الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {قُوا} [التحريم: 6]: قَالَ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ: مَعْنَاهُ اصْرِفُوا، وَتَحْقِيقُهَا اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهَا وِقَايَةً. وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ». الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَأْوِيلِهَا. وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَاهُ قُوا أَنْفُسَكُمْ، وَأَهْلِيكُمْ فَلْيَقُوا أَنْفُسَهُمْ.
الثَّانِي: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَمُرُوا أَهْلِيكُمْ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ.
الثَّالِثُ: قُوا أَنْفُسَكُمْ بِفِعَالِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ بِوَصِيَّتِكُمْ إيَّاهُمْ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَالْفِقْهُ الَّذِي يُعْطِيهِ الْعَطْفُ الَّذِي يَقْتَضِي التَّشْرِيكَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ:
عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
وَكَقَوْلِهِ:
وَرَأَيْت زَوْجَك فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
فَعَلَى الرَّجُلُ أَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ بِالطَّاعَةِ، وَيُصْلِحَ أَهْلَهُ إصْلَاحَ الرَّاعِي لِلرَّعِيَّةِ؛ فَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ». وَعَنْ هَذَا عَبَّرَ الْحَسَنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ.
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ»؛ خَرَّجَهُ جَمَاعَةٌ. وَهَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد، وَخُرِّجَ أَيْضًا عَنْ سَمُرَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، فَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا».
وَكَذَلِكَ يُخْبِرُ أَهْلَهُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَوُجُوبِ الصِّيَامِ، وَوُجُوبِ الْفِطْرِ إذَا وَجَبَ، مُسْتَنِدًا فِي ذَلِكَ إلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَوْتَرَ يَقُولُ: قُومِي فَأَوْتِرِي يَا عَائِشَةُ».
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي فَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، فَإِنْ لَمْ تَقُمْ رَشَّ وَجْهَهَا بِالْمَاءِ. رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنْ اللَّيْلِ تُصَلِّي وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ رَشَّتْ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ الْمَاءِ».
وَمِنْهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ».
وَيَدْخُلُ هَذَا فِي عُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَقَدْ تَقَدَّمَ.
[مَسْأَلَة يُؤَدِّبُ أَهْلَهُ فِيمَا يُصْلِحُهُ وَيُصْلِحُهُمْ أَدَبًا خَفِيفًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْزِيرِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَكَمَا يُؤَدِّبُ وَلَدَهُ فِي مَصْلَحَتِهِمْ فَكَذَلِكَ يُؤَدِّبُ أَهْلَهُ فِيمَا يُصْلِحُهُ وَيُصْلِحُهُمْ أَدَبًا خَفِيفًا عَلَى طَرِيقِ التَّعْزِيرِ.
وَلَيْسَ يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي شَرْطِهَا الْمُحْدَثِ الَّذِي يَكْتُبُهُ الْمُتَصَدِّرُونَ وَيَقُولُونَ: وَلَا يَضْرِبُهَا فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ فَعَلَ فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا؛ فَيَظُنُّ الْمُتَصَدِّرُونَ مِنْ الْمُفْتِينَ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَدَبَهَا كَانَ أَمْرُهَا بِيَدِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إنَّمَا يَجِبُ لَهَا الْخِيَارُ إذَا كَانَ ضَرْبُهَا ابْتِدَاءً، أَوْ عَلَى غَيْرِ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِذَلِكَ، وَهُوَ الضَّرَرُ.
فَأَمَّا مَا يُصْلِحُ الزَّوْجَ وَيُصْلِحُ الْمَرْأَةَ فَلَيْسَ ضَرَرًا، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى حَدِّ الضَّرَرِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَبَيَّنَّا حَدَّهُ الَّذِي يُخْرِجُ عَنْ الْحُدُودِ وَالْآدَابِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ. وَالتَّقْرِيبُ فِيهِ الْآنَ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ الْأَلَمُ الَّذِي لَا نَفْعَ مَعَهُ يُوَازِيهِ أَوْ يَرْبَى عَلَيْهِ.
[مَسْأَلَة إقَامَةُ الرَّجُلِ حَدَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ وِقَايَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ إقَامَةُ الرَّجُلِ حَدَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارࣰا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَیۡهَا مَلَـٰۤىِٕكَةٌ غِلَاظࣱ شِدَادࣱ لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ"}