الباحث القرآني

﴿ولَمّا يَأْتِكم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ﴾، الجُمْلَةُ حالٌ، التَّقْدِيرُ: غَيْرُ آتِيكم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكم، أيْ: إنَّ دُخُولَ الجَنَّةِ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ عَلى ابْتِلاءِ شَدائِدَ، وصَبْرٍ عَلى ما يُنالُ مِن أذى الكُفّارِ، والفَقْرِ، والمُجاهَدَةِ في سَبِيلِ اللَّهِ، ولَيْسَ ذَلِكَ عَلى مُجَرَّدِ الإيمانِ فَقَطْ، بَلْ سَبِيلُكم في ذَلِكَ سَبِيلُ مَن تَقَدَّمَكم مِن أتْباعِ الرُّسُلِ. خاطَبَ بِذَلِكَ اللَّهُ تَعالى عِبادَهُ المُؤْمِنِينَ، مُلْتَفِتًا إلَيْهِمْ عَلى سَبِيلِ التَّشْجِيعِ والثَّبِيتِ لَهم، وإعْلامًا لَهم أنَّهُ لا يَضُرُّ كَوْنُ أعْدائِكم لا يُوافِقُونَ؛ فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الأُمَمُ عَلى أنْبِيائِها، وصَبَرُوا حَتّى أتاهُمُ النَّصْرُ. و”لَمّا“ أبْلَغُ في النَّفْيِ مِن ”لَمْ“؛ لِأنَّها تَدُلُّ عَلى نَفْيِ الفِعْلِ مُتَّصِلًا بِزَمانِ الحالِ، فَهي لِنَفْيِ التَّوَقُّعِ. والمَثَلُ: الشَّبَهُ، إلّا أنَّهُ مُسْتَعارٌ لِحالٍ غَرِيبَةٍ، أوْ قَضِيَّةٍ عَجِيبَةٍ لَها شَأْنٌ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، التَّقْدِيرُ: مِثْلُ مِحْنَةِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكم، وعَلى حَذْفِ مَوْصُوفٍ تَقْدِيرُهُ ”المُؤْمِنِينَ“ . والَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكم، مُتَعَلِّقٌ بِـ ”خَلَوْا“، وهو كَأنَّهُ تَوْكِيدٌ؛ لِأنَّ الَّذِينَ خَلَوْا يَقْتَضِي التَّقَدُّمَ. * * * ﴿مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ والضَّرّاءُ﴾، هَذِهِ الجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ وتَبْيِينٌ لَهُ، فَلَيْسَ لَها مَوْضِعٌ مِنَ الإعْرابِ، وكَأنَّ قائِلًا قالَ: ما ذَلِكَ المَثَلُ ؟ فَقِيلَ: مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ والضَّرّاءُ. والمَسُّ هُنا مَعْناهُ ”الإصابَةُ“، وهو حَقِيقَةٌ في المَسِّ بِاليَدِ، فَهو هُنا مَجازٌ. وأجازَأبُو البَقاءِ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِمْ ”مَسَّتْهم“ في مَوْضِعِ الحالِ، عَلى إضْمارِ قَدْ، وفِيهِ بُعْدٌ، وتَكُونُ الحالُ إذْ ذاكَ مِن ضَمِيرِ الفاعِلِ في ”خَلَوْا“ . وتَقَدَّمَ شَرْحُ ”البَأْساءِ والضَّرّاءِ“ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والصّابِرِينَ في البَأْساءِ والضَّرّاءِ﴾ [البقرة: ١٧٧] . (وزُلْزِلُوا)، أيْ: أُزْعِجُوا إزْعاجًا شَدِيدًا بِالزَّلْزَلَةِ، وبُنِيَ الفِعْلُ لِلْمَفْعُولِ، وحُذِفَ الفاعِلُ لِلْعِلْمِ بِهِ، أيْ: وزَلْزَلَهم أعْداؤُهم. ﴿حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ﴾، قَرَأ الأعْمَشُ: ”وزُلْزِلُوا ويَقُولُ الرَّسُولُ“، بِالواوِ بَدَلَ ”حَتّى“، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ: ”وزُلْزِلُوا ثُمَّ زُلْزِلُوا ويَقُولُ الرَّسُولُ“ . وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”حَتّى“، والفِعْلُ بَعْدَها مَنصُوبٌ إمّا عَلى الغايَةِ وإمّا عَلى التَّعْلِيلِ، أيْ: وزُلْزِلُوا إلى أنْ يَقُولَ الرَّسُولُ، أوْ: وزُلْزِلُوا كَيْ يَقُولَ الرَّسُولُ، والمَعْنى الأوَّلُ أظْهَرُ؛ لِأنَّ المَسَّ والزِّلْزالَ لَيْسا مَعْلُولَيْنِ لِقَوْلِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ. وقَرَأ نافِعٌ بِرَفْعِ ”يَقُولُ“ بَعْدَ ”حَتّى“، وإذا كانَ المُضارِعُ بَعْدَ حَتّى فِعْلَ حالٍ فَلا يَخْلُو أنْ يَكُونَ حالًا في حِينِ الإخْبارِ، نَحْوَ: مَرِضَ حَتّى لا يَرْجُونَهُ، وإمّا أنْ يَكُونَ حالًا قَدْ مَضَتْ، فَيَحْكِيها عَلى ما وقَعَتْ؛ فَيُرْفَعُ الفِعْلُ عَلى أحَدِ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، والمُرادُ بِهِ هُنا المُضِيُّ، فَيَكُونُ حالًا مَحْكِيَّةً؛ إذِ المَعْنى: وزُلْزِلُوا فَقالَ الرَّسُولُ، وقَدْ تَكَلَّمْنا عَلى مَسائِلِ ”حَتّى“ في كِتابِ (التَّكْمِيلِ) وأشْبَعْنا الكَلامَ عَلَيْها هُناكَ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْها في هَذا الكِتابِ. ﴿والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾، يَحْتَمِلُ ”مَعَهُ“ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِيَقُولَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِآمَنُوا. ﴿مَتى نَصْرُ اللَّهِ ألا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، ”مَتى“: سُؤالٌ عَنِ الوَقْتِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الدُّعاءِ لِلَّهِ تَعالى، والِاسْتِعْلامِ لِوَقْتِ النَّصْرِ، فَأجابَهُمُ اللَّهُ تَعالى فَقالَ: ﴿ألا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾، وقِيلَ: ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِبْطاءِ؛ إذْ ما حَصَلَ لَهم مِنَ الشِّدَّةِ والِابْتِلاءِ والزِّلْزالِ هو الغايَةُ القُصْوى، وتَناهى ذَلِكَ وتَمادى بِالمُؤْمِنِينَ إلى أنْ نَطَقُوا بِهَذا الكَلامِ؛ فَقِيلَ ذَلِكَ لَهم إجابَةً لَهم إلى طَلَبِهِمْ مِن تَعْجِيلِ النَّصْرِ، والَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَتانِ داخِلَتَيْنِ تَحْتَ القَوْلِ، وأنَّ الجُمْلَةَ الأُولى مِن قَوْلِ المُؤْمِنِينَ، قالُوا ذَلِكَ اسْتِبْطاءً لِلنَّصْرِ، وضَجَرًا مِمّا نالَهم مِنَ الشِّدَّةِ، والجُمْلَةُ الثّانِيَةُ مِن قَوْلِ رَسُولِهِمْ إجابَةً لَهم وإعْلامًا بِقُرْبِ النَّصْرِ؛ فَتَعُودُ كُلُّ جُمْلَةٍ لِمَن يُناسِبُها، وصَحَّ نِسْبَةُ المَجْمُوعِ لِلْمَجْمُوعِ، لا نِسْبَةُ المَجْمُوعِ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ القائِلِينَ. وتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذا في بَعْضِ التَّخارِيجِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] (p-١٤١)وإنَّ قَوْلَهُ: ”﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ﴾ [البقرة: ٣٠]“ مِن قَوْلِ إبْلِيسَ، وإنَّ قَوْلَهُ: ”﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠]“ مِن قَوْلِ المَلائِكَةِ عَنْ إبْلِيسَ، وكانَ الجَوابُ ذَلِكَ لِما انْتَظَمَ إبْلِيسُ في الخِطابِ مَعَ المَلائِكَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠] . وقالَتْ طائِفَةٌ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، التَّقْدِيرُ: حَتّى يَقُولَ الَّذِينَ آمَنُوا مَتّى نَصْرُ اللَّهِ ؟ فَيَقُولُ الرَّسُولُ: ألا إنَّ نَصَرَ اللَّهُ قَرِيبٌ، فَقَدَّمَ الرَّسُولَ في الرُّتْبَةِ لِمَكانَتِهِ، وقَدَّمَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ لِتَقَدُّمِهِ في الزَّمانِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا تَحَكُّمٌ، وحَمْلُ الكَلامِ عَلى وجْهِهِ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ. انْتَهى. وقَوْلُهُ حَسَنٌ؛ إذِ التَّقْدِيمُ والتَّأْخِيرُ مِمّا يَخْتَصّانِ بِالضَّرُورَةِ. وفي قَوْلِهِ: ”والَّذِينَ آمَنُوا“ تَفْخِيمٌ لِشَأْنِهِمْ؛ حَيْثُ صَرَّحَ بِهِمْ ظاهِرًا بِهَذا الوَصْفِ الشَّرِيفِ الَّذِي هو الإيمانُ، ولَمْ يَأْتِ: حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وهم؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى حَذْفِ ذَلِكَ المَوْصُوفِ الَّذِي قَدَّرْناهُ قَبْلُ مِثْلَ مِحْنَةِ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ خَلَوْا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وأكْثَرُ المُتَأوِّلِينَ عَلى أنَّ الكَلامَ إلى آخِرِ الآيَةِ مِن قَوْلِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ، ويَكُونُ ذَلِكَ مِن قَوْلِ الرَّسُولِ عَلى طَلَبِ اسْتِعْجالِ النَّصْرِ، لا عَلى شَكٍّ ولا ارْتِيابٍ، والرَّسُولُ اسْمُ الجِنْسِ، وذَكَرَهُ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِلنّازِلَةِ الَّتِي دَعَتِ الرَّسُولَ إلى هَذا القَوْلِ. انْتَهى كَلامُهُ. واللّائِقُ بِأحْوالِ الرُّسُلِ هو القَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنا أنَّهُ يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ، والرَّسُولُ - كَما ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ - اسْمُ الجِنْسِ لا واحِدَ بِعَيْنِهِ، وقِيلَ: هو اليَسَعُ، وقِيلَ: هو شُعَيْبٌ، وعَلى هَذا يَكُونُ الَّذِينَ خَلَوْا قَوْمًا بِأعْيانِهِمْ، وهم أتْباعُ هَؤُلاءِ الرُّسُلِ. وحَكى بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّ الرَّسُولَ هُنا هو مُحَمَّدٌ ﷺ وأنَّ الزَّلْزَلَةَ هُنا مُضافَةٌ لِأُمَّتِهِ، ولا يَدُلُّ عَلى ما ذُكِرَ سِياقُ الكَلامِ، وعَلى هَذا القَوْلِ قالَ بَعْضُهم، وفي هَذا الكَلامِ إجْمالٌ، وتَفْصِيلُهُ أنَّ أتْباعَ مُحَمَّدٍ ﷺ قالُوا: مَتّى نَصْرُ اللَّهِ ؟ فَقالَ الرَّسُولُ: ألا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. فَتَلَخَّصَ مِن هَذِهِ النُّقُولِ أنَّ مَجْمُوعَ الجُمْلَتَيْنِ مِن كَلامِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، أوْ عَلى سَبِيلِ أنَّ الرَّسُولَ والمُؤْمِنِينَ قالَ كُلٌّ مِنهُما الجُمْلَتَيْنِ، فَكَأنَّهم قالُوا: قَدْ صَبَرْنا ثِقَةً بِوَعْدِكَ، أوْ عَلى أنَّ الجُمْلَةَ الأُولى مِن كَلامِ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ، والثّانِيَةَ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى. ولَمّا كانَ السُّؤالُ بِمَتى يُشِيرُ إلى اسْتِعْلامِ القُرْبِ، تَضَمَّنَ الجَوابُ القُرْبَ، وظاهِرُ هَذا الإخْبارِ أنَّ قُرْبَ النَّصْرِ هو: يُنْصَرُونَ في الدُّنْيا عَلى أعْدائِهِمْ ويَظْفَرُونَ بِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿جاءَهم نَصْرُنا﴾ [يوسف: ١١٠]، و﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ﴾ [النصر: ١] . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: النَّصْرُ في الآخِرَةِ؛ لِأنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْفَكُّ عَنِ الِابْتِلاءِ، ومَتى انْقَضى حَرْبٌ جاءَهُ آخَرُ، فَلا يَزالُ في جِهادِ العَدُوِّ، والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ، وجِهادِ النَّفْسِ إلى المَوْتِ. وفي وصْفِ أحْوالِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ خَلَوْا ما يَدُلُّ عَلى أنّا يَجْرِي لَنا ما جَرى لَهم؛ فَنَتَأسّى بِهِمْ، ونَنْتَظِرُ الفَرَجَ مِنَ اللَّهِ والنَّصْرَ، فَإنَّهم أُجِيبُوا لِذَلِكَ قَرِيبًا. «﴿يَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ٢١٥]، نَزَلَتْ في عَمْرِو بْنِ الجَمُوحِ، كانَ شَيْخًا كَبِيرًا ذا مالٍ كَثِيرٍ، سَألَ بِماذا أتَصَدَّقُ ؟ وعَلى مَن أُنْفِقُ ؟ قالَهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وفي رِوايَةِ عَطاءٍ: نَزَلَتْ في رَجُلٍ قالَ: إنَّ لِي دِينارًا. قالَ النَّبِيُّ ﷺ: (أنْفِقْهُ عَلى نَفْسِكَ) . فَقالَ: إنَّ لِي دِينارَيْنِ. فَقالَ: (أنْفِقْهُما عَلى أهْلِكَ) . فَقالَ: إنَّ لِي ثَلاثَةً. فَقالَ: (أنْفِقْهُما عَلى خادِمِكَ) . فَقالَ: إنَّ لِي أرْبَعَةً. فَقالَ: (أنْفِقْهُما عَلى والِدَيْكَ) . فَقالَ إنَّ لِي خَمْسَةً. فَقالَ: (أنْفِقْهُما عَلى قَرابَتِكَ) . فَقالَ: إنَّ لِي سِتَّةً. فَقالَ: (أنْفِقْهُما في سَبِيلِ اللَّهِ، وهو أحْسَنُها)». ويَنْبَغِي أنْ يُفْهَمَ مِن هَذا التَّرَقِّي عَلى مَعْنى أنَّ ما أخْبَرَ بِهِ فاضِلٌ عَمّا قَبْلَهُ، وقالَ الحَسَنُ: هي في التَّطَوُّعِ، وقالَ السُّدِّيُّ: هي مَنسُوخَةٌ بِفَرْضِ الزَّكاةِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهِمَ المَهْدَوِيُّ عَلى السُّدِّيِّ في هَذا؛ فَنُسِبَ إلَيْهِ أنَّهُ قالَ: إنَّ الآيَةَ في الزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ، ثُمَّ نُسِخَ مِنها الوالِدانِ. انْتَهى. وقَدْ قالَ: قَدَّمَ بِهَذا القَوْلِ، وهي أنَّها في الزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ، وعَلى هَذا نُسِخَ مِنها الوالِدانِ ومَن جَرى مَجْراهُما مِنَ الأقْرَبِينَ، وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هي نَدْبٌ، والزَّكاةُ غَيْرُ هَذا الإنْفاقِ، فَعَلى هَذا لا نَسْخَ فِيها. ومُناسَبَةُ (p-١٤٢)هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّ الصَّبْرَ عَلى النَّفَقَةِ وبَذْلِ المالِ هو مِن أعْظَمِ ما تَحَلّى بِهِ المُؤْمِنُ، وهو مِن أقْوى الأسْبابِ المُوَصِّلَةِ إلى الجَنَّةِ، حَتّى لَقَدْ ورَدَ: «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ» . والضَّمِيرُ المَرْفُوعُ في ”يَسْألُونَكَ“ لِلْمُؤْمِنِينَ، والكافُ لِخِطابِ النَّبِيِّ ﷺ و”ماذا“ يَحْتَمِلُ هُنا النَّصْبَ والرَّفْعَ؛ فالنَّصْبُ عَلى أنَّ ”ماذا“ كُلَّها اسْتِفْهامٌ، كَأنَّهُ قالَ: أيُّ شَيْءٍ يُنْفِقُونَ ؟ فَماذا مَنصُوبٌ بِيُنْفِقُونَ، والرَّفْعُ عَلى أنَّ ”ما“ وحْدَها هي الِاسْتِفْهامُ، و”ذا“ مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى الَّذِي، و”يُنْفِقُونَ“ صِلَةٌ لِذا، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: ما الَّذِي يُنْفِقُونَ بِهِ ؟ فَتَكُونُ ”ما“ مَرْفُوعَةً بِالِابْتِداءِ، و”ذا“ بِمَعْنى الَّذِي خَبَرُهُ، وعَلى كِلا الإعْرابَيْنِ فَيَسْألُونَكَ مُعَلَّقٌ، فَهو عامِلٌ في المَعْنى دُونَ اللَّفْظِ، وهو في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي لِيَسْألُونَكَ، ونَظِيرُهُ ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿سَلْ بَنِي إسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهم مِن آيَةٍ بَيِّنَةٍ﴾ [البقرة: ٢١١]، عَلى ما شَرَحْناهُ هُناكَ. و”ماذا“ سُؤالٌ عَنِ المُنْفِقِ لا عَنِ المَصْرِفِ، وكَأنَّ في الكَلامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: ولِمَن يُعْطُونَهُ ؟ ونَظِيرُ الآيَةِ في السُّؤالِ والتَّعْلِيقِ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ألا تَسْألانِ المَرْءَ ماذا يُحاوِلُ ؟ إلّا أنَّ ”ماذا“ هُنا مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِيُحاوِلُ؛ لِأنَّ بَعْدَهُ: ؎أنَحْبٌ فَيُقْضى أمْ ضَلالٌ وباطِلُ ؟ ويَضْعُفُ أنْ يَكُونَ ”ماذا“ كُلُّهُ مُبْتَدَأٌ، و”يُحاوِلُ“ الخَبَرُ لِضَعْفِ حَذْفِ العائِدِ المَنصُوبِ مِن خَبَرِ المُبْتَدَأِ دُونَ الصِّلَةِ، فَإنَّ حَذْفَهُ مِنها فَصِيحٌ، وذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنَّ ”ماذا“ إذا كانَتِ اسْمًا مُرَكَّبًا فَهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ، إلّا ما جاءَ مِن قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎وماذا عَسى الواشُونَ أنْ يَتَحَدَّثُوا ∗∗∗ سِوى أنْ يَقُولُوا إنَّنِي لَكِ عاشِقُ فَإنَّ عَسى لا تَعْمَلُ في ”ماذا“ في مَوْضِعِ رَفْعٍ، وهو مُرَكَّبٌ؛ إذْ لا صِلَةَ لِـ ”ذا“ . انْتَهى. وإنَّما لَمْ يَكُنْ لِـ ”ذا“ في البَيْتِ صِلَةٌ لِأنَّ عَسى لا تَقَعُ صِلَةً لِلْمَوْصُولِ الِاسْمِيِّ، فَلا يَجُوزُ لِـ ”ذا“ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى الَّذِي، وما ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِن أنَّهُ إذا كانَتِ اسْمًا مُرَكَّبَةً فَهي في مَوْضِعِ نَصْبٍ، إلّا في ذَلِكَ البَيْتِ لا نَعْرِفُهُ، بَلْ يَجُوزُ أنْ نَقُولَ: ماذا مَحْبُوبٌ لَكَ ؟ و: مَن ذا قائِمٌ ؟ عَلى تَقْدِيرِ التَّرْكِيبِ، فَكَأنَّكَ قُلْتَ: ما مَحْبُوبٌ ؟ ومَن قائِمٌ ؟ ولا فَرْقَ بَيْنَ هَذا وبَيْنَ مَن ذا تَضْرِبُهُ ؟ عَلى تَقْدِيرِهِ: مَن تَضْرِبُهُ ؟ وجَعَلَ ”مَن“ مُبْتَدَأً.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب