الباحث القرآني

﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ المَحِيضِ﴾ أخْرَجَ الإمامُ أحْمَدُ ومُسْلِمٌ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ وغَيْرُهم عَنْ أنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ-: «أنَّ اليَهُودَ كانُوا إذا (p-121)حاضَتِ المَرْأةُ مِنهم أخْرَجُوها مِنَ البَيْتِ ولَمْ يُؤاكِلُوها ولَمْ يُشارِبُوها ولَمْ يُجامِعُوها في البُيُوتِ، فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقالَ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: جامِعُوهُنَّ في البُيُوتِ، واصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إلّا النِّكاحَ”». وعَنِ السُّدِّيِّ: إنَّ الَّذِي سَألَ عَنْ ذَلِكَ ثابِتُ بْنُ الدَّحْداحِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى ما تَقَدَّمَ مِن مِثْلِها، ووَجْهُ مُناسَبَتِها لَهُ أنَّهُ لَمّا نَهى عَنْ مُناكَحَةِ الكُفّارِ ورَغَّبَ في مُناكَحَةِ أهْلِ الإيمانِ بَيَّنَ حُكْمًا عَظِيمًا مِن أحْكامِ النِّكاحِ، وهو حُكْمُ النِّكاحِ في الحَيْضِ، ولَعَلَّ حِكايَةَ هَذِهِ الأسْئِلَةِ الثَّلاثَةِ بِالعَطْفِ لِوُقُوعِ الكُلِّ في وقْتٍ واحِدٍ عُرْفِيٌّ، وهو وقْتُ السُّؤالِ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: يَجْمَعُونَ لَكَ بَيْنَ السُّؤالِ عَنْهُما والسُّؤالِ عَنْ كَذا وكَذا؛ وحِكايَةُ ما عَداها بِغَيْرِ عَطْفٍ لِكَوْنِها كانَتْ في أوْقاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَكانَ كُلُّ واحِدٍ سُؤالًا مُبْتَدَأً، ولَمْ يُقْصَدِ الجَمْعُ بَيْنَهُما بَلِ الإخْبارُ عَنْ كُلِّ واحِدٍ عَلى حِدَةٍ، فَلِهَذا لَمْ يُورِدِ الواوَ بَيْنَها، وقالَ صاحِبُ الِانْتِصافِ في بَيانِ العَطْفِ والتَّرْكِ: إنَّ أوَّلَ المَعْطُوفاتِ عَيَّنَ الأوَّلَ مِنَ المُجَرَّدَةِ، ولَكِنْ وقَعَ جَوابُهُ أوَّلًا بِالمَصْرِفِ لِأنَّهُ الأهَمُّ، وإنْ كانَ المَسْؤُولُ عَنْهُ إنَّما هو المُنْفَقُ لا جِهَةُ مَصْرِفِهِ ثُمَّ لَمّا لَمْ يَكُنْ في الجَوابِ الأوَّلِ تَصْرِيحٌ بِالمَسْؤُولِ عَنْهُ أُعِيدَ السُّؤالُ لِيُجابُوا عَنِ المَسْؤُولِ عَنْهُ صَرِيحًا، وهو العَفْوُ الفاضِلُ فَتَعَيَّنَ إذا عَطَفَهُ لِيَرْتَبِطَ بِالأوَّلِ، وأمّا السُّؤالُ الثّانِي مِنَ المَقْرُونَةِ فَقَدْ وقَعَ عَنْ أحْوالِ اليَتامى، وهَلْ يَجُوزُ مُخالَطَتُهم في النَّفَقَةِ والسُّكْنى، فَكانَ لَهُ مُناسَبَةٌ مَعَ النَّفَقَةِ بِاعْتِبارِ أنَّهم إذا خالَطُوهم أنْفَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلِذا عَطَفَ عَلى سُؤالِ الإنْفاقِ، وأمّا السُّؤالُ الثّالِثُ فَلَمّا كانَ مُشْتَمِلًا عَلى اعْتِزالِ الحَيْضِ ناسَبَ عَطْفَهُ عَلى ما قَبْلَهُ لِما فِيهِ مِن بَيانِ ما كانُوا يَفْعَلُونَهُ مِنَ اعْتِزالِ اليَتامى، وإذا اعْتُبِرَتِ الأسْئِلَةُ المُجَرَّدَةُ مِنَ الواوِ لَمْ تَجِدْ بَيْنَها مُداناةً ولا مُناسَبَةً ألْبَتَّةَ؛ إذِ الأوَّلُ مِنها عَنِ النَّفَقَةِ والثّانِي عَنِ القِتالِ في الشَّهْرِ الحَرامِ والثّالِثُ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ وبَيْنَها مِنَ التَّبايُنِ والتَّقاطُعِ ما لا يَخْفى، فَذُكِرَتْ كَذَلِكَ مُرْسَلَةً مُتَقاطِعَةً غَيْرَ مَرْبُوطَةٍ بَعْضَها بِبَعْضٍ، وهَذا مِن بَدائِعِ البَيانِ الَّذِي لا تَجِدُهُ إلّا في الكِتابِ العَزِيزِ. ولا أرى القَلْبَ يَطْمَئِنُّ بِهِ كَما لا يَخْفى عَلى مَن أحاطَ خُبْرًا بِما ذَكَرْناهُ فَتَدَبَّرْ، والمَحِيضُ كَما قالَ الزَّجّاجُ - وعَلَيْهِ الكَثِيرُ-: مَصْدَرُ حاضَتِ المَرْأةُ تَحِيضُ حَيْضًا ومَحاضًا فَهو كالمَجِيءِ والمَبِيتِ، وأصْلُهُ السَّيَلانُ، يُقالُ: حاضَ السَّيْلُ وفاضَ، قالَ الأزْهَرِيُّ: ومِنهُ قِيلَ: لِلْحَوْضِ حَوْضٌ؛ لِأنَّ الماءَ يَحِيضُ إلَيْهِ؛ أيْ يَسِيلُ، والعَرَبُ تُدْخِلُ الواوَ عَلى الياءِ؛ لِأنَّهُما مِن جِنْسٍ واحِدٍ، وقِيلَ: إنَّهُ هُنا اسْمُ مَكانٍ، ونُسِبَ إلى ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما - . وحَكى الواحِدِيُّ عَنِ ابْنِ السِّكِّيتِ: أنَّهُ إذا كانَ الفِعْلُ مِن ذَواتِ الثَّلاثَةِ نَحْوَ كالَ يَكِيلُ، وحاضَ يَحِيضُ، فاسْمُ المَكانِ مِنهُ مَكْسُورٌ، والمَصْدَرُ مِنهُ مَفْتُوحٌ، وحَكى غَيْرُهُ عَنْ غَيْرِهِ التَّخْيِيرَ في مِثْلِهِ، بَلْ قِيلَ: إنَّ الكَسْرَ والفَتْحَ جائِزانِ في اسْمِ الزَّمانِ والمَكانِ والمَصْدَرِ وعَلى ما نُسِبَ لِلتُّرْجُمانِ، واخْتارَهُ الإمامُ يَحْتاجُ إلى الحَذْفِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ هو أذًى﴾ أيْ: مَوْضِعِ أذى، وكَذا يَحْتاجُ إلى اعْتِبارِ الزَّمانِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فاعْتَزِلُوا النِّساءَ في المَحِيضِ﴾ لِرَكاكَةِ قَوْلِنا: فاعْتَزِلُوا في مَوْضِعِ الحَيْضِ، وإنِ اخْتارَهُ الإمامُ، وقالَ: إنَّ المَعْنى: اعْتَزِلُوا مَواضِعَ الحَيْضِ، والأذى مَصْدَرُ مِن أذاهُ يُؤْذِيهِ إذًا وإذاءً، ولا يُقالُ في المَشْهُورِ: إيذاءً، وحَمْلُهُ عَلى المَحِيضِ لِلْمُبالَغَةِ، والمَعْنى المَقْصُودُ مِنهُ المُسْتَقْذَرُ، وبِهِ فَسَّرَهُ قَتادَةُ، واسْتُعْمِلَ فِيهِ بِطَرِيقِ الكِنايَةِ، والمُرادُ مِنَ اعْتِزالِ النِّساءِ اجْتِنابُ مُجامَعَتِهِنَّ كَما يَفْهَمُهُ آخِرَ الآيَةِ، وإنَّما أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى الذّاتِ لِلْمُبالَغَةِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾ ووَضَعَ الظّاهِرَ مَوْضِعَ المُضْمَرِ لِكَمالِ العِنايَةِ بِشَأْنِهِ؛ بِحَيْثُ لا يُتَوَهَّمُ غَيْرُهُ أصْلًا، وقَدْ يُقالُ: لا وضْعَ، وحَدِيثُ الإعادَةِ أغْلَبِيٌ بَلْ يُعْتَبَرُ ما أشَرْنا إلى اعْتِبارِهِ فِيما أشَرْنا (p-122)إلى عَدَمِ اعْتِبارِهِ لِضِعْفِ النِّسْبَةِ، وقُوَّةِ الدّاعِي إلى التَّقْدِيرِ وعَدَمُهُ أوْلى، وإنَّما وُصِفَ بِأنَّهُ أذًى ورُتِّبَ الحُكْمُ عَلَيْهِ بِالفاءِ ولَمْ يَكْتَفِ في الجَوابِ بِالأمْرِ لِلْإشْعارِ بِأنَّهُ العِلَّةُ، والحُكْمُ المُعَلَّلُ أوْقَعُ في النَّفْسِ. ﴿ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ﴾ تَقْرِيرٌ لِلْحُكْمِ السّابِقِ؛ لِأنَّ الأمْرَ بِالِاعْتِزالِ يَلْزَمُهُ النَّهْيُ عَنِ القُرْبانِ وبِالعَكْسِ، فَيَكُونُ كُلٌّ مِنهُما مُقَرَّرًا وإنْ تَغايَرا بِالمَفْهُومِ، فَلِذا عُطِفَ أحَدُهُما عَلى الآخَرِ، وفِيهِ بَيانٌ لِغايَتِهِ، فَإنَّ تَقْيِيدَ الِاعْتِزالِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿فِي المَحِيضِ﴾ وتُرَتُّبَهُ عَلى كَوْنِهِ أذًى يُفِيدُ تَخْصِيصَ الحُرْمَةِ بِذَلِكَ الوَقْتِ، ويُفْهَمُ مِنهُ عَقْلًا انْقِطاعُها بَعْدَهُ، ولا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ صَرِيحًا بِخِلافِ ﴿حَتّى يَطْهُرْنَ﴾ والغايَةُ انْقِطاعُ الدَّمِ عِنْدَ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -، فَإنْ كانَ الِانْقِطاعُ لِأكْثَرِ مُدَّةِ الحَيْضِ حَلَّ القُرْبانُ بِمُجَرَّدِ الِانْقِطاعِ، وإنْ كانَ لِأقَلَّ مِنها لَمْ يَحِلَّ إلّا بِالِاغْتِسالِ أوْ ما هو في حُكْمِهِ مِن مُضِيِّ وقْتِ صَلاةٍ، وعِنْدَ الشّافِعِيَّةِ هي الِاغْتِسالُ بَعْدَ الِانْقِطاعِ، قالُوا: ويَدُلُّ عَلَيْهِ صَرِيحًا قِراءَةُ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ وعاصِمٍ في رِوايَةِ ابْنِ عَيّاشٍ: (يَطِّهَّرْنَ) بِالتَّشْدِيدِ أيْ (يَتَطَهَّرْنَ)، والمُرادُ بِهِ يَغْتَسِلْنَ، لا لِأنَّ الِاغْتِسالَ مَعْنًى حَقِيقِيٌّ لِلتَّطْهِيرِ كَما يُوهِمُهُ بَعْضُ عِباراتِهِمْ؛ لِأنَّ اسْتِعْمالَهُ فِيما عَدا الِاغْتِسالَ شائِعٌ في الكَلامِ المَجِيدِ والأحادِيثِ عَلى ما لا يَخْفى عَلى المُتَتَبِّعِ، بَلْ لِأنَّ صِيغَةَ المُبالَغَةِ يُسْتَفادُ مِنها الطَّهارَةُ الكامِلَةُ، والطَّهارَةُ الكامِلَةُ لِلنِّساءِ عَنِ المَحِيضِ هو الِاغْتِسالُ، فَلَمّا دَلَّتْ قِراءَةُ التَّشْدِيدِ عَلى أنَّ غايَةَ حُرْمَةِ القُرْبانِ هو الِاغْتِسالُ، والأصْلُ في القِراءاتِ التَّوافُقُ، حُمِلَتْ قِراءَةُ التَّخْفِيفِ عَلَيْها، بَلْ قَدْ يُدَّعى أنَّ الطُّهْرَ يَدُلُّ عَلى الِاغْتِسالِ أيْضًا بِحَسَبَ اللُّغَةِ، فَفي القامُوسِ: طَهُرَتِ المَرْأةُ انْقَطَعَ دَمُها واغْتَسَلَتْ مِنَ الحَيْضِ كَتَطَهَّرَتْ، وأيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ﴾ يَدُلُّ التِزامًا عَلى أنَّ الغايَةَ هي الِاغْتِسالُ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي تَأخُّرَ جَوازِ الإتْيانِ عَنِ الغُسْلِ، فَهو يُقَوِّي كَوْنَ المُرادِ بِقِراءَةِ التَّخْفِيفِ الغُسْلَ لا الِانْقِطاعَ، ورُبَّما يَكُونُ قَرِينَةً عَلى التَّجَوُّزِ في الطُّهْرِ بِحَمْلِهِ عَلى الِاغْتِسالِ إنْ لَمْ يَسْلَمْ ما تَقَدَّمَ، وعَلى فَرْضِ عَدَمِ تَسْلِيمِ هَذا وذاكَ، والرُّجُوعِ إلى القَوْلِ بِأنَّ قِراءَةَ التَّخْفِيفِ مِنَ الطُّهْرِ وهو حَقِيقَةٌ في انْقِطاعِ الدَّمِ لا غَيْرَ ولا تَجُوزُ ولا قَرِينَةٌ، وقِراءَةُ التَّشْدِيدِ مِنَ التَّطَهُّرِ، ويُسْتَفادُ مِنهُ الِاغْتِسالُ، يُقالُ أيْضًا في وجْهِ الجَمْعِ كَما في الكَشْفِ: إنَّ القِراءَةَ بِالتَّشْدِيدِ لِبَيانِ الغايَةِ الكامِلَةِ وبِالتَّخْفِيفِ لِبَيانِ النّاقِصَةِ، وحَتّى في الأفْعالِ نَظِيرٌ إلى في أنَّهُ لا يَقْتَضِي دُخُولَ ما بَعْدَها، فَتَكُونُ الكامِلَةَ ألْبَتَّةَ، وبَيانُهُ أنَّ الغايَةَ الكامِلَةَ ما يَكُونُ غايَةً بِجَمِيعِ أجْزائِهِ وهي الخارِجَةُ عَنِ المُغَيّا، والنّاقِصَةُ ما تَكُونُ غايَةً بِاعْتِبارِ آخِرِها وحَتّى الدّاخِلَةُ عَلى الأسْماءِ تَقْتَضِي دُخُولَ ما بَعْدَها لَوْلا الغايَةُ والدّاخِلَةُ عَلى الأفْعالِ مِثْلَ إلى لا تَقْتَضِي كَوْنَ ما بَعْدَها جُزْءًا لِما قَبِلَها، فانْقِطاعُ الدَّمِ غايَةٌ لِلْحُرْمَةِ بِاعْتِبارِ آخِرِهِ، فَيَكُونُ وقْتُ الِانْقِطاعِ داخِلًا فِيها والِاغْتِسالُ غايَةً لَها بِاعْتِبارِ أوَّلِهِ، فَلا تَعارُضَ بَيْنَ القِراءَتَيْنِ، ولَعَلَّ فائِدَةَ بَيانِ الغايَتَيْنِ بَيانُ مَراتِبِ حُرْمَةِ القُرْبانِ، فَإنَّها أشَدُّ قَبْلَ الِانْقِطاعِ مِمّا بَعْدَهُ، ولَمّا رَأى ساداتُنا الحَنَفِيَّةُ أنَّ هَهُنا قِراءَتَيْنِ التَّخْفِيفَ والتَّشْدِيدَ، وأنَّ مُؤَدّى الأُولى انْتِهاءُ الحُرْمَةِ العارِضَةِ عَلى الحِلِّ بِانْقِطاعِ الدَّمِ مُطْلَقًا، فَإذا انْتَهَتِ الحُرْمَةُ العارِضَةُ حَلَّتْ بِالضَّرُورَةِ، وإنَّ مُؤَدّى الثّانِيَةِ عَدَمُ انْتِهائِها عِنْدَهُ بَلْ بَعْدَ الِاغْتِسالِ، ورَأوْا أنَّ الطُّهْرَ إذا نُسِبَ إلى المَرْأةِ لا يَدُلُّ عَلى الِاغْتِسالِ لُغَةً، بَلْ مَعْناهُ فِيها انْقِطاعُ الدَّمِ، وهو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ، وفي تاجِ البَيْهَقِيِّ: طَهُرَتْ خِلافَ طَمَثَتْ، وفي شَمْسِ العُلُومِ: امِرْأةٌ طاهِرٌ بِغَيْرِ (هاءٍ) انْقَطَعَ دَمُها، وفي الأساسِ: امِرْأةٌ طاهِرٌ ونِساءٌ طَواهِرُ طَهُرْنَ مِنَ الحَيْضِ، ولا يُعارِضُ ذَلِكَ ما في القامُوسِ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ بَيانًا لِلِاسْتِعْمالِ - ولَوْ مَجازًا - عَلى ما هو طَرِيقَتُهُ في كَثِيرٍ مِنَ الألْفاظِ، وأنَّ الحَمْلَ عَلى الِاغْتِسالِ مَجازًا مِن غَيْرِ قَرِينَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَهُ مِمّا لا يَصِحُّ، واعْتِبارُ ﴿فَإذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ﴾ قَرِينَةٌ - بِناءً عَلى ما ذَكَرُوا - لَيْسَ بِشَيْءٍ، وما ذَكَرُوهُ في وجْهِ (p-123)الدَّلالَةِ مِنَ الِاقْتِضاءِ فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأنَّ الفاءَ الدّاخِلَةَ عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي لا تَصْلُحُ أنْ تَكُونَ شَرْطًا كالجُمْلَةِ الإنْشائِيَّةِ لِمُجَرَّدِ الرَّبْطِ، كَما نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ هِشامٍ في المُغْنِي، ومَثَّلَ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي﴾ ولَوْ سَلِمَ فاللّازِمُ تَأخُّرُ جَوازِ الإتْيانِ عَنِ الغُسْلِ في الجُمْلَةِ لا مُطْلَقًا، حَتّى يَكُونَ قَرِينَةً عَلى أنَّ المُرادَ بِقِراءَةِ التَّخْفِيفِ أيْضًا الغُسْلُ، وأنَّ القَوْلَ بِأنَّ إحْدى الغايَتَيْنِ داخِلَةٌ في الحُكْمِ، والأُخْرى خارِجَةٌ خِلافَ المُتَبادَرِ احْتاجُوا لِلْجَمْعِ بِجَعْلِ كُلٍّ مِنهُما آيَةً مُسْتَقِلَّةً، فَحَمَلُوا الأوْلى عَلى الِانْقِطاعِ بِأكْثَرِ المُدَّةِ، والثّانِيَةَ لِتَمامِ العادَةِ الَّتِي لَيْسَتْ أكْثَرَ مُدَّةِ الحَيْضِ، كَما حَمَلَ إبْراهِيمُ النَّخْعِيُّ قِراءَةَ النَّصْبِ والجَرِّ في (أرْجُلِكُمْ) عَلى حالَةِ التَّخْفِيفِ وعَدَمِهِ وهو المُناسِبُ؛ لِأنَّ في تَوَقُّفِ قُرْبانِها في الِانْقِطاعِ لِلْأكْثَرِ عَلى الغُسْلِ إنْزالَها حائِضًا حُكْمًا، وهو مُنافٍ لِحُكْمِ الشَّرْعِ لِوُجُوبِ الصَّلاةِ عَلَيْها المُسْتَلْزِمِ لِإنْزالِهِ إيّاها طاهِرًا حُكْمًا بِخِلافِ تَمامِ العِدَّةِ، فَإنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَقْطَعْ عَلَيْها بِالطُّهْرِ بَلْ يَجُوزُ الحَيْضُ بَعْدَهُ، ولِذا لَوْ زادَتْ ولَمْ يُجاوِزِ العَشَرَةَ كانَ الكُلُّ حَيْضًا بِالِاتِّفاقِ، بَقِيَ أنَّ مُقْتَضى الثّانِيَةِ ثُبُوتُ الحُرْمَةِ قَبْلَ الغُسْلِ، فَرَفْعُ الحُرْمَةِ قَبْلَهُ بِمُضِيِّ أوَّلِ وقْتِ الصَّلاةِ - أعْنِي أدْناهُ الواقِعَ آخِرًا - واعْتِبارُ الغُسْلِ حُكْمًا عَلى ما قالُوا مُعارِضَةُ النَّصِّ بِالمَعْنى، والجَوابُ أنَّ القِراءَةَ الثّانِيَةَ خُصَّ مِنها صُورَةُ الِانْقِطاعِ لِلْعَشَرَةِ بِقِراءَةِ التَّخْفِيفِ، فَجازَ أنْ يَخُصَّ ثانِيًا بِالمَعْنى كَما قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، ولا يَخْفى ما في مَذْهَبِ الإمامِ مِنَ التَّيْسِيرِ والِاحْتِياطِ لا يَخْفى، وحُكِيَ عَنِ الأوْزاعِيِّ: أنَّ حِلَّ الإتْيانِ مَوْقُوفٌ عَلى التَّطَهُّرِ، وفَسَّرَهُ بِغَسْلِ مَوْضِعِ الحَيْضِ، وقَدْ يُقالُ لِتَنْقِيَةِ المَحَلِّ تَطْهِيرٌ، فَقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ والنَّسائِيُّ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها-: «“أنَّ امْرَأةً سَألَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَنْ غُسْلِها مِنَ المَحِيضِ، فَأمَرَها قَبْلَ أنْ تَغْتَسِلَ قالَ: خُذِي فُرْصَةً مِن مِسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِها، قالَتْ: كَيْفَ أتَطَهَّرُ بِها؟ قالَ: تَطَهَّرِي بِها، قالَتْ: كَيْفَ؟ قالَ: سُبْحانَ اللَّهِ! تَطَهَّرِي بِها، فاجْتَذَبْتُها، فَقُلْتُ: تَتَبَّعِي بِها أثَرَ الدَّمِ”،» وذَهَبَ طاوُوسٌ ومُجاهِدٌ في رِوايَةٍ عَنْهُ: أنَّ غَسْلَ المَوْضِعِ مَعَ الوُضُوءِ كافٍ في حِلِّ الإتْيانِ - وإلَيْهِ ذَهَبَ الإمامِيَّةُ - ولا يَخْفى أنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ طِهارَةً كامِلَةً لِلنِّساءِ، وإنَّما هي طِهارَةٌ كامِلَةٌ لِأعْضائِهِنَّ، وهو خِلافُ المُتَبادَرِ في الآيَةِ، وإنَّما المُتَبادَرُ هو الأوَّلُ، وما في الحَدِيثِ، وإنْ كانَ أمْرًا بِالتَّطَهُّرِ لِتِلْكَ المَرْأةِ، لَكِنَّ المُرادَ بِذَلِكَ المُبالَغَةُ في تَطْهِيرِ المَوْضِعِ، إلّا أنَّهُ لِأمْرٍ ما لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، وإطْلاقُ التَّطْهِيرِ عَلى تَنْقِيَةِ المَحَلِّ مِمّا لا نُنْكِرُهُ، وإنَّما نُنْكِرُ إطْلاقَ (يَطْهُرْنَ) عَلى مَن طَهَّرْنَ مَواضِعَ حَيْضِهِنَّ ودُونَ إثْباتِهِ حَيْضُ الرِّجالِ، واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّهُ لا يَحْرُمُ الِاسْتِمْتاعُ بِالحائِضِ بِما بَيْنَ السُّرَّةِ والرُّكْبَةِ وإنَّما يَحْرُمُ الوَطْءُ، وسُئِلَتْ عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها - فِيما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ: ما يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنَ امْرَأتِهِ إذا كانَتْ حائِضًا؟ قالَتْ: كُلُّ شَيْءٍ إلّا الجِماعَ. وذَهَبَ جَماعَةٌ إلى حُرْمَةِ الِاسْتِمْتاعِ بِما بَيْنَ السُّرَّةِ والرُّكْبَةِ اسْتِدْلالًا بِما أخْرَجَهُ مالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ: «“أنَّ رَجُلًا سَألَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: ماذا يَحِلُّ لِي مِنَ امْرَأتِي وهي حائِضٌ؟ فَقالَ لَهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: لِتَشُدَّ عَلَيْها إزارَها ثُمَّ شَأْنُكَ بِأعْلاها”». وكَأنَّهُ مِن بابِ سَدِّ الذَّرائِعِ في الجُمْلَةِ، ولِهَذا ورَدَ فِيما أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ: والتَّعَفُّفُ عَنْ ذَلِكَ أفْضَلُ، والأمْرُ في الآيَةِ لِلْإباحَةِ عَلى حَدِّ ﴿وإذا حَلَلْتُمْ فاصْطادُوا﴾ فَفِيها إباحَةُ الإتْيانِ لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿مِن حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ﴾ أيْ: مِنَ المَكانِ الَّذِي أمَرَكُمُ اللَّهُ – تَعالى - بِتَجَنُّبِهِ لِعارِضِ الأذى، وهو الفَرْجُ، ولا تَعْدُوا غَيْرَهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ والرَّبِيعُ، وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ مِنَ الجِهاتِ الَّتِي يَحِلُّ فِيها أنْ تَقْرَبَ المَرْأةَ، ولا تَقْرَبُوهُنَّ مِن حَيْثُ لا يَحِلُّ كَما إذا كُنَّ صائِماتٍ أوْ مُحْرِماتٍ أوْ مُعْتَكِفاتٍ، وأُيِّدَ بِأنَّهُ لَوْ أرادَ الفَرْجَ لَكانَتْ (p-124)فِي ( أظْهَرَ فِيهِ مِن ) مِن؛ لِأنَّ الإتْيانَ بِمَعْنى الجِماعِ يُتَعَدّى بِها غالِبًا لا بِمِن، ولَعَلَّهُ في حَيِّزِ المَنعِ عِنْدَ أهْلِ القَوْلِ الأوَّلِ. ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ﴾ مِمّا عَسى يَنْدُرُ مِنهم مِنِ ارْتِكابِ بَعْضِ الذُّنُوبِ كالإتْيانِ في الحَيْضِ المُورِثِ لِلْجُذامِ في الوَلَدِ كَما ورَدَ في الخَبَرِ، والمُسْتَدْعِي عِقابَ اللَّهِ – تَعالى -، فَقَدْ أخْرَجَ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - قالَ: «“مَن أتى حائِضًا فَقَدْ كَفَرَ بِما أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ» -”وهو جارٍ مَجْرى التَّرْهِيبِ، فَلا يُعارِضُ ما أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما - قالَ: «“جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، فَقالَ: "يا رَسُولَ اللَّهِ، أصَبْتُ امْرَأتِي وهي حائِضٌ، فَأمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنْ يُعْتِقَ نَسَمَةً» وقِيمَةُ النَّسَمَةِ حِينَئِذٍ دِينارٌ، وهَذا إذا كانَ الإتْيانُ في أوَّلِ الحَيْضِ والدَّمُ أحْمَرُ، أمّا إذا كانَ في آخِرِهِ والدَّمُ أصْفَرُ، فَيَنْبَغِي أنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ دِينارٍ كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ الآثارُ. ﴿ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ 222﴾ أيِ: المُتَنَزَّهِينَ عَنِ الفَواحِشِ والأقْذارِ كَمُجامَعَةِ الحائِضِ والإتْيانِ لا مِن حَيْثُ أمَرَ اللَّهُ – تَعالى -، وحَمْلُ التَّطَهُّرِ عَلى التَّنَزُّهِ هو الَّذِي تَقْتَضِيهِ البَلاغَةُ، وهو مَجازٍ عَلى ما في الأساسِ وشَمْسِ العُلُومِ، وعَنْ عَطاءٍ: حَمْلُهُ عَلى التَّطَهُّرِ بِالماءِ، والجُمْلَتانِ تَذْيِيلٌ مُسْتَقِلٌّ لِما تَقَدَّمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب