الباحث القرآني

﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ﴾ نَزَلَتْ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ حِينَ أصابَ المُسْلِمِينَ ما أصابَهم مِنَ الجُهْدِ والشِّدَّةِ والخَوْفِ والبَرْدِ وسُوءِ العَيْشِ وأنْواعِ الأذى، حَتّى بَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ، وقِيلَ: في غَزْوَةِ أُحُدٍ، وقالَ عَطاءٌ: «لَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وأصْحابُهُ المَدِينَةَ اشْتَدَّ الضُّرُّ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّهم خَرَجُوا بِغَيْرِ مالٍ وتَرَكُوا دِيارَهم وأمْوالَهم بِيَدِ المُشْرِكِينَ، وآثَرُوا رِضا اللَّهِ - تَعالى - ورَسُولِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، وأظْهَرَتِ اليَهُودُ العَداوَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، وأسَرَّ قَوْمٌ مِنَ الأغْنِياءِ النِّفاقَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ هَذِهِ الآيَةَ،» والخِطابُ إمّا لِلْمُؤْمِنِينَ خاصَّةً، أوْ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ولَهُمْ، ونِسْبَةُ (الحُسْبانِ) إلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - إمّا لِأنَّهُ لَمّا كانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ الشَّرِيفُ مِن شَدائِدِ المُشْرِكِينَ نَزَلَ مَنزِلَةَ مَن يُحْسَبُ أنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ بِدُونِ تَحَمُّلِ المَكارِهِ، وإمّا عَلى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ؛ كَما في قَوْلِهِ – سُبْحانَهُ -: ﴿أوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا﴾ و(أمْ) مُنْقَطِعَةٌ، والهَمْزَةُ المُقَدَّرَةُ لِإنْكارِ ذَلِكَ الحُسْبانَ، وأنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ، وقِيلَ: مُتَّصِلَةٌ بِتَقْدِيرٍ مُعادِلٍ، وقِيلَ: مُنْقَطِعَةٌ بِدُونِ تَقْدِيرٍ، وفي الكَلامِ التِفاتٌ، إلّا إنَّهُ غَيْرُ صَرِيحٍ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ – سُبْحانَهُ -: ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾ كَلامٌ مُشْتَمِلٌ عَلى ذِكْرِ الأُمَمِ السّابِقَةِ والقُرُونِ الخالِيَةِ، وعَلى ذِكْرِ مَن بُعِثَ إلَيْهِمْ مِنَ الأنْبِياءِ وما لَقُوا مِنهم مَنَ الشَّدائِدِ، وإظْهارِ المُعْجِزاتِ تَشْجِيعًا لِلرَّسُولِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - والمُؤْمِنِينَ عَلى الثَّباتِ والصَّبْرِ عَلى أذى المُشْرِكِينَ أوْ لِلْمُؤْمِنِينَ خاصَّةً، فَكانُوا مِن هَذا الوَجْهِ مُرادِينَ غائِبِينَ، ويُؤَيِّدُهُ ﴿فَهَدى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلَخْ، فَإذا قِيلَ: بَعْدَ ﴿أمْ حَسِبْتُمْ﴾ كانَ نَقْلًا مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ، أوْ لِأنَّ الكَلامَ الأوَّلَ تَعْرِيضٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِعَدَمِ التَّثَبُّتِ والصَّبْرِ عَلى أذى المُشْرِكِينَ، فَكَأنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعَ: كانَ مِن حَقِّ المُؤْمِنِينَ التَّشْجِيعُ والصَّبْرُ تَأسِّيًا بِمَن قَبْلَهُمْ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ ما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ وأبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ والإمامُ أحْمَدُ «عَنْ خَبّابِ بْنِ الأرَتِّ قالَ: شَكَوْنا إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - ما لَقِينا مِنَ المُشْرِكِينَ، فَقُلْنا: ألا تَسْتَنْصِرُ لَنا، ألا تَدْعُو اللَّهَ - تَعالى - لَنا؟ فَقالَ: ”إنَّ مَن كانَ قَبْلَكم كانَ أحَدُهم يُوضَعُ المِنشارَ عَلى مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَتَخْلُصُ إلى قَدَمَيْهِ، لا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، ويُمَشَّطُ بِأمْشاطِ الحَدِيدِ ما بَيْنَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ، لا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ“، ثُمَّ قالَ: ”واللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذا الأمْرُ حَتّى يَسِيرَ الرّاكِبُ مِن صَنْعاءَ إلى حَضْرَ مَوْتَ، لا يَخافُ إلّا اللَّهَ – تَعالى -، والذِّئْبَ عَلى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكم تَسْتَعْجِلُونَ“» وهَذا هو المُضْرَبُ عَنْهُ بِـ(بَلِ) الَّتِي تَضَمَّنَتْها أمْ أيْ دَعْ ذَلِكَ (أحَسِبُوا أنْ يَدْخُلُوا الجَنَّةَ) فَتَرَكَ هَذا إلى الخِطابِ، وحَصَلَ الِالتِفاتُ مَعْنًى، ومِمّا ذُكِرَ يُعْلَمُ وجْهُ رَبْطِ الآيَةِ بِما قَبْلَها، وقِيلَ: وجْهُ ذَلِكَ أنَّهُ - سُبْحانَهُ - لَمّا قالَ: ﴿يَهْدِي مَن يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وكانَ المُرادُ بِـ (الصِّراطِ) الحَقَّ الَّذِي يُفْضِي اتِّباعُهُ إلى دُخُولِ الجَنَّةِ بَيْدَ أنَّ ذَلِكَ لا يَتِمُّ إلّا بِاحْتِمالِ الشَّدائِدِ والتَّكْلِيفِ. ﴿ولَمّا يَأْتِكُمْ﴾ الواوُ لِلْحالِ، والجُمْلَةُ بَعْدَها نَصْبٌ عَلى الحالِ؛ أيْ غَيْرِ آتِيكُمْ، ولَمّا جازِمَةٌ كَـ (لَمْ) وفُرِّقَ بَيْنَهُما في كُتُبِ النَّحْوِ، والمَشْهُورُ أنَّها بَسِيطَةٌ، وقِيلَ: مُرَكَّبَةٌ مِن (لَمْ) و(ما) النّافِيَةِ، وهي نَظِيرَةُ ( قَدْ ) في أنَّ الفِعْلَ المَذْكُورَ بَعْدَها مُنْتَظَرُ الوُقُوعِ. (p-104)﴿مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ﴾ أيْ: مِثْلَ مَثَلِهِمْ وحالِهِمُ العَجِيبَةِ، فالكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، والَّذِينَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ؛ أيِ: المُؤْمِنِينَ، و( مِن قَبْلِكم ) مُتَعَلِّقٌ بِـ خَلَوْا وهو كالتَّأْكِيدِ لِما يُفْهَمُ مِنهُ. ﴿مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ والضَّرّاءُ﴾ بَيانٌ لِلْمَثَلِ عَلى الِاسْتِئْنافِ، سَواءٌ قُدِّرَ كَيْفَ ذَلِكَ المَثَلُ أوْ لا، وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ كَوْنَها حالِيَّةً بِتَقْدِيرِ ( قَدْ ).﴿وزُلْزِلُوا﴾ أيْ: أُزْعِجُوا إزْعاجًا شَدِيدًا بِأنْواعِ البَلاءِ. ﴿حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ أيِ: انْتَهى أمْرُهم مِنَ البَلاءِ إلى حَيْثُ اضْطُرُّوا إلى أنْ ﴿يَقُولَ الرَّسُولُ﴾ وهو أعْلَمُ النّاسِ بِما يَلِيقُ بِهِ – تَعالى -، وما تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، والمُؤْمِنُونَ المُقْتَدُونَ بِآثارِهِ، المُهْتَدُونَ بِأنْوارِهِ ﴿مَتى﴾ يَأْتِي ﴿نَصْرُ اللَّهِ﴾ طَلَبًا وتَمَنِّيًا لَهُ، واسْتِطالَةً لِمُدَّةِ الشِّدَّةِ - لا شَكًّا وارْتِيابًا - والمُرادُ مِنَ ( الرَّسُولُ ) الجِنْسُ لا واحِدٌ بِعَيْنِهِ، وقِيلَ: هو اليَسَعُ، وقِيلَ: شَعْياءُ، وقِيلَ: أشْعِياءُ، وعَلى التَّعْيِينِ يَكُونُ المُرادُ مِنَ ( الَّذِينَ خَلَوْا ) قَوْمًا بِأعْيانِهِمْ - وهم أتْباعُ هَؤُلاءِ الرُّسُلِ - وقَرَأ نافِعٌ: (يَقُولُ) بِالرَّفْعِ عَلى أنَّها حِكايَةُ حالٍ ماضِيَةٍ، ومَعَهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِـ يَقُولَ أيْ أنَّهم صاحَبُوهُ في هَذا القَوْلِ، وأنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِـ آمَنُوا أيْ: وافَقُوهُ في الإيمانِ. ﴿ألا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ 224﴾ اسْتِئْنافٌ نَحْوِيٌّ عَلى تَقْدِيرِ القَوْلِ؛ أيْ: فَقِيلَ لَهم حِينَئِذٍ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِأنْفُسِهِمْ بِإسْعافِهِمْ بِمَرامِهِمْ، وإيثارُ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ عَلى الفِعْلِيَّةِ المُناسِبَةِ لِما قَبْلَها، وتَصْدِيرُها بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ والتَّأْكِيدُ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى تَحَقُّقِ مَضْمُونِها وتَقْرِيرِهِ ما لا يَخْفى، واخْتِيارُ حِكايَةِ الوَعْدِ بِالنَّصْرِ، لِما أنَّها في حُكْمِ إنْشاءِ الوَعْدِ لِلرَّسُولِ، والِاقْتِصارُ عَلى حِكايَتِها دُونَ حِكايَةِ النَّصْرِ مَعَ تَحَقُّقِهِ لِلْإيذانِ بِعَدَمِ الحاجَةِ إلى ذَلِكَ لِاسْتِحالَةِ الخُلْفِ، وقِيلَ: لَمّا كانَ السُّؤالُ بِـ (مَتى) يُشِيرُ إلى اسْتِعْلامِ القُرْبِ تَضَمَّنَ الجَوابُ القُرْبَ، واكْتُفِيَ بِهِ لِيَكُونَ الجَوابُ طِبْقَ السُّؤالِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ هَذا وارِدًا مِن جِهَتِهِ - تَعالى - عِنْدَ الحِكايَةِ عَلى نَهْجِ الِاعْتِراضِ، لا وارِدًا عِنْدَ وُقُوعِ المَحْكِيِّ، والقَوْلُ بِأنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ مَقُولُ الرَّسُولِ، و﴿مَتى نَصْرُ اللَّهِ﴾ - تَعالى - مَقُولُ مَن مَعَهُ عَلى طَرِيقِ اللَّفِّ والنَّشْرِ الغَيْرِ المُرَتَّبِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، أمّا لَفْظًا فَلِأنَّهُ لا يَحْسُنُ تَعاطُفُ القائِلِينَ دُونَ المَقُولِينَ، وأمّا مَعْنًى فَلِأنَّهُ لا يُحْسُنُ ذِكْرُ قَوْلِ الرَّسُولِ ﴿ألا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ في الغايَةِ الَّتِي قُصِدَ بِها بَيانُ تَناهِي الأمْرِ في الشِّدَّةِ، والقَوْلُ بِأنَّ تَرْكَ العَطْفِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ كُلًّا مَقُولٌ لِواحِدٍ مِنهُما، واحْتِرازٍ عَنْ تَوَهُّمِ كَوْنِ المَجْمُوعِ مَقُولٌ واحِدٌ، وتَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الرَّسُولَ قالَ لَهم في جَوابِهِمْ، وبِأنَّ مَنصِبَ الرِّسالَةِ يَسْتَدْعِي تَنْزِيهَ الرَّسُولِ عَنِ التَّزَلْزُلِ، لا يَنْبَغِي أنْ يُلْتَفَتَ إلَيْهِ؛ لِأنَّهُ إذا تُرِكَ العَطْفُ لا يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى القَوْلِ الأوَّلِ، فَكَيْفَ التَّنْبِيهُ عَلى كَوْنِ كُلٍّ مَقُولًا لِواحِدٍ مِنهُما، ولا نَأْمَنُ وراءَ مَنعِ كَوْنِ مَنصِبِ الرِّسالَةِ يَسْتَدْعِي ذَلِكَ التَّنْزِيهَ، ولَيْسَ التَّزَلْزُلُ والِانْزِعاجُ أعْظَمَ مِنَ الخَوْفِ، وقَدْ عُرِّيَ الرُّسُلُ - صَلَواتُ اللَّهِ تَعالى وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ - كَما يُصَرِّحُ بِهِ كَثِيرٌ مِنَ الآياتِ، وفي الآيَةِ رَمَزٌ إلى أنَّ الوُصُولَ إلى الجَنابِ الأقْدَسِ يَتَيَسَّرُ إلّا بِرَفْضِ اللَّذّاتِ ومُكابَدَةِ المَشاقِّ، كَما يُنْبِئُ عَنْهُ خَبَرُ: «”حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكارِهِ وحُفَّتِ النّارُ بِالشَّهَواتِ“،» وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ أبِي مالِكٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «”إنَّ اللَّهَ - تَعالى - لَيُجَرِّبُ أحَدَكم بِالبَلاءِ - وهو أعْلَمُ بِهِ - كَما يُجَرِّبُ أحَدُكم ذَهَبَهُ بِالنّارِ، فَمِنهم مَن يَخْرُجُ كالذَّهَبِ الإبْرِيزِ، فَذَلِكَ الَّذِي نَجّاهُ اللَّهُ - تَعالى - مِنَ السَّيِّئاتِ، ومِنهم مَن يَخْرُجُ كالذَّهَبِ الأسْوَدِ، فَذَلِكَ الَّذِي قَدِ افْتُتِنَ“». * * * ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الحَياةِ الدُّنْيا﴾ يَدَّعِي المَحَبَّةَ ويَتَكَلَّمُ في دَقائِقِ الأسْرارِ، ويُظْهِرُ خَصائِصَ الأحْوالِ، وهو في مَقامِ النَّفْسِ الأمّارَةِ (p-105)﴿ويُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما في قَلْبِهِ﴾ مِنَ المَعارِفِ والإخْلاصِ بِزَعْمِهِ، ﴿وهُوَ ألَدُّ الخِصامِ﴾ شَدِيدُ الخُصُومَةِ لِأهْلِ اللَّهِ - تَعالى - في نَفْسِ الأمْرِ، ﴿وإذا تَوَلّى سَعى في الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها﴾ بِإلْقاءِ الشُّبَهِ عَلى ضُعَفاءِ المُرِيدِينَ، ﴿ويُهْلِكَ الحَرْثَ﴾ ويَحْصُدُ بِمِنجَلِ تَمْوِيهاتِهِ زَرْعَ الإيمانِ النّابِتَ في رِياضِ قُلُوبِ السّالِكِينَ ويَقْطَعُ نَسْلَ المُرْشِدِينَ ﴿واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ فَكَيْفَ يَدَّعِي هَذا الكاذِبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ - تَعالى - ويَرْتَكِبُ ما لا يُحِبُّهُ ﴿وإذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ﴾ حَمَلَتْهُ الحَمِيَّةُ النَّفْسانِيَّةُ - حَمِيَّةُ الجاهِلِيَّةِ - عَلى الإثْمِ لُجاجًا، وحُبًّا لِظُهُورِ نَفْسِهِ، وزَعْمًا مِنهُ أنَّهُ أعْلَمُ بِاللَّهِ - سُبْحانَهُ - مِن ناصِحِهِ ﴿فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ﴾ أيْ: يَكْفِيهِ حَبْسُهُ في سِجِّينِ الطَّبِيعَةِ وظُلُماتِها، وهَذِهِ صِفَةُ أكْثَرِ أرْبابِ الرُّسُومِ الَّذِينَ حُجِبُوا عَنْ إدْراكِ الحَقائِقِ بِما مَعَهم مِنَ العُلُومِ، ﴿ومِنَ النّاسِ مَن﴾ يَبْذُلُ نَفْسَهُ في سُلُوكِ سَبِيلِ اللَّهِ طَلَبًا لِرِضاهُ، ولا يَلْتَفِتُ إلى القالِ والقِيلِ، ولا يَغْلُو لَدَيْهِ في طَلَبِ مَوْلاهُ جَلِيلٌ. ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا في السِّلْمِ﴾ وتَسْلِيمُ الوُجُودِ لِلَّهِ – تَعالى - والخُمُودُ تَحْتَ مَجارِي القُدْرَةِ لَكم وعَلَيْكم كافَّةً، فَإنْ زَلَلْتُمْ عَنْ مَقامِ التَّسْلِيمِ والرِّضا بِالقَضاءِ مِن بَعْدِ ما جاءَتْكم دَلائِلُ تَجَلِّياتِ الأفْعالِ والصِّفاتِ، فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ - تَعالى - عَزِيزٌ غالِبٌ يَقْهَرُكُمْ، حَكِيمٌ لا يَقْهَرُ إلّا عَلى مُقْتَضى الحِكْمَةِ، ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ إلّا أنْ يَتَجَلّى اللَّهُ - سُبْحانَهُ - ﴿فِي ظُلَلٍ﴾ صِفاتِ قَهْرِيَّةٍ مِن جُمْلَةِ تَجَلِّياتِ الصِّفاتِ وصُوَرِ مَلائِكَةِ القُوى السَّماوِيَّةِ، ﴿وقُضِيَ الأمْرُ﴾ بِوُصُولِ كُلٍّ إلى ما سَبَقَ لَهُ في الأزَلِ. ﴿وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ بِالفَناءِ. ﴿كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾ عَلى الفِطْرَةِ ودِينِ الحَقِّ في عالَمِ الإجْمالِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا في النَّشْأةِ بِحَسَبِ اخْتِلافِ طَبائِعِهِمْ وغَلَبَةِ صِفاتِ نُفُوسِهِمْ واحْتِجابِ كُلٍّ بِمادَّةِ بَدَنِهِ ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ﴾ لِيَدْعُوَهم مِنَ الخِلافِ إلى الوِفاقِ، ومِنَ الكَثْرَةِ إلى الوَحْدَةِ، ومِنَ العَداوَةِ إلى المَحَبَّةِ، ( فَتَفَرَّقُوا ) وتَحَزَّبُوا عَلَيْهِمْ وتَمَيَّزُوا، فالسُّفْلِيُّونَ ازْدادُوا خِلافًا وعِنادًا، والعُلْوِيُّونَ هَداهُمُ اللَّهُ - تَعالى - إلى الحَقِّ وسَلَكُوا الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ. ﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا﴾ جَنَّةَ المُشاهَدَةِ ومَجالِسَ الأُنْسِ بِنُورِ المُكاشَفَةِ ﴿ولَمّا يَأْتِكُمْ﴾ حالُ السّالِكِينَ قَبْلَكم ﴿مَسَّتْهُمُ﴾ بَأْساءُ الفَقْرِ وضَرّاءُ المُجاهَدَةِ وكَسْرُ النَّفْسِ بِالعِبادَةِ حَتّى تَضَجَّرُوا مِن طُولِ مُدَّةِ الحِجابِ وعِيلَ صَبْرُهم عَنْ مُشاهَدَةِ الجَمالِ وطَلَبُوا نَصْرَ اللَّهِ - تَعالى - بِالتَّجَلِّي، فَأُجِيبُوا: إذا بَلَغَ السَّيْلُ الرُّبى، وقِيلَ لَهُمْ: ﴿ألا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ﴾ بِرَفْعِ الحِجابِ وظُهُورِ آثارِ الجَمالِ ﴿قَرِيبٌ﴾ مِمَّنْ بَذَلَ نَفْسَهُ وصَرَفَ عَنْ غَيْرِ مَوْلاهُ حُسْنَهُ، وتَحَمَّلَ المَشاقَّ وذَبَحَ الشَّهَواتِ بِسَيْفِ الأشْواقِ: ومَن لَمْ يَمُتْ في حُبِّهِ لَمْ يَعِشْ بِهِوَدُونَ اجْتِناءِ النَّحْلِ ما جَنَتِ النَّحْلُ ﴿يَسْألُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما - في رِوايَةِ أبِي صالِحٍ: «”كانَ عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ شَيْخًا كَبِيرًا ذا مالٍ كَثِيرٍ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، بِماذا نَتَصَدَّقُ وعَلى مَن نُنْفِقُ؟ فَنَزَلَتْ“،» وفي رِوايَةِ عَطاءٍ عَنْهُ: لا، إنَّها نَزَلَتْ في «رَجُلٍ أتى النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -، فَقالَ: ”إنَّ لِي دِينارًا، فَقالَ: أنْفِقْهُ عَلى نَفْسِكَ، فَقالَ: إنَّ لِي دِينارَيْنِ، فَقالَ: أنْفِقْهُما عَلى أهْلِكَ، فَقالَ: إنَّ لِي ثَلاثَةً، فَقالَ: أنْفِقْها عَلى خادِمِكَ، فَقالَ: إنَّ لِي أرْبَعَةً، فَقالَ: أنْفِقْها عَلى والِدَيْكَ، فَقالَ: إنَّ لِي خَمْسَةً، فَقالَ: أنْفِقْها عَلى قَرابَتِكَ، فَقالَ: إنَّ لِي سِتَّةً، فَقالَ: أنْفِقْها في سَبِيلِ اللَّهِ – تَعالى -»“. وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ: «”سَألَ المُؤْمِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أيْنَ يَضَعُونَ أمْوالَهُمْ؟ فَنَزَلَتْ“».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب