وأصله: «ثَيْوب» ك «سيِّد وميِّت» أصلهما: «سَيْود ومَيْوت» على الإعلال المشهور.
والمعنى: منهن ثيّب، ومنهن بِكْر.
قيل: إنما سميت ثيِّباً؛ لأنها راجعة إلى زوجها إن أقام معها، وإلى غيره إن فارقها.
وقيل: لأنها ثابت إلى بيت أبويها.
قال القرطبي: «والأول أصح؛ لأن ليس كل ثيبت تعود إلى زوج، وأما البكر: فهي العذراء، سميت بكراً؛ لأنها على أول حالتها التي خلقت بها» .
قال ابن الخطيب: فإن قيل: ذكر الثيبات في مقام المدحِ، وهي من جملة ما يقل رغبة الرجال فيهن؟ .
فالجوابُ: يمكن أن يكون بعض الثيبات خيراً بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لاختصاصهن بالمال، والجمال، أو النسب، أو المجموع، وإذا كان كذلك، فلا يقدح ذكر الثَّيِّب في المدح، لجواز ذلك.
وقال الكلبيُّ: أراد بالثيِّب مثل: آسية امرأة فرعون، وبالبكر مثل: مريم ابنة عمران.
قال القرطبيُّ: «وهذا إنما يمشي على قول من قال: إن التبديل وعد من الله لنبيه لو طلقهن في الدنيا زوجه في الآخرة خيراً منهن، والله أعلم» .
قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾ .
«قُوْا» أمر من الوقاية، فوزنه «عُو» ؛ لأن الفاء حذفت لوقوعها في المضارع بين ياء وكسرة، وهذا محمول عليه، واللام حذفت حملاً له على المجزوم؛ لأن أصله «أوقيوا» ك «اضربوا» فحذفت الواو التي هي فاء لما تقدم، واستثقلت الضمة على الياء، فالتقى ساكنانِ، فحذفت الياء؛ وضم ما قبل الواو لتصح.
وهذا تعليل البصريين.
ونقل مكي عن الكوفيين: أن الحذف عندهم فرقاً بين المتعدي، والقاصر، فحذفت الواو التي هي فاء في «يَقِي، ويَعِد» لتعديهما، ولم يحذف من «يَوْجَلُ» لقصوره.
قال: «ويرد عليهم نحو: يَرمِ، فإنه قاصر، ومع ذلك فقد حذفوا فاءه» .
قال شهاب الدين: وفي هذا نظر؛ لأن «يَوْجَلُ» لم تقع فيه الواو بين ياء وكسرة لا ظاهرة ولا مضمرة.
وقلت: ولا مضمرة، تحرُّزاً من «تَضَع، ويَسَع، ويهب» .
وقرأ بعضهم: «وأهْلُوكُمْ» .
وخرجت على العطف على الضَّمير المرفوع ب «قُوْا» ، وجوز ذلك الفصل بالمفعول قال الزمخشريُّ بعد ذكره القراءة وتخريجها: فإن قلت: أليس التقديرُ: «قُوا أنفُسكُمْ وليَقِ أهلوكم أنفسهم» ؟ .
قلت: لا، ولكن المعطوف في التقدير مقارن للواو، و «أنْفُسَكُمْ» واقع بعده، كأنه قيل: قوا أنتم، وأهلوكم أنفسكم، لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه، فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب.
قوله: «ناراً» مفعول ثانٍ، «وقُودُهَا النَّاسُ» صفة ل «نَاراً» وكذلك «عَليْهَا مَلائكةٌ» ، ويجوز أن يكون الوصف وحده «عَليْهَا» ، و «مَلائِكَةٌ» فاعل به، ويجوز أن يكون حالاً لتخصيصها بالصفة الأولى، وكذلك ﴿لاَّ يَعْصُونَ الله﴾ .
وتقدم الخلاف في واو ﴿وَقُودُهَا﴾ [البقرة: 24] ضمًّا وفتحاً في «البقرة» .
* فصل في معنى الآية
قال الضحاك: المعنى: قو أنفسكم؛ وأهلوكم، فليقوا أنفسهم ناراً.
وروي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: قوا أنفسكم وأمروا أهليكم بالذكر، والدعاء، حتى يقيهم الله بكم.
وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقتادة ومجاهدٌ: قوا أنفسكم بأفعالكم، وقوا أهليكم بوصيتكم.
قال ابن العربي: وهو الصحيحُ، والفقهُ الذي يعطيه العطفُ الذي يقتضي التشريك بين المعطوف؛ والمعطوف عليه في معنى الفعل.
كقوله: [الرجز]
4788 - عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً..... ... ... ... ... ... ... ... .
وكقوله: [مجزوء الكامل]
4789 - ورَأيْتُ زَوْجَكِ فِي الوَغَى ... مُتَقلِّداً سَيْفاً ورُمْحا
فعلى الرجل أن يصلح نفسه بالطاعة، ويصلح أهله صلاح الراعي للرعيَّة.
قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
«كُلُّكُمْ راعٍ، وكُلُّكُمْ مسْئُولٌ عن رعيَّتِهِ، فالإمامُ الَّذي على النَّاسِ راعٍ وهُوَ مَسْئُولٌ عَنهُمْ، والرَّجلُ راعٍ على أهْلِ بَيْتهِ وهُوَ مسْئُولٌ عَنْهُمْ» .
قال الحسن في هذه الآية: يأمرهم، وينهاهم.
وقال بعض العلماء لما قال: «قُو أنفُسَكُمْ» : دخل فيه الأولاد؛ لأن الولد بعض منه كما دخلوا في قوله تعالى: ﴿وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ﴾ [النور: 61] ، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ أحلَّ مَا أكلَ الرَّجلُ من كسْبِهِ، وإنَّ ولدهُ مِنْ كسْبِهِ» فلم يفرد بالذّكر إفراد سائر القرابات، فيعلمه الحلال والحرام، ويجنبه المعاصي والآثام إلى غير ذلك من الأحكام.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «حَقُّ الولدِ على الوالِدِ، أنْ يُحْسِنَ اسْمَهُ، ويُعلِّمهُ الكِتابَةَ، ويزَوِّجهُ إذا بلَغَ» .
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَا نَحَلَ والدٌ ولَداً أفْضَل مِنْ أدبٍ حسنٍ» .
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مُرُوا أبْناءَكُمْ بالصَّلاة لسَبْعٍ؛ واضْربُوهُمْ على تَرْكِهَا لعشْرٍ، وفرِّقُوا بَيْنَهُم في المَضَاجِعِ» .
قال بعض العلماء: ويخبر أهله بوقت الصلاة، ووجوب الصيام.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «رَحِمَ اللَّهُ امْرءاً قَامَ مِنْ اللَّيلِ يُصلِّي، فأيقظَ أهلَهُ، فإنْ لَمْ تَقُم رشَّ على وجهِهِا المَاءَ، ورحِمَ اللَّهُ امْرَأةً قَامَتْ في اللَّيْلِ تُصلِّي، وأيْقَظَتْ زوْجَهَا، فإنْ لم يَقُمْ رشَّتْ على وجْهِهِ المَاء» .
وذكر القشيريُّ قال: «فلما نزلت هذه الآية، قال رجلٌ: يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا؟ .
فقال:» تنهونهم عما نهاكم الله، وتأمرونهم بما أمر الله «» .
وقال مقاتلٌ: ذلك حق عليه في نفسه، وولده، وأهله، وعبيده، وإمائه.
قال إلكيا: فعلينا تعليم أولادنا، وأهلينا الدين، والخير، وما لا يستغنى عنه من الأدب.
وهو قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا﴾ [طه: 132] ، وقوله للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين﴾ [الشعراء: 14] .
وتقدم الكلام على قوله: ﴿وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ في «البقرة» .
* فصل في مخاطبة الله تعالى للمؤمنين
قال ابن الخطيب: فإن قيل: إنه - تعالى - خاطب المشركين في قوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة﴾ [البقرة: 24] ، ثم قال: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ فما معنى مخاطبته للمؤمنين بذلك؟ .
فالجوابُ: أن الفساق، وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكُفَّار، فإنهم مع الكُفَّار في دار واحدة، فقيل للذين آمنوا: «قُوا أنفُسَكُمْ» باجتناب الفسوقِ ومجاورة الذين أعدت لهم هذه النار، ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقِّي عن الارتداد.
قوله: ﴿عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ﴾ .
يعني الزَّبَانية، غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا، خلقوا من الغضب، وحبب إليهم عذاب الخلقِ، كما حبب لبني آدم الطعام، والشراب «شِدادٌ» ، أي: شداد الأبدان وقيل: غلاظ الأقوال شدادُ الأفعالِ.
وقيل: «غِلاظٌ» في أخذهم أهل النار «شِدادٌ» عليهم، يقال: فلان شديد على فلان، أي: قوي عليه يعذبه بأنواع العذاب.
وقيل: أغلاظ أجسامهم ضخمة «شِدادٌ» أي: أقوياء.
قال ابن عبَّاس: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة.
وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في خزنة جهنم: «مَا بَيْنَ منْكبَيْ أحدهِمْ كَمَا بَيْنَ المَشْرقِ والمَغْربِ» .
قوله: ﴿لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ﴾ .
يجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف، أي: «مَا أمَرَهُمُوهُ» ، والأصل: «بِهِ» ، لا يقال: كيف حذف العائد المجرور، ولم يجر الموصول بمثله؟ لأنه يطرد حذف هذا الحرف فلم يحذف إلا منصوباً.
وأن تكون مصدرية، ويكون محلها بدلاً من اسم الله بدل اشتمال، كأنه قيل: لا يعصون أمره.
وقوله: ﴿وَيَفْعَلُونَ﴾ .
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: أليست الجملتان في معنى واحد؟ .
قلت: لا؛ لأن الأولى معناها: أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها.
والثانية: معناها أنهم يؤدّون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه، ولا يتوانون فيه» .
وقال القرطبي: ﴿لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ﴾ أي: لا يخالفونه في أمر من زيادة، أو نقصان ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ في وقته لا يقدمونه، ولا يؤخرونه.
وقيل: أي: لذتهم في امتثال أمر اللَّهِ، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة، ذكره بعض المعتزلة، وعندهم أنه يستحيل التكليف غداً، ولا يخفى معتقد أهل الحقِّ في أن الله يكلف العبد اليوم وغداً، ولا ينكر التكليف غداً في حق الملائكةِ، ولله أن يفعل ما يشاء.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارࣰا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَیۡهَا مَلَـٰۤىِٕكَةٌ غِلَاظࣱ شِدَادࣱ لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ"}