْضِ مَذْكُورٌ في كُتُبِ الفِقْهِ. ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِما يَجِبُ عَلى مَن وطِئَ في الحَيْضِ، واخْتَلَفَ في ذَلِكَ العُلَماءُ؛ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ، ومالِكٌ، ويَحْيى بْنُ سَعِيدٍ، والشّافِعِيُّ، وداوُدُ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ولا شَيْءَ عَلَيْهِ، وقالَ مُحَمَّدٌ: يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ دِينارٍ، وقالَ أحْمَدُ: يَتَصَدَّقُ بِدِينارٍ أوْ نِصْفِ دِينارٍ، واسْتَحْسَنَهُ الطَّبَرِيُّ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ بِ بَغْدادَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ مِن أهْلِ الحَدِيثِ: إنْ وطِئَ في الدَّمِ فَدِينارٌ، أوْ في انْقِطاعِهِ فَنِصْفُهُ، ونَقَلَ هَذا القَوْلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الأوْزاعِيِّ، ونَقَلَ غَيْرُهُ عَنِ الأوْزاعِيِّ أنَّهُ إنْ وطِئَ وهي حائِضٌ يَتَصَدَّقُ بِخَمْسِينَ دِينارًا. وفي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ ﷺ قالَ: (إذا كانَ دَمًا أحْمَرَ فَدِينارٌ، وإنْ كانَ دَمًا أصْفَرَ فَنِصْفُ دِينارٍ) . ﴿ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ﴾، قَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وعاصِمٌ في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ والمُفَضَّلِ عَنْهُ ”يَطَّهَّرْنَ“ بِتَشْدِيدِ الطّاءِ والهاءِ والفَتْحِ، وأصْلُهُ ”يَتَطَهَّرْنَ“، وكَذا هي في مُصْحَفِ أُبَيٍّ، وعَبْدِ اللَّهِ. وقَرَأ الباقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ ”يَطْهُرْنَ“: مُضارِعُ طَهُرَ. وفي مُصْحَفِ أنَسٍ: ”ولا تَقْرَبُوا النِّساءَ في مَحِيضِهِنَّ واعْتَزِلُوهُنَّ حَتّى يَتَطَهَّرْنَ“، ويَنْبَغِي أنْ يُحْمَلَ هَذا عَلى التَّفْسِيرِ لا عَلى أنَّهُ قُرْآنٌ؛ لِكَثْرَةِ مُخالَفَتِهِ السَّوادَ، ورَجَّحَ الفارِسِيُّ ”يَطْهُرْنَ“ بِالتَّخْفِيفِ؛ إذْ هو ثُلاثِيٌّ مُضادٌّ لِطَمِثَتْ وهو ثُلاثِيٌّ. ورَجَّحَ الطَّبَرِيُّ التَّشْدِيدَ، وقالَ: هي بِمَعْنى تَغْتَسِلْنَ لِإجْماعِ الجَمِيعِ عَلى أنَّهُ حَرامٌ عَلى الرَّجُلِ أنْ يَقْرَبَ امْرَأتَهُ بَعْدَ انْقِطاعِ الدَّمِ حَتّى تَطْهُرَ، قالَ: وإنَّما الخِلافُ في الطُّهْرِ ما هو. انْتَهى كَلامُهُ. قِيلَ: وقِراءَةُ التَّشْدِيدِ مَعْناها حَتّى يَغْتَسِلْنَ، وقِراءَةُ التَّخْفِيفِ مَعْناها يَنْقَطِعُ دَمُهُنَّ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ، وفي كِتابِ ابْنِ عَطِيَّةَ: كُلُّ واحِدٍ مِنَ القِراءَتَيْنِ يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِها الِاغْتِسالُ بِالماءِ، وأنْ يُرادَ بِها انْقِطاعُ الدَّمِ وزَوالُ أذاهُ، قالَ: وما ذَهَبَ إلَيْهِ الطَّبَرِيُّ مِن أنَّ قِراءَةَ تَشْدِيدِ الطّاءِ مُضَمَّنُها الِاغْتِسالُ، وقِراءَةَ التَّخْفِيفِ مُضَمَّنُها انْقِطاعُ الدَّمِ؛ أمْرٌ غَيْرُ لازِمٍ، وكَذَلِكَ ادِّعاؤُهُ الإجْماعَ أنَّهُ لا خِلافَ في كَراهَةِ الوَطْءِ قَبْلَ الِاغْتِسالِ. انْتَهى ما في كِتابِ ابْنِ عَطِيَّةَ. وقَوْلُهُ: ﴿ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ﴾ هو كِنايَةٌ عَنِ الجِماعِ، ومُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: ﴿فاعْتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ﴾ . وظاهِرُ الِاعْتِزالِ والقُرْبانِ أنَّهُما لا يَتَماسّانِ، ولَكِنْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ أنَّهُ اعْتِزالٌ وقُرْبانٌ خاصٌّ، ومِنَ اخْتِلافِهِمْ في أقَلِّ الحَيْضِ وأكْثَرِهِ يُعْرَفُ اخْتِلافُهم في أقَلِّ الطُّهْرِ وأكْثَرِهِ. ﴿فَإذا تَطَهَّرْنَ﴾، أيِ: اغْتَسَلْنَ بِالماءِ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: والخِلافُ في مَعْناهُ كَما تَقَدَّمَ مِنَ التَّطْهِيرِ بِالماءِ أوِ انْقِطاعِ الدَّمِ، وقالَ مُجاهِدٌ وجَماعَةٌ هُنا: إنَّهُ أُرِيدَ الغُسْلُ بِالماءِ، ولا بُدَّ لِقَرِينَةِ الأمْرِ بِالإتْيانِ، وإنْ كانَ قُرْبُهُنَّ قَبْلَ الغُسْلِ مُباحًا، لَكِنْ لا تَقَعُ صِيغَةُ الأمْرِ مِنَ اللَّهِ تَعالى إلّا عَلى الوَجْهِ الأكْمَلِ، وإذا كانَ التَّطَهُّرُ الغُسْلَ بِالماءِ، فَمَذْهَبُ مالِكٍ والشّافِعِيِّ وجَماعَةٍ أنَّهُ كَغُسْلِ الجَنابَةِ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةَ، والحَسَنِ. وقالَ طاوُسٌ، ومُجاهِدٌ: الوُضُوءُ كافٍ في إباحَةِ الوَطْءِ. وذَهَبَ الأوْزاعِيُّ إلى أنَّ المُبِيحَ لِلْوَطْءِ: هو غَسْلُ مَحَلِّ الوَطْءِ بِالماءِ، وبِهِ قالَ ابْنُ حَزْمٍ. وسَبَبُ الخِلافِ أنْ يُحْمَلَ التَّطَهُّرُ بِالماءِ عَلى التَّطَهُّرِ الشَّرْعِيِّ أوِ اللُّغَوِيِّ، فَمَن حَمَلَهُ عَلى اللُّغَوِيِّ قالَ: تَغْسِلُ مَكانَ الأذى بِالماءِ، ومَن حَمَلَهُ عَلى الشَّرْعِيِّ حَمَلَهُ عَلى أخَفِّ النَّوْعَيْنِ وهو الوُضُوءُ؛ لِمُراعاةِ الخِفَّةِ. أوْ عَلى أكْمَلِ النَّوْعَيْنِ، وهو أنْ تَغْتَسِلَ كَما تَغْتَسِلَ لِلْجَنابَةِ؛ إذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ البَراءَةُ مِنَ العُهْدَةِ. والِاغْتِسالُ بِالماءِ مُسْتَلْزِمٌ لِحُصُولِ انْقِطاعِ الدَّمِ؛ لِأنَّهُ لا يُشْرَعُ إلّا بَعْدَهُ. وإذا قُلْنا: لا بُدَّ (p-١٦٩)مِنَ الغُسْلِ كَغُسْلِ الجَنابَةِ، فاخْتُلِفَ في الذِّمِّيَّةِ: هَلْ تُجْبَرُ عَلى الغُسْلِ مِنَ الحَيْضِ ؟ فَمَن رَأى أنَّ الغُسْلَ عِبادَةٌ قالَ لا يَلْزَمُها؛ لِأنَّ نِيَّةَ العِبادَةِ لا تَصِحُّ مِنَ الكافِرِ، ومَن لَمْ يَرَ ذَلِكَ عِبادَةً، بَلِ الِاغْتِسالُ مِن حَقِّ الزَّوْجِ لِإحْلالِها لِلْوَطْءِ؛ قالَ: تُجْبَرُ عَلى الغُسْلِ. ومَن أوْجَبَ الغُسْلَ فَصِفَتُهُ ما رُوِيَ في الصَّحِيحِ عَنْ أسْماءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أنَّها سَألَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ غُسْلِ الحَيْضَةِ فَقالَ: (تَأْخُذُ إحْداكُنَّ ماءَها وسِدْرَها، وتَتَطَهَّرَ فَتُحْسِنُ الطَّهُورَ، ثُمَّ تَصُبُّ الماءَ عَلى رَأْسِها وتَضْغَطُهُ حَتّى يَبْلُغَ أُصُولَ شَعْرِها، ثُمَّ تَفِيضُ الماءَ عَلى سائِرِ بَدَنِها) . ﴿فَأْتُوهُنَّ﴾، هَذا أمْرٌ يُرادُ بِهِ الإباحَةُ، كَقَوْلِهِ: ﴿وإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا﴾ [المائدة: ٢]، ﴿فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فانْتَشِرُوا﴾ [الجمعة: ١٠]، وكَثِيرًا ما يَعْقُبُ أمْرُ الإباحَةِ التَّحْرِيمَ، وهو كِنايَةٌ عَنِ الجِماعِ. ﴿مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ﴾، حَيْثُ: ظَرْفُ مَكانٍ، فالمَعْنى مِنَ الجِهَةِ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ تَعالى، وهو القُبُلُ؛ لِأنَّهُ هو المَنهِيُّ عَنْهُ في حالِ الحَيْضِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والرَّبِيعُ. أوْ مِن قِبَلِ طُهْرِهِنَّ لا مِن قِبَلِ حَيْضِهِنَّ، قالَهُ عِكْرِمَةُ، وقَتادَةُ، والضَّحّاكُ، وأبُو رَزِينٍ، والسُّدِّيُّ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ويَصِيرُ المَعْنى: فَأْتُوهُنَّ في الطُّهْرِ لا في الحَيْضِ، أوْ مِن قِبَلِ النِّكاحِ لا مِن قِبَلِ الفُجُورِ، قالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الحَنَفِيَّةِ، أوْ مِن حَيْثُ أحَلَّ لَكم غِشْيانَهُنَّ بِأنْ لا يَكُنَّ صائِماتٍ ولا مُعْتَكِفاتٍ ولا مُحْرِماتٍ، قالَهُ الأصَمُّ. والأوَّلُ أظْهَرُ؛ لِأنَّ حَمْلَ ”حَيْثُ“ عَلى المَكانِ والمَوْضِعِ هو الحَقِيقَةُ، وما سِواهُ مَجازٌ. وإذا حُمِلَ عَلى الأظْهَرِ كانَ في ذَلِكَ رَدٌّ عَلى مَن أباحَ إتْيانَ النِّساءِ في أدْبارِهِنَّ، قِيلَ: وقَدِ انْعَقَدَ الإجْماعُ عَلى تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وما رُوِيَ مِن إباحَةِ ذَلِكَ عَنْ أحَدٍ مِنَ العُلَماءِ فَهو مُخْتَلِفٌ غَيْرُ صَحِيحٍ، والمَعْنى في: أمَرَكُمُ اللَّهُ بِاعْتِزالِهِنَّ وهو الفَرْجُ، أوْ مِنَ السُّرَّةِ إلى الرُّكْبَتَيْنِ. ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ﴾، أيِ: الرّاجِعِينَ إلى الخَيْرِ. وجاءَ عَقِبَ الأمْرِ والنَّهْيِ إيذانًا بِقَبُولِ تَوْبَةِ مَن يَقَعُ مِنهُ خِلافُ ما شُرِعَ لَهُ، وهو عامٌّ في التَّوّابِينَ مِنَ الذُّنُوبِ. ﴿ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾، أيِ: المُبَرَّئِينَ مِنَ الفَواحِشِ، وخَصَّهُ بَعْضُهم بِأنَّهُ التّائِبُ مِنَ الشِّرْكِ، والمُتَطَهِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، قالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. أوْ بِالعَكْسِ، قالَهُ عَطاءٌ، ومُقاتِلٌ. وبَعْضُهم خَصَّهُ بِالتّائِبِ مِنَ المُجامَعَةِ في الحَيْضِ. وقالَ مُجاهِدٌ: مِن إتْيانِ النِّساءِ في أدْبارِهِنَّ في أيّامِ حَيْضِهِنَّ. وقالَ أبُو العالِيَةِ: التَّوّابِينَ مِنَ الكُفْرِ المُتَطَهِّرِينَ بِالإيمانِ. وقالَ القَتّادُ: التَّوّابِينَ مِنَ الكَبائِرِ والمُتَطَهِّرِينَ مِنَ الصَّغائِرِ. وقِيلَ: التَّوّابِينَ مِنَ الذُّنُوبِ والمُتَطَهِّرِينَ مِنَ العُيُوبِ. وقالَ عَطاءٌ أيْضًا: المُتَطَهِّرِينَ بِالماءِ. وقِيلَ: مِن أدْبارِ النِّساءِ فَلا يَتَلَوَّثُونَ بِالذَّنْبِ بَعْدَ التَّوْبَةِ، كَأنَّ هَذا القَوْلَ نَظِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعالى - حِكايَةً عَنْ قَوْمِ لُوطٍ: ﴿أخْرِجُوهم مِن قَرْيَتِكم إنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٨٢] . والَّذِي يَظْهَرُ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في صَدْرِ الآيَةِ: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ المَحِيضِ﴾، ودَلَّ السَّبَبُ عَلى أنَّهم كانَتْ لَهم حالَةٌ يَرْتَكِبُونَها حالَةَ الحَيْضِ، مِن مُجامَعَتِهِنَّ في الحَيْضِ في الفَرْجِ، أوْ في الدُّبُرِ، ثُمَّ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِالمَنعِ مِن ذَلِكَ - وذَلِكَ في حالَةِ الحَيْضِ - في الفَرْجِ أوْ في الدُّبُرِ، ثُمَّ أباحَ الإتْيانَ في الفَرْجِ بَعْدَ انْقِطاعِ الدَّمِ والتَّطَهُّرِ الَّذِي هو واجِبٌ عَلى المَرْأةِ لِأجْلِ الزَّوْجِ، وإنْ كانَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ في لَفْظِ الآيَةِ، فَأثْنى اللَّهُ تَعالى عَلى مَنِ امْتَثَلَ أمْرَ اللَّهِ تَعالى، ورَجَعَ عَنْ فِعْلِ الجاهِلِيَّةِ إلى ما شَرَعَهُ تَعالى، وأثْنى عَلى مَنِ امْتَثَلَتْ أمْرَهُ تَعالى في مَشْرُوعِيَّةِ التَّطَهُّرِ بِالماءِ، وأبْرَزَ ذَلِكَ في صُورَتَيْنِ عامَّتَيْنِ، اسْتَدْرَجَ الأزْواجَ والزَّوْجاتِ في ذَلِكَ؛ فَقالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ﴾، أيِ: الرّاجِعِينَ إلى ما شَرَعَ، ﴿ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ﴾ بِالماءِ فِيما شُرِعَ فِيهِ ذَلِكَ، فَكانَ خَتْمُ الآيَةِ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ مَنِ انْدَرَجَ فِيهِ الأزْواجُ والزَّوْجاتُ. وذَكَرَ الفِعْلَ لِيَدُلَّ عَلى اخْتِلافِ الجِهَتَيْنِ مِنَ التَّوْبَةِ والتَّطَهُّرِ، وأنَّ لِكُلٍّ مِنَ الوَصْفَيْنِ مَحَبَّةً مِنَ اللَّهِ يَخُصُّ ذَلِكَ الوَصْفَ، أوْ كَرَّرَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. وقَدْ أثْنى اللَّهُ تَعالى عَلى أهْلِ قُباءَ بِقَوْلِهِ: ﴿فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أنْ يَتَطَهَّرُوا واللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: ١٠٨] . وسَألَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي أثْنى اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقالُوا: كُنّا نَجْمَعُ (p-١٧٠)بَيْنَ الِاسْتِجْمارِ والِاسْتِنْجاءِ بِالماءِ، أوْ كَلامًا هَذا مَعْناهُ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: ”المُطَّهِّرِينَ“ بِإدْغامِ التّاءِ في الطّاءِ، إذْ أصْلُهُ المُتَطَهِّرِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب