الباحث القرآني

ولَمّا أفْهَمَ ما صَرَّحَ بِهِ الكَلامُ السّابِقُ مِنَ الِاخْتِلافِ وُقُوعَ العَداواتِ وكانَ في العَداواتِ خَطَرُ الأمْوالِ والأنْفُسِ وكانَ ذَلِكَ أشَقَّ ما يَكُونُ وكانَتِ العادَةُ قاضِيَةً بِأنَّ المَدْعُوِّينَ إلى ذَلِكَ إنْ لَمْ يُصَمِّمُوا عَلى الآياتِ كانُوا بَيْنَ مُسْتَثْقَلِينَ لِأمْرِ الرُّسُلِ يَرَوْنَ أنَّهم يُفَرِّقُونَ ما اتَّفَقَ مِنَ الكَلِمَةِ ورَضِيَ بِهِ النّاسُ لِأنْفُسِهِمْ ويُشَتِّتُونَ أمْرَهم مُسْتَثْقَلِينَ لِطُولِ انْتِظارِ الِانْتِصارِ كانَ حالُهم حالَ مَن يَطْلُبُ الرّاحاتِ في ذُرى الجَنّاتِ بِلا مَشَقّاتٍ وذَلِكَ مُحالٌ ومَحْضُ ضَلالٍ، فَإنَّ الثَّباتَ عَلى الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ لا يَكُونُ إلّا بِاحْتِمالِ شَدائِدِ التَّكالِيفِ فَكانَ كَأنَّهُ قِيلَ في جَوابِ ذَلِكَ عُدُولًا عَنْ خِطابِ النَّبِيِّ ﷺ المَقُولِ لَهُ ﴿سَلْ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [البقرة: ٢١١] إلى خِطابِ الأتْباعِ تَشْرِيفًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ ورَفْعًا (p-٢٠٥)لِهِمَمِهِمْ بِالمُواجَهَةِ بِالخِطابِ والتَّأْسِيَةِ بِمَن مَضى مَن أُولِي الألْبابِ تَنْشِيطًا لَهم وتَقْوِيَةً لِعَزائِمِهِمْ: أحَسِبْتُمْ أنّا لا نُرْسِلُ الرُّسُلَ لِتَمْيِيزِ الخَبِيثِ مِنَ الطِّيبِ ﴿أمْ حَسِبْتُمْ﴾ بَعْدَ إرْسالِهِمْ أنَّ الأمْرَ هَيِّنٌ بِأنْ تَنالُوا السَّعادَةَ بِلا اجْتِهادٍ في العِبادَةِ. قالَ الحَرالِيُّ: هو مِمّا مِنهُ الحُسْبانُ وهو ما تَقَعُ غَلَبَتُهُ فِيما هو مِن نَوْعِ المَفْطُورِ عَلَيْهِ المُسْتَقِرِّ عادَتُهُ، والظَّنُّ الغَلَبَةُ فِيما هو مِنَ المَعْلُومِ المَأْخُوذِ بِالدَّلِيلِ والعِلْمِ؛ فَكَأنَّ ضَعْفَ عِلْمِ العالِمِ ظَنٌّ وضَعْفَ عَقْلِ العاقِلِ حُسْبانٌ - انْتَهى. وهَذا الَّذِي قَدَّرْتُهُ هو مَعْنى ﴿أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ﴾ أيِ الَّتِي هي نَعِيمٌ دائِمٌ ”و“ الحالُ أنَّهُ (p-٢٠٦)”لَمّا يَأْتِكم مَثَلُ“ أيْ وصْفُ ﴿الَّذِينَ خَلَوْا﴾ ولَمّا كانَ القُرْبُ في الزَّمانِ أشَدَّ في التَّأْسِيَةِ أثْبَتَ الجارَّ فَقالَ: ﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾ أيْ يَقُصُّ عَلَيْكم لِتَعْلَمُوا بِهِ أوْ يُصِيبَكم ما أصابَهم مِنَ الأحْوالِ الغَرِيبَةِ والقَضايا العَجِيبَةِ الَّتِي هي في غَرابَتِها كالأمْثالِ. وقالَ الحَرالِيُّ: وأمْ عَطْفٌ عَلى أُمُورٍ يُفْهِمُها مَبْدَأُ الخِطابِ كَأنَّهُ يَقُولُ: أحَسِبْتُمْ أنْ تُفارِقَ أحْوالُكم أحْوالَ الأُمَمِ الماضِيَةِ في حِكْمَةِ اللَّهِ وسُنَّتِهِ ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا إلى ما يَسْتَجِرُّهُ مَعْنى الخِطابِ إجْمالًا وتَفْصِيلًا في واقِعِ الدُّنْيا مِن شَدائِدِها وحَرِّها وبَرْدِها وضِيقِ عَيْشِها وأنْواعِ أذاها وحالِ البَرْزَخِ وحالِ النَّشْرِ والحَشْرِ إلى ما وراءَ ذَلِكَ إلى غايَةِ دُخُولِ الجَنَّةِ فَكانَ عِنْدَ انْتِهاءِ ذَلِكَ بادِئَةُ خِطابٍ ﴿أمْ حَسِبْتُمْ﴾ تَجاوُزًا لِما بَيْنَ أوَّلِ البَعْثِ وغايَةِ دُخُولِ الجَنَّةِ - انْتَهى. ونَبَّهْتُ لِما الَّتِي فِيها مَعْنى التَّوَقُّعِ لِأنَّها في النَّفْيِ نَظِيرَةُ قَدْ في الإثْباتِ عَلى أنَّهُ كانَ يَنْبَغِي لَهم أنْ يَكُونَ دُخُولُهم (p-٢٠٧)فِي الدِّينِ عَلى بَصِيرَةٍ مِن حُصُولِ الشَّدائِدِ لِكَثْرَةِ المُخالِفِ والمُعانِدِ فَيَكُونُوا مُتَوَقِّعِينَ في كُلِّ وقْتٍ مُكابَدَةَ القَوارِعِ وحُلُولَ الصَّوادِعِ والصَّوارِعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أجَدَّ في أمْرِهِمْ وأجْدَرَ لَهم بِالثَّباتِ والِارْتِقاءِ إلى أعْلى الدَّرَجاتِ. ولَمّا كانَ كَأنَّهُ قِيلَ: ما ذَلِكَ المَثَلُ؟ أُجِيبُ بَيانًا بِقَوْلِهِ: ﴿مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ﴾ أيِ المَصائِبُ في الأمْوالِ ﴿والضَّرّاءُ﴾ أيْ في الأنْفُسِ - نَقَلَهُ أبُو عُبَيْدٍ الهَرَوِيُّ عَنِ الأزْهَرِيِّ، والأحْسَنُ عِنْدِي عَكْسُهُ، لِأنَّ البَأْسَ كَثِيرُ الِاسْتِعْمالِ في الحَرْبِ والضُّرَّ كَثِيرُ الِاسْتِعْمالِ في الفَقْرِ؛ أيْ جَزاءً لَهم كَما قالَ الحَرالِيُّ عَلى ما غَيَّرُوا مِمّا يَجْلِبُ كُلًّا مِنهُما ولِكُلِّ عَمَلٍ جَزاءٌ ﴿وزُلْزِلُوا﴾ لِأُمُورٍ باطِنَةٍ مِن خَفايا القُلُوبِ (p-٢٠٨)انْتَهى. والمَعْنى أنَّهم أُزْعِجُوا بِأنْواعِ البَلايا والرَّزايا والأهْوالِ والأفْزاعِ إزْعاجًا شَدِيدًا شَبِيهًا بِالزَّلْزَلَةِ الَّتِي تَكادُ تَهُدُّ الأرْضَ وتَدُكُّ الجِبالَ ﴿حَتّى يَقُولَ﴾ رَفَعَهُ نافِعٌ عَلى حِكايَةِ الحالِ في وقْتِها بِمَعْنى أنَّ الغايَةَ والمُغَيّا قَدْ وُجِدا ومَضَيا فَهُما ماضِيانِ وكَأنَّكَ تَحْكِي ذَلِكَ حِينَ وُقُوعِهِ مِثْلَ مَن يَقُولُ عَنْ مَرِيضٍ يُشاهِدُهُ: مَرِضَ حَتّى لا يَرْجُونَهُ، فَإنَّ النَّصْبَ بِتَقْدِيرِ أنَّ وهي عِلْمُ الِاسْتِقْبالِ فَهي لا تَنْصِبُ إلّا مُضارِعًا بِمَعْناهُ؛ ونَصَبَهُ الجَماعَةُ عَلى حِكايَةِ الحالِ أيْضًا لَكِنْ بِتَقْدِيرِ أنَّ الزِّلْزالَ مَشاهَدٌ والقَوْلَ مُنْتَظَرٌ حَقَّقَ ذَلِكَ المُتَبَيِّنُ حَتّى يَقُولَ: (p-٢٠٩)﴿الرَّسُولُ﴾ وهو أثْبَتُ النّاسَ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ وهُمُ الأثْبَتُ بَعْدَهُ لِطُولِ تَمادِي الزَّمانِ فِيما مَسَّهم وعَبَّرَ بِالمُضارِعِ تَصْوِيرًا لِحالِهِمْ وإشارَةً إلى تَكْرِيرِ ذَلِكَ مِن مَقالِهِمْ. وقالَ الحَرالِيُّ: فَذَكَرَ قَوْلَ الرَّسُولِ الواقِعِ في رُتْبَةِ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ لا قَوْلَهُ فِيما يَخُصُّهُ في ذاتِهِ وحْدَهُ ومَن هو مِنهُ أوْ مُتَّبِعِهِ، لِأنَّ لِلنَّبِيِّ تَرَتُّبًا فِيما يَظْهَرُ مِن قَوْلٍ وفِعْلٍ مَعَ رُتَبِ أُمَّتِهِ، فَكانَ قَوْلُ الرَّسُولِ المُنْبِئِ عَنْ حالِهِمْ ﴿مَتى نَصْرُ اللَّهِ﴾ فَكَأنَّهم في مِثْلِ تَرَقُّبِ المُتَلَدِّدِ الحائِرِ الَّذِي كَأنَّهُ وإنْ وعَدَ بِما هو الحَقُّ يُوقِعُ لَهُ التَّأْخِيرُ صُورَةَ الَّذِي انْبَهَمَ عَلَيْهِ الأمْرُ لِما يَرى مِنِ اجْتِثاثِ أسْبابِ الفَرَجِ، فَفي إشْعارِهِ إعْلامٌ بِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى إنَّما يُفَرِّجُ (p-٢١٠)عَنْ أنْبِيائِهِ ومَن مَعَهم بَعْدَ انْقِطاعِ أسْبابِهِمْ مِمَّنْ سِواهُ لِيَمْتَحِنَ قُلُوبَهم لِلتَّقْوى فَتَتَقَدَّسُ سَرائِرُهم مِنَ الرُّكُونِ لِشَيْءٍ مِنَ الخَلْقِ وتَتَعَلَّقَ ضَمائِرُهم بِاللَّهِ تَعالى وحْدَهُ حَتّى يَقُولَ ﷺ: «لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ، أنْجَزَ وعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزابَ وحْدَهُ» إعْلامًا بِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى ناصِرُهُ دُونَ حِجابٍ ولا وسِيلَةِ شَيْءٍ مِن خَلْقِهِ، كَذَلِكَ سُنَّتُهُ مَعَ رُسُلِهِ ﴿إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [غافر: ٥١] وعَلى ذَلِكَ جَرَتْ خَوارِقُ العاداتِ لِلْأوْلِياءِ وأهْلِ الكَراماتِ لا يَكادُ يَقَعُ لَهم إلّا عَنْ ضَرُورَةِ قَطْعِ الأسْبابِ، وفي قِراءَةِ النَّصْبِ إعْرابٌ بِأنَّ غايَةَ الزِّلْزالِ القَوْلُ، وفي الرَّفْعِ إعْرابٌ عَنْ غايَةِ الزِّلْزالِ وأنَّهُ أمْرٌ مُبْهَمٌ، لَهُ وقَعَ في البَواطِنِ والظَّواهِرِ، أحَدُ تِلْكَ الظَّواهِرِ وُقُوعُ هَذا القَوْلِ، فَفي الرَّفْعِ إنْباءٌ بِاشْتِدادِ الأمْرِ بِتَأْثِيرِهِ في ظاهِرِ القَوْلِ وما وراءَهُ - انْتَهى. وهُوَ في النَّصْبِ واضِحٌ فَإنَّ حَتّى مُسَلَّطَةٌ عَلى الفِعْلِ، وأمّا في الرَّفْعِ فَهي مَقْطُوعَةٌ عَنِ الفِعْلِ لِأنَّها لَمْ تَعْمَلْ فِيهِ لِمُضِيِّهِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ في الغايَةِ كُلَّ مَذْهَبٍ ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ شَيْءٌ (p-٢١١)مِن بَيانِها بِالفِعْلِ. ولَمّا كانَ مَعْنى الكَلامِ طَلَبَ النَّصْرِ واسْتِبْطاءَ الأمْرِ أجابَهم تَعالى إجابَةَ المُنادِي في حالِ اشْتِدادِ الضُّرِّ بِقَوْلِهِ: ﴿ألا﴾ قالَ الحَرالِيُّ: اسْتِفْتاحًا وتَنْبِيهًا وجَمْعًا لِلْقُلُوبِ لِلسَّماعِ ﴿إنَّ﴾ تَأْكِيدًا وتَثْبِيتًا ﴿نَصْرُ اللَّهِ﴾ الَّذِي لا سَبَبَ لَهُ إلّا العِنايَةُ مِن مَلِكِ المُلُوكِ بَعْدَ قَطْعِ كُلِّ سَبَبٍ مِن دُونِهِ ﴿قَرِيبٌ﴾ لِاسْتِغْنائِهِ عَنْ عُدَّةٍ ومُدَّةٍ، فَفي جُمْلَتِهِ بُشْرى بِإسْقاطِ كُلْفَةِ النَّصْرِ بِالأسْبابِ والعُدَدِ والآلاتِ المُتَعِيَّةِ، والِاسْتِغْناءِ بِتَعَلُّقِ القُلُوبِ بِاللَّهِ، ولِذَلِكَ إنَّما يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضُعَفائِها، لِأنَّ نُصْرَتَها بِتَقْوى القُلُوبِ لا بِمُدافَعَةِ الأجْسامِ، فَلِذَلِكَ تَفْتَحُ خاتِمَةُ هَذِهِ الأُمَّةِ ”قُسْطَنْطِينِيَّةَ الرُّومِ بِالتَّسْبِيحِ والتَّكْبِيرِ“ قالَ ﷺ: «إنّا إذا نَزَّلَنا بِساحَةِ قَوْمٍ فَساءَ صَباحُ المُنْذَرِينَ» فانْعَطَفَ ذَلِكَ عَلى ما أرادَهُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى بِأنْبِيائِهِ وأصْفِيائِهِ مِنَ اليُسْرِ الَّذِي كَمالُهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ فَأرادَ بِهِمُ اليُسْرَ في كُلِّ حالٍ - انْتَهى. وفِي بَعْضِ الآثارِ: إنَّما تُقاتِلُونَ النّاسَ بِأعْمالِكُمْ، والحاصِلُ أنَّهُ لا يَكْفِي مُجَرَّدُ ادِّعائِهِمُ الدُّخُولَ في السِّلْمِ بَلْ لا بُدَّ مِن إقامَةِ البَيِّنَةِ بِالصَّبْرِ (p-٢١٢)عَلى ما يَمْتَحِنُهم كَما امْتَحَنَ الأُمَمَ الخالِيَةَ والقُرُونَ الماضِيَةَ، فانْظُرْ هَذا التَّدْرِيبَ في مَصاعِدِ التَّأْدِيبِ، وتَأمَّلْ كَيْفَ أُلْقِيَ إلى العَرَبِ وإنْ كانَ الخِطابُ لِمَن آمَنَ ذِكْرُ القِيامَةِ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهم يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [البقرة: ٢١٢] والجَنَّةِ في قَوْلِهِ: ﴿أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ﴾ وهم يُنْكِرُونَهُما إلْقاءَ ما كَأنَّهُ مُحَقَّقٌ لا نِزاعَ فِيهِ تَأْنِيسًا لَهم بِذِكْرِهِما، وانْظُرْ ما في ذَلِكَ مِن بَدائِعِ الحِكَمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب