الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكُمْ﴾ نارًا أيْ نَوْعًا مِنَ النّارِ ﴿وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ﴾ تَتَّقِدُ بِهِما اتِّقادَ غَيْرِها بِالحَطَبِ، ووِقايَةُ النَّفْسِ عَنِ النّارِ بِتَرْكِ المَعاصِي وفِعْلِ الطّاعاتِ، ووِقايَةُ الأهْلِ بِحَمْلِهِمْ عَلى ذَلِكَ بِالنُّصْحِ والتَّأْدِيبِ، ورُوِيَ «أنَّ عُمَرَ قالَ حِينَ نَزَلَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ نَقِي أنْفُسَنا فَكَيْفَ لَنا بِأهْلِينا ؟ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: تَنْهَوْهُنَّ عَمّا نَهاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ وتَأْمُرُوهُنَّ بِما أمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ وِقايَةً بَيْنَهُنَّ وبَيْنَ النّارِ»» . وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وجَماعَةٌ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: عَلِّمُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكُمُ الخَيْرَ وأدَّبُوهم، والمُرادُ بِالأهْلِ عَلى ما قِيلَ: ما يَشْمَلُ الزَّوْجَةَ والوَلَدَ والعَبْدَ والأمَةَ. واسْتُدِلَّ بِها عَلى أنَّهُ يَجِبُ عَلى الرَّجُلِ تَعَلُّمُ ما يَجِبُ مِنَ الفَرائِضِ وتَعْلِيمُهُ لِهَؤُلاءِ، وأدْخَلَ بَعْضُهُمُ الأوْلادَ في الأنْفُسِ لِأنَّ الوَلَدَ بَعْضٌ مِن أبِيهِ، وفي الحَدِيثِ ««رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قالَ: يا أهْلاهُ صَلاتَكم صِيامَكم زَكاتَكم مَسْكَنَكم يَتِيمَكم جِيرانَكم لَعَلَّ اللَّهَ يَجْمَعُكم مَعَهُ في الجَنَّةِ»»، وقِيلَ: إنَّ أشَدَّ النّاسِ عَذابًا يَوْمَ القِيامَةِ مَن جَهِلَ أهْلَهُ. وقُرِئَ - وأهْلُوكم -بِالواوِ وهو عَطْفٌ عَلى الضَّمِيرِ في ﴿قُوا﴾ وحَسُنَ العَطْفُ لِلْفَصْلِ بِالمَفْعُولِ، والتَّقْدِيرُ عِنْدَ بَعْضٍ ولْيَقِ أهْلُوكم أنْفُسَهم ولَمْ يَرْتَضِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وذَكَرَ ما حاصِلُهُ أنَّ الأصْلَ ﴿قُوا﴾ أنْتُمْ وأهْلُوكم أنْفُسَكم وأنْفُسَهم بِأنْ يَقِيَ ويَحْفَظَ كُلٌّ مِنكم ومِنهم نَفْسَهُ عَمّا يُوبِقُها، فَقَدَّمَ أنْفُسَكم، وجَعَلَ الضَّمِيرَ المُضافَ إلَيْهِ الأنْفُسَ مُشْتَمِلًا عَلى الأهْلِينَ تَغْلِيبًا فَشَمِلَهُمُ الخِطابُ، وكَذا اعْتُبِرَ التَّغْلِيبُ في ﴿قُوا﴾، وفِيهِ (p-157) تَقْلِيلٌ لِلْحَذْفِ وإيثارُ العَطْفِ المُفْرَدِ الَّذِي هو الأصْلُ والتَّغْلِيبُ الَّذِي نُكْتَتُهُ الدَّلالَةُ عَلى الأصالَةِ والتَّبَعِيَّةِ. وقَرَأ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ «وُقُودُها» بِضَمِّ الواوِ أيْ ذُو وُقُودِها، وتَمامُ الكَلامِ في هَذِهِ الآيَةِ يُعْلَمُ مِمّا مَرَّ في سُورَةِ البَقَرَةِ ﴿عَلَيْها مَلائِكَةٌ﴾ أيْ أنَّهم مُوَكَّلُونَ عَلَيْها يَلُونَ أمْرَها وتَعْذِيبَ أهْلِها وهُمُ الزَّبانِيَةُ التِّسْعَةَ عَشَرَ قِيلَ: وأعْوانُهم ﴿غِلاظٌ شِدادٌ﴾ غِلاظُ الأقْوالِ شِدادُ الأفْعالِ، أوْ غِلاظُ الخُلُقِ شِدادُ الخَلْقِ أقْوِياءُ عَلى الأفْعالِ الشَّدِيدَةِ، أخْرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في زَوائِدِ الزُّهْدِ عَنْ أبِي عِمْرانَ الجَوْنِيِّ قالَ: بَلَغَنا أنَّ خَزَنَةَ النّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ ما بَيْنَ مَنكِبَيْ أحَدِهِمْ مَسِيرَةُ مِائَةِ خَرِيفٍ لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ رَحْمَةٌ إنَّما خُلِقُوا لِلْعَذابِ يَضْرِبُ المَلَكُ مِنهُمُ الرَّجُلَ مِن أهْلِ النّارِ الضَّرْبَةَ فَيَتْرُكُهُ طَحْنًا مِن لَدُنْ قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهُمْ﴾ صِفَةٌ أُخْرى - لِمَلائِكَةٍ - وما في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى البَدَلِ أيْ لا يَعْصُونَ ما أمَرَ اللَّهُ أيْ ما أمَرَهُ تَعالى كَقَوْلِهِ تَعالى:﴿أفَعَصَيْتَ أمْرِي﴾ [طَهَ: 93] أوْ عَلى إسْقاطِ الجارِّ أيْ لا يَعْصُونَ فِيما أمَرَهم بِهِ ﴿ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ أيِ الَّذِي يَأْمُرُهم عَزَّ وجَلَّ بِهِ، والجُمْلَةُ الأُولى لِنَفْيِ المُعانَدَةِ والِاسْتِكْبارِ عَنْهم صَلَواتُ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِمْ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ [الأعْرافَ: 206]، والثّانِيَةُ لِإثْباتِ الكِياسَةِ لَهم ونَفْيِ الكَسَلِ عَنْهم فَهي كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ إلى ﴿لا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنْبِياءَ: 19، 20]، وبِعِبارَةٍ أُخْرى إنَّ الأُولى لِبَيانِ القَبُولِ باطِنًا فَإنَّ العِصْيانَ أصْلُهُ المَنعُ والإباءُ، وعِصْيانُ الأمْرِ صِفَةُ الباطِنِ بِالحَقِيقَةِ لِأنَّ الإتْيانَ بِالمَأْمُورِ إنَّما يُعَدُّ طاعَةً إذا كانَ بِقَصْدِ الِامْتِثالِ فَإذًا نَفْيُ العِصْيانِ عَنْهم دَلَّ عَلى قَبُولِهِمْ وعَدَمِ إبائِهِمْ باطِنًا، والثّانِيَةُ لِأداءِ المَأْمُورِ بِهِ مِن غَيْرِ تَثاقُلٍ وتَوانٍ عَلى ما يُشْعِرُ بِهِ الِاسْتِمْرارُ المُسْتَفادُ مِن ”يَفْعَلُونَ“ فَلا تَكْرارَ، وفي الحُصُولِ ﴿لا يَعْصُونَ﴾ فِيما مَضى عَلى أنَّ المُضارِعَ لِحِكايَةِ الحالِ الماضِيَةِ ﴿ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ في الآتِي. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن بابِ الطَّرْدِ والعَكْسِ وهو كُلُّ كَلامَيْنِ يُقَرِّرُ الأوَّلُ بِمَنطُوقِهِ مَفْهُومَ الثّانِي وبِالعَكْسِ مُبالَغَةً في أنَّهم لا تَأْخُذُهم رَأْفَةٌ في تَنْفِيذِ أوامِرِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ والغَضَبِ لَهُ سُبْحانَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب