الباحث القرآني
* (فصل)
(ومن خط القاضي)
قوله تعالى: ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾
قال: المراد الأمر في الدنيا لأن الآخرة ليس فيها أمر ولا نهي على الملائكة ولا غيرهم لأن التعبد زائل.
وفي البخاري عن علي: "اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل".
قلتُ: هذا وهمٌ منه رحمه الله تعالى فإن الله تعالى يأمر الملائكة يوم القيامة بأخذ الكفار والمجرمين إلى النار وسوقهم إليها وتعذيبهم فيها، ويأمر عباده بالسجود له فيخرون سجدا إلا من منعه الله من السجود، ويأمر المؤمنين فيعبرون الصراط ويأمر خزنة الجنة بفتحها لهم ويأمر خزنة النار بفتحها لأهلها، ويأمر ملائكة السماوات بالنزول إلى الأرض، ويأمر بشأن البعث كله وما بعده، فالأمر يومئذ لله ولا يعصى الله في ذلك اليوم طرفة عين، وأوامره ذلك اليوم للثواب والعقاب والشفاعة للملائكة والأنبياء وغيرهم تضبطها قدرة الخالق.
فكيف يقال: ليس في الآخرة أمر ولا نهي حتى يقال لا يعصون الله تعالى ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون في الدنيا؟
أفترى الله عز وجل لا يأمرهم يوم القيامة في أمر النار بشيء فلا يعصون فيه، ويفعلون ما يؤمرون فيه.
نعم ليست الآخرة دار حرث، وإنما هي دار حصاد.
وأوامر الرب ونواهيه ثابتة في الدارين، وكذلك أوامر التكليف ثابتة في البرزخ ويوم القيامة.
وحكاه أبو الحسن الأشعري في مقالاته عن أهل السنة في تكليف من لم تبلغه الدعوة في الدنيا أن يكلفوا يوم القيامة.
فقول القائل: الآخرة ليست دار تكليف ولا أمر ولا نهي قول باطل ودعوى فاسدة والله تعالى الموفق.
* (فائدة)
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن صالحي بني آدم والملائكة أيهما أفضل؟
فأجاب: بأن صالحي البشر أفضل باعتبار كمال النهاية، والملائكة أفضل باعتبار البداية.
فإن الملائكة الآن في الرفيق الأعلى منزهين عما يلابسه بنو آدم مستغرقون في عبادة الرب، ولا ريب أن هذه الأحوال الآن أكمل من أحوال البشر.
وأما يوم القيامة بعد دخول الجنة فيصير حال صالحي البشر أكمل من حال الملائكة".
وبهذا التفصيل يتبين سر التفضيل وتتفق أدلة الفريقين، ويصالح كل منهم على حقه، فعلى المتكلم في هذا الباب أن يعرف أسباب الفضل: أولا: ثم درجاتها ونسبة بعضها إلى بعض، والموازنة بينها ثانيا، ثم نسبتها إلى من قامت به ثالثا كثرة وقوة، ثم اعتبار تفاوتها بتفاوت محلها رابعا.
فرب صفة هي كمال لشخص وليست كمالا لغيره بل كمال غيره بسواها، فكمال خالد بن الوليد بشجاعته وحروبه، وكمال ابن عباس بفقهه وعلمه، وكمال أبي ذر بزهده وتجرده عن الدنيا.
فهذه أربع مقامات يضطر إليها المتكلم في درجات التفضيل، وتفضيل الأنواع على الأنواع أسهل من تفضيل الأشخاص على الأشخاص، وأبعد من الهوى والغرض.
وهاهنا نكتة خفية لا ينتبه لها إلا من بصره الله، وهي أن كثيرا ممن يتكلم في التفضيل يستشعر نسبته وتعلقه بمن يفضِّله ولو على بُعدٍ، ثم يأخذ في تقريظه وتفضيله، وتكون تلك النسبة والتعلق مهيجة له على التفضيل والمبالغة فيه، واستقصاء محاسن المفضَّل، والإغضاء عما سواها، ويكون نظره في المفضل عليه بالعكس.
ومن تأمل كلام أكثر الناس في هذا الباب رأى غالبه غير سالم من هذا، وهذا مناف لطريقة العلم والعدل التي لا يقبل الله سواها، ولا يرضي غيرها.
* [فصل: اخْتِلافُ الفُقَهاءِ في تَعْيِينِ أحَدِ الأبَوَيْنِ لِمُقامِ البِنْتِ عِنْدَهُ]
ثُمَّ هاهُنا حَصَلَ الِاجْتِهادُ في تَعْيِينِ أحَدِ الأبَوَيْنِ لِمُقامِها عِنْدَهُ وأيُّهُما أصْلَحُ لَها، فمالك وأبو حنيفة وأحمد في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ عَيَّنُوا الأُمَّ، وهو الصَّحِيحُ دَلِيلًا، وأحمد رَحِمَهُ اللَّهُ في المَشْهُورِ عَنْهُ، واخْتِيارُ عامَّةِ أصْحابِهِ عَيَّنُوا الأبَ.
قالَ مَن رَجَّحَ الأُمَّ: قَدْ جَرَتِ العادَةُ بِأنَّ الأبَ يَتَصَرَّفُ في المَعاشِ،
والخُرُوجِ، ولِقاءِ النّاسِ، والأُمُّ في خِدْرِها، مَقْصُورَةٌ في بَيْتِها، فالبِنْتُ عِنْدَها أصْوَنُ وأحْفَظُ بِلا شَكٍّ، وعَيْنُها عَلَيْها دائِمًا بِخِلافِ الأبِ، فَإنَّهُ في غالِبِ الأوْقاتِ غائِبٌ عَنِ البِنْتِ، أوْ في مَظِنَّةِ ذَلِكَ، فَجَعْلُها عِنْدَ أُمِّها أصْوَنُ لَها وأحْفَظُ.
قالُوا: وكُلُّ مَفْسَدَةٍ يَعْرِضُ وُجُودُها عِنْدَ الأُمِّ فَإنَّها تَعْرِضُ أوْ أكْثَرُ مِنها عِنْدَ الأبِ، فَإنَّهُ إذا تَرَكَها في البَيْتِ وحْدَها لَمْ يَأْمَن عَلَيْها، وإنْ تَرَكَ عِنْدَها امْرَأتَهُ أوْ غَيْرَها فالأُمُّ أشْفَقُ عَلَيْها وأصْوَنُ لَها مِنَ الأجْنَبِيَّةِ.
قالُوا: وأيْضًا فَهي مُحْتاجَةٌ إلى تَعَلُّمِ ما يَصْلُحُ لِلنِّساءِ مِنَ الغَزْلِ والقِيامِ بِمَصالِحِ البَيْتِ، وهَذا إنَّما تَقُومُ بِهِ النِّساءُ لا الرِّجالُ، فَهي أحْوَجُ إلى أُمِّها لِتُعَلِّمَها ما يَصْلُحُ لِلْمَرْأةِ، وفي دَفْعِها إلى أبِيها تَعْطِيلُ هَذِهِ المَصْلَحَةِ، وإسْلامُها إلى امْرَأةٍ أجْنَبِيَّةٍ تُعَلِّمُها ذَلِكَ، وتَرْدِيدُها بَيْنَ الأُمِّ وبَيْنَهُ، وفي ذَلِكَ تَمْرِينٌ لَها عَلى البُرُوزِ والخُرُوجِ، فَمَصْلَحَةُ البِنْتِ والأُمِّ والأبِ أنْ تَكُونَ عِنْدَ أُمِّها، وهَذا القَوْلُ هو الَّذِي لا نَخْتارُ سِواهُ.
قالَ مَن رَجَّحَ الأبَ: الرِّجالُ أغْيَرُ عَلى البَناتِ مِنَ النِّساءِ، فَلا تَسْتَوِي غَيْرَةُ الرَّجُلِ عَلى ابْنَتِهِ وغَيْرَةُ الأُمِّ أبَدًا، وكَمْ مِن أُمٍّ تُساعِدُ ابْنَتَها عَلى ما تَهْواهُ، ويَحْمِلُها عَلى ذَلِكَ ضَعْفُ عَقْلِها، وسُرْعَةُ انْخِداعِها، وضَعْفُ داعِي الغَيْرَةِ في طَبْعِها، بِخِلافِ الأبِ؛ ولِهَذا المَعْنى وغَيْرِهِ جَعَلَ الشّارِعُ تَزْوِيجَها إلى أبِيها دُونَ أُمِّها، ولَمْ يَجْعَلْ لِأُمِّها وِلايَةً عَلى بُضْعِها ألْبَتَّةَ، ولا عَلى مالِها، فَكانَ مِن مَحاسِنِ الشَّرِيعَةِ أنْ تَكُونَ عِنْدَ أُمِّها ما دامَتْ مُحْتاجَةً إلى الحَضانَةِ والتَّرْبِيَةِ، فَإذا بَلَغَتْ حَدًّا تُشْتَهى فِيهِ وتَصْلُحُ لِلرِّجالِ، فَمِن مَحاسِنِ الشَّرِيعَةِ أنْ تَكُونَ عِنْدَ مَن هو أغْيَرُ عَلَيْها، وأحْرَصُ عَلى مَصْلَحَتِها، وأصْوَنُ لَها مِنَ الأُمِّ.
قالُوا: ونَحْنُ نَرى في طَبِيعَةِ الأبِ وغَيْرِهِ مِنَ الرِّجالِ مِنَ الغَيْرَةِ، ولَوْ مَعَ فِسْقِهِ وفُجُورِهِ ما يَحْمِلُهُ عَلى قَتْلِ ابْنَتِهِ وأُخْتِهِ ومُوَلِّيَتِهِ إذا رَأى مِنها ما يُرِيبُهُ لِشِدَّةِ الغَيْرَةِ، ونَرى في طَبِيعَةِ النِّساءِ مِنَ الِانْحِلالِ والِانْخِداعِ ضِدَّ ذَلِكَ، قالُوا: فَهَذا هو الغالِبُ عَلى النَّوْعَيْنِ، ولا عِبْرَةَ بِما خَرَجَ عَنِ الغالِبِ، عَلى أنّا إذا قَدَّمْنا أحَدَ الأبَوَيْنِ فَلا بُدَّ أنْ نُراعِيَ صِيانَتَهُ وحِفْظَهُ لِلطِّفْلِ؛ ولِهَذا قالَ مالك والليث: إذا لَمْ تَكُنِ الأُمُّ في مَوْضِعِ حِرْزٍ وتَحْصِينٍ، أوْ كانَتْ غَيْرَ مَرْضِيَّةٍ، فَلِلْأبِ أخْذُ البِنْتِ مِنها، وكَذَلِكَ الإمامُ أحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ في الرِّوايَةِ المَشْهُورَةِ عَنْهُ، فَإنَّهُ يَعْتَبِرُ قُدْرَتَهُ عَلى الحِفْظِ والصِّيانَةِ. فَإنْ كانَ مُهْمِلًا لِذَلِكَ، أوْ عاجِزًا عَنْهُ، أوْ غَيْرَ مَرْضِيٍّ، أوْ ذا دِياثَةٍ، والأُمُّ بِخِلافِهِ - فَهي أحَقُّ بِالبِنْتِ بِلا رَيْبٍ، فَمَن قَدَّمْناهُ بِتَخْيِيرٍ أوْ قُرْعَةٍ أوْ بِنَفْسِهِ، فَإنَّما نُقَدِّمُهُ إذا حَصَلَتْ بِهِ مَصْلَحَةُ الوَلَدِ، ولَوْ كانَتِ الأُمُّ أصْوَنَ مِنَ الأبِ وأغْيَرَ مِنهُ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ، ولا التِفاتَ إلى قُرْعَةٍ ولا اخْتِيارِ الصَّبِيِّ في هَذِهِ الحالَةِ، فَإنَّهُ ضَعِيفُ العَقْلِ يُؤْثِرُ البَطالَةَ واللَّعِبَ، فَإذا اخْتارَ مَن يُساعِدُهُ عَلى ذَلِكَ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلى اخْتِيارِهِ، وكانَ عِنْدَ مَن هو أنْفَعُ لَهُ وأخْيَرُ، ولا تَحْتَمِلُ الشَّرِيعَةُ غَيْرَ هَذا، والنَّبِيُّ ﷺ قَدْ قالَ: «مُرُوهم بِالصَّلاةِ لِسَبْعٍ، واضْرِبُوهم عَلى تَرْكِها لِعَشْرٍ، وفَرِّقُوا بَيْنَهم في المَضاجِعِ»، واللَّهُ تَعالى يَقُولُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكم نارًا وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ﴾ [التحريم: ٦].
وَقالَ الحسن: عَلِّمُوهم وأدِّبُوهم وفَقِّهُوهُمْ، فَإذا كانَتِ الأُمُّ تَتْرُكُهُ في المَكْتَبِ، وتُعَلِّمُهُ القُرْآنَ، والصَّبِيُّ يُؤْثِرُ اللَّعِبَ ومُعاشَرَةَ أقْرانِهِ، وأبُوهُ يُمَكِّنُهُ مِن ذَلِكَ، فَإنَّهُ أحَقُّ بِهِ بِلا تَخْيِيرٍ ولا قُرْعَةٍ، وكَذَلِكَ العَكْسُ، ومَتى أخَلَّ أحَدُ الأبَوَيْنِ بِأمْرِ اللَّهِ ورَسُولِهِ في الصَّبِيِّ وعَطَّلَهُ، والآخَرُ مُراعٍ لَهُ فَهو أحَقُّ وأوْلى بِهِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَنا رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: تَنازَعَ أبَوانِ صَبِيًّا عِنْدَ بَعْضِ الحُكّامِ، فَخَيَّرَهُ بَيْنَهُما، فاخْتارَ أباهُ، فَقالَتْ لَهُ أُمُّهُ: سَلْهُ لِأيِّ شَيْءٍ يَخْتارُ أباهُ، فَسَألَهُ فَقالَ: أُمِّي تَبْعَثُنِي كُلَّ يَوْمٍ لِلْكُتّابِ، والفَقِيهُ يَضْرِبُنِي، وأبِي يَتْرُكُنِي لِلَّعِبِ مَعَ الصِّبْيانِ، فَقَضى بِهِ لِلْأُمِّ، قالَ: أنْتِ أحَقُّ بِهِ.
قالَ شَيْخُنا: وإذا تَرَكَ أحَدُ الأبَوَيْنِ تَعْلِيمَ الصَّبِيِّ، وأمْرَهُ الَّذِي أوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَهو عاصٍ، ولا وِلايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، بَلْ كُلُّ مَن لَمْ يَقُمْ بِالواجِبِ في وِلايَتِهِ، فَلا وِلايَةَ لَهُ، بَلْ إمّا أنْ تُرْفَعَ يَدُهُ عَنِ الوِلايَةِ ويُقامَ مَن يَفْعَلُ الواجِبَ، وإمّا أنْ يُضَمَّ إلَيْهِ مَن يَقُومُ مَعَهُ بِالواجِبِ؛ إذِ المَقْصُودُ طاعَةُ اللَّهِ ورَسُولِهِ بِحَسَبِ الإمْكانِ. قالَ شَيْخُنا: ولَيْسَ هَذا الحَقُّ مِن جِنْسِ المِيراثِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالرَّحِمِ والنِّكاحِ والوَلاءِ، سَواءٌ كانَ الوارِثُ فاسِقًا أوْ صالِحًا، بَلْ هَذا مِن جِنْسِ الوِلايَةِ الَّتِي لا بُدَّ فِيها مِنَ القُدْرَةِ عَلى الواجِبِ والعِلْمِ بِهِ، وفِعْلِهِ بِحَسَبِ الإمْكانِ. قالَ: فَلَوْ قُدِّرَ أنَّ الأبَ تَزَوَّجَ امْرَأةً لا تُراعِي مَصْلَحَةَ ابْنَتِهِ، ولا تَقُومُ بِها وأُمُّها أقْوَمُ بِمَصْلَحَتِها مِن تِلْكَ الضَّرَّةِ، فالحَضانَةُ هُنا لِلْأُمِّ قَطْعًا، قالَ: ومِمّا يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ أنَّ الشّارِعَ لَيْسَ عَنْهُ نَصٌّ عامٌّ في تَقْدِيمِ أحَدِ الأبَوَيْنِ مُطْلَقًا، ولا تَخْيِيرِ الوَلَدِ بَيْنَ الأبَوَيْنِ مُطْلَقًا، والعُلَماءُ مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ أحَدُهُما مُطْلَقًا، بَلْ لا يُقَدَّمُ ذُو العُدْوانِ والتَّفْرِيطِ عَلى البَرِّ العادِلِ المُحْسِنِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الأدَبِ]
[تَعْرِيفُ الأدَبِ]
* فَصْلٌ مَنزِلَةُ الأدَبِ
وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الأدَبِ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكم نارًا وقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ﴾ [التحريم: ٦]
قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: أدِّبُوهم وعَلِّمُوهم.
وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ مُؤْذِنَةٌ بِالِاجْتِماعِ. فالأدَبُ: اجْتِماعُ خِصالِ الخَيْرِ في العَبْدِ، ومِنهُ المَأْدُبَةُ.
وَهِيَ الطَّعامُ الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النّاسُ.
وَعِلْمُ الأدَبِ: هو عِلْمُ إصْلاحِ اللِّسانِ والخِطابِ، وإصابَةِ مَواقِعِهِ، وتَحْسِينِ ألْفاظِهِ، وصِيانَتِهِ عَنِ الخَطَأِ والخَلَلِ.
وَهُوَ شُعْبَةٌ مِنَ الأدَبِ العامِّ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ أنْواعُ الأدَبِ]
والأدَبُ ثَلاثَةُ أنْواعٍ: أدَبٌ مَعَ اللَّهِ سُبْحانَهُ. وأدَبٌ مَعَ رَسُولِهِ ﷺ وشَرْعِهِ. وأدَبٌ مَعَ خُلُقِهِ.
فالأدَبُ مَعَ اللَّهِ ثَلاثَةُ أنْواعٍ:
أحَدُها: صِيانَةُ مُعامَلَتِهِ أنْ يَشُوبَها بِنَقِيصَةٍ.
الثّانِي: صِيانَةُ قَلْبِهِ أنْ يَلْتَفِتَ إلى غَيْرِهِ.
الثّالِثُ: صِيانَةُ إرادَتِهِ أنْ تَتَعَلَّقَ بِما يَمْقُتُكَ عَلَيْهِ.
قالَ أبُو عَلِيٍّ الدَّقّاقُ: العَبْدُ يَصِلُ بِطاعَةِ اللَّهِ إلى الجَنَّةِ، ويَصِلُ بِأدَبِهِ في طاعَتِهِ إلى اللَّهِ.
وَقالَ: رَأيْتُ مَن أرادَ أنْ يَمُدَّ يَدَهُ في الصَّلاةِ إلى أنْفِهِ فَقَبَضَ عَلى يَدِهِ.
وَقالَ ابْنُ عَطاءٍ: الأدَبُ الوُقُوفُ مَعَ المُسْتَحْسَناتِ. فَقِيلَ لَهُ: وما مَعْناهُ؟ فَقالَ: أنْ تُعامِلَهُ سُبْحانَهُ بِالأدَبِ سِرًّا وعَلَنًا. ثُمَّ أنْشَدَ:
؎إذا نَطَقَتْ جاءَتْ بِكُلِّ مَلاحَةٍ ∗∗∗ وإنْ سَكَتَتْ جاءَتْ بِكُلِّ مَلِيحٍ
وَقالَ أبُو عَلِيٍّ: مَن صاحَبَ المُلُوكَ بِغَيْرِ أدَبٍ أسْلَمَهُ الجَهْلُ إلى القَتْلِ.
وَقالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ: إذا تَرَكَ العارِفُ أدَبَهُ مَعَ مَعْرُوفِهِ، فَقَدْ هَلَكَ مَعَ الهالِكِينَ.
وَقالَ أبُو عَلِيٍّ: تَرْكُ الأدَبِ يُوجِبُ الطَّرْدَ. فَمَن أساءَ الأدَبَ عَلى البِساطِ رُدَّ إلى البابِ. ومَن أساءَ الأدَبَ عَلى البابِ رُدَّ إلى سِياسَةِ الدَّوابِّ.
وَقالَ يَحْيى بْنُ مُعاذٍ: مَن تَأدَّبَ بِأدَبِ اللَّهِ صارَ مَن أهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ.
وَقالَ ابْنُ مُبارَكٍ: نَحْنُ إلى قَلِيلٍ مِنَ الأدَبِ أحْوَجُ مِنّا إلى كَثِيرٍ مِنَ العِلْمِ.
وَسُئِلَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أنْفَعَ الأدَبِ؟ فَقالَ: التَّفَقُّهُ في الدِّينِ. والزُّهْدُ في الدُّنْيا، والمَعْرِفَةُ بِما لِلَّهِ عَلَيْكَ.
وَقالَ سَهْلٌ: القَوْمُ اسْتَعانُوا بِاللَّهِ عَلى مُرادِ اللَّهِ. وصَبَرُوا لِلَّهِ عَلى آدابِ اللَّهِ.
وَقالَ ابْنُ المُبارَكِ: طَلَبْنا الأدَبَ حِينَ فاتَنا المُؤَدَّبُونَ.
وَقالَ: الأدَبُ لِلْعارِفِ كالتَّوْبَةِ لِلْمُسْتَأْنِفِ.
وَقالَ أبُو حَفْصٍ - لَمّا قالَ لَهُ الجُنَيْدُ: لَقَدْ أدَّبْتَ أصْحابَكَ أدَبَ السَّلاطِينِ - فَقالَ: حُسْنُ الأدَبِ في الظّاهِرِ عُنْوانُ حُسْنِ الأدَبِ في الباطِنِ. فالأدَبُ مَعَ اللَّهِ حُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَهُ، وبِإيقاعِ الحَرَكاتِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ عَلى مُقْتَضى التَّعْظِيمِ والإجْلالِ والحَياءِ. كَحالِ مَجالِسِ المُلُوكِ ومُصاحِبِهِمْ.
وَقالَ أبُو نَصْرٍ السَّرّاجُ: النّاسُ في الأدَبِ عَلى ثَلاثِ طَبَقاتٍ.
أمّا أهْلُ الدُّنْيا: فَأكْبَرُ آدابِهِمْ: في الفَصاحَةِ والبَلاغَةِ. وحِفْظِ العُلُومِ، وأسْمارِ المُلُوكِ، وأشْعارِ العَرَبِ.
وَأمّا أهْلُ الدِّينِ: فَأكْبَرُ آدابِهِمْ: في طَهارَةِ القُلُوبِ، ومُراعاةِ الأسْرارِ، والوَفاءِ بِالعُهُودِ، وحِفْظِ الوَقْتِ، وقِلَّةِ الِالتِفاتِ إلى الخَواطِرِ، وحُسْنِ الأدَبِ، في مَواقِفِ الطَّلَبِ، وأوْقاتِ الحُضُورِ، ومَقاماتِ القُرْبِ.
وَقالَ سَهْلٌ: مَن قَهَرَ نَفْسَهُ بِالأدَبِ فَهو يَعْبُدُ اللَّهَ بِالإخْلاصِ.
وَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ: قَدْ أكْثَرَ النّاسُ القَوْلَ في الأدَبِ ونَحْنُ نَقُولُ: إنَّهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ ورُعُوناتِها، وتَجَنُّبُ تِلْكَ الرُّعُوناتِ.
وَقالَ الشِّبْلِيُّ: الِانْبِساطُ بِالقَوْلِ مَعَ الحَقِّ تَرْكُ الأدَبِ.
وَقالَ بَعْضُهُمْ: الحَقُّ سُبْحانَهُ يَقُولُ: مَن ألْزَمْتُهُ القِيامَ مَعَ أسْمائِي وصِفاتِي ألْزَمْتُهُ الأدَبَ ومَن كَشَفْتُ لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ ذاتِي ألْزَمْتُهُ العَطَبَ فاخْتَرِ الأدَبَ أوِ العَطَبَ.
وَيَشْهَدُ لِهَذا: أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا كَشَفَ لِلْجَبَلِ عَنْ ذاتِهِ ساخَ الجَبَلُ وتَدَكْدَكَ ولَمْ يَثْبُتْ عَلى عَظَمَةِ الذّاتِ.
وَقالَ أبُو عُثْمانَ: إذا صَحَّتِ المَحَبَّةُ تَأكَّدَتْ عَلى المُحِبِّ مُلازَمَةُ الأدَبِ.
وَقالَ النُّورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَن لَمْ يَتَأدَّبْ لِلْوَقْتِ فَوَقْتُهُ مَقْتٌ.
وَقالَ ذُو النُّونِ: إذا خَرَجَ المُرِيدُ عَنِ اسْتِعْمالِ الأدَبِ: فَإنَّهُ يَرْجِعُ مِن حَيْثُ جاءَ.
وَتَأمَّلْ أحْوالَ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ مَعَ اللَّهِ، وخِطابَهم وسُؤالَهم. كَيْفَ تَجِدُها كُلَّها مَشْحُونَةً بِالأدَبِ قائِمَةً بِهِ؟
قالَ المَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ [المائدة: ١١٦]
وَلَمْ يَقُلْ: لَمْ أقُلْهُ.
وَفَرْقٌ بَيْنَ الجَوابَيْنِ في حَقِيقَةِ الأدَبِ. ثُمَّ أحالَ الأمْرَ عَلى عِلْمِهِ سُبْحانَهُ بِالحالِ وسِرِّهِ. فَقالَ: ﴿تَعْلَمُ ما في نَفْسِي﴾ [المائدة: ١١٦] ثُمَّ بَرَّأ نَفْسَهُ عَنْ عِلْمِهِ بِغَيْبِ رَبِّهِ وما يَخْتَصُّ بِهِ سُبْحانَهُ، فَقالَ ﴿وَلا أعْلَمُ ما في نَفْسِكَ﴾ [المائدة: ١١٦]
ثُمَّ أثْنى عَلى رَبِّهِ. ووَصَفَهُ بِتَفَرُّدِهِ بِعِلْمِ الغُيُوبِ كُلِّها. فَقالَ ﴿إنَّكَ أنْتَ عَلّامُ الغُيُوبِ﴾ [المائدة: ١١٦] ثُمَّ نَفى أنْ يَكُونَ قالَ لَهم غَيْرَ ما أمَرَهُ رَبُّهُ بِهِ - وهو مَحْضُ التَّوْحِيدِ - فَقالَ: ﴿ما قُلْتُ لَهم إلّا ما أمَرْتَنِي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ﴾ [المائدة: ١١٧]
ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ شَهادَتِهِ عَلَيْهِمْ مُدَّةَ مُقامِهِ فِيهِمْ. وأنَّهُ بَعْدَ وفاتِهِ لا اطِّلاعَ لَهُ عَلَيْهِمْ، وأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ وحْدَهُ هو المُنْفَرِدُ بَعْدَ الوَفاةِ بِالِاطِّلاعِ عَلَيْهِمْ. فَقالَ: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ١١٧].
ثُمَّ وصَفَهُ بِأنَّ شَهادَتَهُ سُبْحانَهُ فَوْقَ كُلِّ شَهادَةٍ وأعَمُّ. فَقالَ: ﴿وَأنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [المائدة: ١١٧] ثُمَّ قالَ: ﴿إنْ تُعَذِّبْهم فَإنَّهم عِبادُكَ﴾ [المائدة: ١١٨] وهَذا مِن أبْلَغِ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ في مِثْلِ هَذا المَقامِ. أيْ شَأْنُ السَّيِّدِ رَحْمَةُ عَبِيدِهِ والإحْسانُ إلَيْهِمْ. وهَؤُلاءِ عَبِيدُكَ لَيْسُوا عَبِيدًا لِغَيْرِكَ. فَإذا عَذَّبْتَهم - مَعَ كَوْنِهِمْ عَبِيدَكَ - فَلَوْلا أنَّهم عَبِيدُ سُوءٍ مِن أبْخَسِ العَبِيدِ، وأعْتاهم عَلى سَيِّدِهِمْ، وأعْصاهم لَهُ - لَمْ تُعَذِّبْهم. لِأنَّ قُرْبَةَ العُبُودِيَّةَ تَسْتَدْعِي إحْسانَ السَّيِّدِ إلى عَبْدِهِ ورَحْمَتَهُ. فَلِماذا يُعَذِّبُ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ، وأجْوَدُ الأجْوَدِينَ، وأعْظَمُ المُحْسِنِينَ إحْسانًا عَبِيدَهُ؟ لَوْلا فَرْطُ عُتُوِّهِمْ، وإباؤُهم عَنْ طاعَتِهِ، وكَمالُ اسْتِحْقاقِهِمْ لِلْعَذابِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: ﴿إنَّكَ أنْتَ عَلّامُ الغُيُوبِ﴾ [المائدة: ١١٦] أيْ هم عِبادُكَ. وأنْتَ أعْلَمُ بِسِرِّهِمْ وعَلانِيَتِهِمْ. فَإذا عَذَّبْتَهُمْ: عَذَّبْتَهم عَلى عِلْمٍ مِنكَ بِما تُعَذِّبُهم عَلَيْهِ. فَهم عِبادُكَ وأنْتَ أعْلَمُ بِما جَنَوْهُ واكْتَسَبُوهُ. فَلَيْسَ في هَذا اسْتِعْطافٌ لَهُمْ، كَما يَظُنُّهُ الجُهّالُ. ولا تَفْوِيضٌ إلى مَحْضِ المَشِيئَةِ والمُلْكِ المُجَرَّدِ عَنِ الحِكْمَةِ، كَما تَظُنُّهُ القَدَرِيَّةُ.
وَإنَّما هو إقْرارٌ واعْتِرافٌ وثَناءٌ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ بِحِكْمَتِهِ وعَدْلِهِ، وكَمالِ عِلْمِهِ بِحالِهِمْ، واسْتِحْقاقِهِمْ لِلْعَذابِ.
ثُمَّ قالَ: ﴿وَإنْ تَغْفِرْ لَهم فَإنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [المائدة: ١١٨]
وَلَمْ يَقُلِ: الغَفُورُ الرَّحِيمُ
وَهَذا مِن أبْلَغِ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعالى. فَإنَّهُ قالَهُ في وقْتِ غَضَبِ الرَّبِّ عَلَيْهِمْ، والأمْرِ بِهِمْ إلى النّارِ. فَلَيْسَ هو مَقامَ اسْتِعْطافٍ ولا شَفاعَةٍ. بَلْ مَقامُ بَراءَةٍ مِنهم. فَلَوْ قالَ: فَإنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ لَأشْعَرَ بِاسْتِعْطافِهِ رَبَّهُ عَلى أعْدائِهِ الَّذِينَ قَدِ اشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ. فالمَقامُ مَقامُ مُوافَقَةٍ لِلرَّبِّ في غَضَبِهِ عَلى مَن غَضِبَ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ. فَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُسْألُ بِهِما عَطْفَهُ ورَحْمَتَهُ ومَغْفِرَتَهُ إلى ذِكْرِ العِزَّةِ والحِكْمَةِ، المُتَضَمِّنَتَيْنِ لِكَمالِ القُدْرَةِ وكَمالِ العِلْمِ.
والمَعْنى: إنْ غَفَرْتَ لَهم فَمُغْفِرَتُكَ تَكُونُ عَنْ كَمالِ القُدْرَةِ والعِلْمِ. لَيْسَتْ عَنْ عَجْزٍ عَنْ الِانْتِقامِ مِنهُمْ، ولا عَنْ خَفاءٍ عَلَيْكَ بِمِقْدارِ جَرائِمِهِمْ، وهَذا لِأنَّ العَبْدَ قَدْ يَغْفِرُ لِغَيْرِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الِانْتِقامِ مِنهُ. ولِجَهْلِهِ بِمِقْدارِ إساءَتِهِ إلَيْهِ. والكَمالُ: هو مَغْفِرَةُ القادِرِ العالِمِ. وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ. وكانَ ذِكْرُ هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ في هَذا المَقامِ عَيْنَ الأدَبِ في الخِطابِ.
وَفِي بَعْضِ الآثارِ حَمَلَةُ العَرْشِ أرْبَعَةٌ: اثْنانِ يَقُولانِ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمْدِكَ. لَكَ الحَمْدُ عَلى حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ. واثْنانِ يَقُولانِ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمْدِكَ. لَكَ الحَمْدُ عَلى عَفْوِكَ بَعْدَ قُدْرَتِكَ. ولِهَذا يَقْتَرِنُ كُلٌّ مِن هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ بِالأُخْرى. كَقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء: ١٢] وقَوْلِهِ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء: ١٤٩].
وَكَذَلِكَ قَوْلُ إبْراهِيمَ الخَلِيلِ ﷺ: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] ولَمْ يَقُلْ: وإذا أمْرَضَنِي. حِفْظًا لِلْأدَبِ مَعَ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ الخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ في السَّفِينَةِ ﴿فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها﴾ [الكهف: ٧٩].
وَلَمْ يَقُلْ: فَأرادَ رَبُّكَ أنْ أعِيبَها. وقالَ في الغُلامَيْنِ: ﴿فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما﴾ [الكهف: ٨٢].
وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُؤْمِنِي الجِنِّ: ﴿وَأنّا لا نَدْرِي أشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن في الأرْضِ﴾ [الجن: ١٠]
وَلَمْ يَقُولُوا: أرادَهُ بِهِمْ. ثُمَّ قالُوا: ﴿أمْ أرادَ بِهِمْ رَبُّهم رَشَدًا﴾ [الجن: ١٠].
وَألْطَفُ مِن هَذا قَوْلُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿رَبِّ إنِّي لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: ٢٤]
وَلَمْ يَقُلْ: أطْعِمْنِي.
وَقَوْلُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣] ولَمْ يَقُلْ: رَبِّ قَدَرْتَ عَلَيَّ وقَضَيْتَ عَلَيَّ.
وَقَوْلُ أيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ. ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣]. ولَمْ يَقُلْ: فَعافِنِي واشْفِنِي.
وَقَوْلُ يُوسُفَ لِأبِيهِ وإخْوَتِهِ: ﴿هَذا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وقَدْ أحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ [يوسف: ١٠٠] ولَمْ يَقُلْ: أخْرَجَنِي مِنَ الجُبِّ، حِفْظًا لِلْأدَبِ مَعَ إخْوَتِهِ. وتَفَتِّيًا عَلَيْهِمْ: أنْ لا يُخْجِلَهم بِما جَرى في الجُبِّ.
وَقالَ ﴿وَجاءَ بِكم مِنَ البَدْوِ﴾ [يوسف: ١٠٠]
وَلَمْ يَقُلْ: رَفَعَ عَنْكم جُهْدَ الجُوعِ والحاجَةَ. أدَبًا مَعَهم. وأضافَ ما جَرى إلى السَّبَبِ. ولَمْ يُضِفْهُ إلى المُباشِرِ الَّذِي هو أقْرَبُ إلَيْهِ مِنهُ. فَقالَ: ﴿مِن بَعْدِ أنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وبَيْنَ إخْوَتِي﴾ [يوسف: ١٠٠] فَأعْطى الفُتُوَّةَ والكَرْمَ والأدَبَ حَقَّهُ. ولِهَذا لَمْ يَكُنْ كَمالُ هَذا الخُلُقِ إلّا لِلرُّسُلِ والأنْبِياءِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ.
وَمِن هَذا أمْرُ النَّبِيِّ ﷺ الرَّجُلَ: أنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ، وإنْ كانَ خالِيًا لا يَراهُ أحَدٌ، أدَبًا مَعَ اللَّهِ، عَلى حَسَبِ القُرْبِ مِنهُ، وتَعْظِيمِهِ وإجْلالِهِ، وشِدَّةِ الحَياءِ مِنهُ، ومَعْرِفَةِ وقارِهِ.
وَقالَ بَعْضُهُمُ: الزَمِ الأدَبَ ظاهِرًا وباطِنًا. فَما أساءَ أحَدٌ الأدَبَ في الظّاهِرِ إلّا عُوقِبَ ظاهِرًا. وما أساءَ أحَدٌ الأدَبَ باطِنًا إلّا عُوقِبَ باطِنًا.
وَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ رَحِمَهُ اللَّهُ: مَن تَهاوَنَ بِالأدَبِ عُوقِبَ بِحِرْمانِ السُّنَنِ. ومَن تَهاوَنَ بِالسُّنَنِ. عُوقِبَ بِحِرْمانِ الفَرائِضِ. ومَن تَهاوَنَ بِالفَرائِضِ عُوقِبَ بِحِرْمانِ المَعْرِفَةِ.
وَقِيلَ: الأدَبُ في العَمَلِ عَلامَةُ قَبُولِ العَمَلِ.
وَحَقِيقَةُ الأدَبِ اسْتِعْمالُ الخُلُقِ الجَمِيلِ. ولِهَذا كانَ الأدَبُ: اسْتِخْراجَ ما في الطَّبِيعَةِ مِنَ الكَمالِ مِنَ القُوَّةِ إلى الفِعْلِ.
فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ هَيَّأ الإنْسانَ لِقَبُولِ الكَمالِ بِما أعْطاهُ مِنَ الأهْلِيَّةِ والِاسْتِعْدادِ، الَّتِي جَعَلَها فِيهِ كامِنَةً كالنّارِ في الزِّنادِ. فَألْهَمَهُ ومَكَّنَهُ، وعَرَّفَهُ وأرْشَدَهُ. وأرْسَلَ إلَيْهِ رُسُلَهُ. وأنْزَلَ إلَيْهِ كَتَبَهُ لِاسْتِخْراجِ تِلْكَ القُوَّةِ الَّتِي أهَّلَهُ بِها لِكَمالِهِ إلى الفِعْلِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَنَفْسٍ وما سَوّاها - فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها - قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها - وقَدْ خابَ مَن دَسّاها﴾ [الشمس: ٧-١٠]. فَعَبَّرَ عَنْ خُلُقِ النَّفْسِ بِالتَّسْوِيَةِ لِلدَّلالَةِ عَلى الِاعْتِدالِ والتَّمامِ.
ثُمَّ أخْبَرَ عَنْ قَبُولِها لِلْفُجُورِ والتَّقْوى. وأنَّ ذَلِكَ نالَها مِنهُ امْتِحانًا واخْتِبارًا. ثُمَّ خَصَّ بِالفَلاحِ مَن زَكّاها فَنَمّاها وعَلّاها. ورَفَعَها بِآدابِهِ الَّتِي أدَّبَ بِها رُسُلَهُ وأنْبِياءَهُ وأوْلِياءَهُ. وهي التَّقْوى. ثُمَّ حَكَمَ بِالشَّقاءِ عَلى مَن دَسّاها فَأخْفاها وحَقَّرَها. وصَغَّرَها وقَمَعَها بِالفُجُورِ. واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ: وصْفٌ لِأدَبِهِ ﷺ]
وَجَرَتْ عادَةُ القَوْمِ: أنْ يَذْكُرُوا في هَذا المَقامِ قَوْلَهُ تَعالى عَنْ نَبِيِّهِ ﷺ، حِينَ أراهُ ما أراهُ: ﴿ما زاغَ البَصَرُ وما طَغى﴾ [النجم: ١٧]
وَأبُو القاسِمِ القُشَيْرِيُّ صَدَّرَ بابُ الأدَبِ بِهَذِهِ الآيَةِ. وكَذَلِكَ غَيْرُهُ.
وَكَأنَّهم نَظَرُوا إلى قَوْلِ مَن قالَ مِن أهْلِ التَّفْسِيرِ: إنَّ هَذا وصْفٌ لِأدَبِهِ ﷺ في ذَلِكَ المَقامِ. إذْ لَمْ يَلْتَفِتْ جانِبًا. ولا تَجاوَزَ ما رَآهُ. وهَذا كَمالُ الأدَبِ. والإخْلالُ بِهِ: أنْ يَلْتَفِتَ النّاظِرُ عَنْ يَمِينِهِ وعَنْ شِمالِهِ، أوْ يَتَطَلَّعَ أمامَ المَنظُورِ. فالِالتِفاتُ زَيْغٌ. والتَّطَلُّعُ إلى ما أمامَ المَنظُورِ: طُغْيانٌ ومُجاوَزَةٌ. فَكَمالُ إقْبالِ النّاظِرِ عَلى المَنظُورِ: أنْ لا يَصْرِفَ بَصَرَهُ عَنْهُ يَمْنَةً ولا يَسْرَةً. ولا يَتَجاوَزَهُ.
هَذا مَعْنى ما حَصَّلْتُهُ عَنْ شَيْخِ الإسْلامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ.
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ أسْرارٌ عَجِيبَةٌ. وهي مِن غَوامِضِ الآدابِ اللّائِقَةِ بِأكْمَلِ البَشَرِ ﷺ: تَواطَأ هُناكَ بَصَرُهُ وبَصِيرَتُهُ. وتَوافَقا وتَصادَقا فِيما شاهَدَهُ بَصَرُهُ. فالبَصِيرَةُ مُواطِئَةٌ لَهُ. وما شاهَدَتْهُ بَصِيرَتُهُ فَهو أيْضًا حَقٌّ مَشْهُودٌ بِالبَصَرِ. فَتَواطَأ في حَقِّهِ مَشْهَدُ البَصَرِ والبَصِيرَةِ.
وَلِهَذا قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَأى - أفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى﴾ [النجم: ١١-١٢] أيْ ما كَذَبَ الفُؤادُ ما رَآهُ بِبَصَرِهِ.
وَلِهَذا قَرَأها أبُو جَعْفَرٍ: ما كَذَّبَ الفُؤادُ ما رَأى - بِتَشْدِيدِ الذّالِ - أيْ لَمْ يُكَذِّبِ الفُؤادُ البَصَرَ. بَلْ صَدَّقَهُ وواطَأهُ. لِصِحَّةِ الفُؤادِ والبَصَرِ. أوِ اسْتِقامَةِ البَصِيرَةِ والبَصَرِ. وكَوْنُ المَرْئِيِّ المُشاهَدِ بِالبَصَرِ والبَصِيرَةِ حَقًّا. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿ما كَذَبَ الفُؤادُ﴾ [النجم: ١١] بِالتَّخْفِيفِ. وهو مُتَعَدٍّ. و: ما رَأى مَفْعُولَهُ: أيْ ما كَذَبَ قَلْبُهُ ما رَأتْهُ عَيْناهُ. بَلْ واطَأهُ ووافَقَهُ. فَلِمُواطَأةِ قَلْبِهِ لِقالَبِهِ، وظاهِرِهِ لِباطِنِهِ. وبَصَرِهِ لِبَصِيرَتِهِ: لَمْ يَكْذِبِ الفُؤادُ البَصَرَ. ولَمْ يَتَجاوَزِ البَصَرُ حَدَّهُ فَيَطْغى. ولَمْ يَمِلْ عَنِ المَرْئِيِّ فَيَزِيغَ، بَلِ اعْتَدَلَ البَصَرُ نَحْوَ المَرْئِيِّ. ما جاوَزَهُ ولا مالَ عَنْهُ، كَما اعْتَدَلَ القَلْبُ في الإقْبالِ عَلى اللَّهِ، والإعْراضِ عَمّا سِواهُ. فَإنَّهُ أقْبَلَ عَلى اللَّهِ بِكُلِّيَّتِهِ. ولِلْقَلْبِ زَيْغٌ وطُغْيانٌ. وكِلاهُما مُنْتَفٍ عَنْ قَلْبِهِ وبَصَرِهِ. فَلَمْ يَزِغْ قَلْبُهُ التِفاتًا عَنِ اللَّهِ إلى غَيْرِهِ. ولَمْ يَطْغَ بِمُجاوَزَتِهِ مَقامِهِ الَّذِي أُقِيمَ فِيهِ.
وَهَذا غايَةُ الكَمالِ والأدَبِ مَعَ اللَّهِ الَّذِي لا يَلْحَقُهُ فِيهِ سِواهُ.
فَإنَّ عادَةَ النُّفُوسِ، إذا أُقِيمَتْ في مَقامٍ عالٍ رَفِيعٍ: أنْ تَتَطَلَّعَ إلى ما هو أعْلى مِنهُ وفَوْقَهُ. ألا تَرى أنَّ مُوسى ﷺ لَمّا أُقِيمَ في مَقامِ التَّكْلِيمِ والمُناجاةِ: طَلَبَتْ نَفْسُهُ الرُّؤْيَةَ؟ ونَبِيُّنا ﷺ لَمّا أُقِيمَ في ذَلِكَ المَقامِ، وفّاهُ حَقَّهُ: فَلِمَ يَلْتَفِتْ بَصَرُهُ ولا قَلْبُهُ إلى غَيْرِ ما أُقِيمَ فِيهِ ألْبَتَّةَ؟
وَلِأجْلِ هَذا ما عاقَهُ عائِقٌ. ولا وقْفَ بِهِ مُرادٌ، حَتّى جاوَزَ السَّماواتِ السَّبْعِ حَتّى عاتَبَ مُوسى رَبَّهُ فِيهِ. وقالَ: يَقُولُ بَنُو إسْرائِيلَ: إنِّي كَرِيمُ الخُلُقِ عَلى اللَّهِ. وهَذا قَدْ جاوَزَنِي وخَلَّفَنِي عُلُوًّا. فَلَوْ أنَّهُ وحْدَهُ؟ ولَكِنْ مَعَهُ كُلُّ أُمَّتِهِ. وفي رِوايَةِ البُخارِيِّ «فَلَمّا جاوَزْتُهُ بَكى. قِيلَ: ما يُبْكِيكَ؟ قالَ: أبْكِي أنَّ غُلامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِهِ أكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُها مِن أُمَّتِي». ثُمَّ جاوَزَهُ عُلُوًّا فَلَمْ تَعُقْهُ إرادَةٌ. ولَمْ تَقِفْ بِهِ دُونَ كَمالِ العُبُودِيَّةِ هِمَّةٌ.
وَلِهَذا كانَ مَرْكُوبُهُ في مَسْراهُ يَسْبِقُ خَطْوَهُ الطَّرْفَ. فَيَضَعُ قَدَمَهُ عِنْدَ مُنْتَهى طَرْفِهِ، مُشاكِلًا لِحالِ راكِبِهِ، وبُعْدِ شَأْوِهِ، الَّذِي سَبَقَ العالَمَ أجْمَعَ في سَيْرِهِ، فَكانَ قَدَمُ البُراقِ لا يَخْتَلِفُ عَنْ مَوْضِعِ نَظَرِهِ. كَما كانَ قَدَمُهُ ﷺ لا يَتَأخَّرُ عَنْ مَحَلِّ مَعْرِفَتِهِ.
فَلَمْ يَزَلْ ﷺ في حَفارَةِ كَمالِ أدَبِهِ مَعَ اللَّهِ سُبْحانَهُ، وتَكْمِيلِ مَراتِبِ عُبُودِيَّتِهِ لَهُ، حَتّى خَرَقَ حُجُبَ السَّماواتِ، وجاوَزَ السَّبْعَ الطِّباقَ. وجاوَزَ سِدْرَةَ المُنْتَهى. ووَصَلَ إلى مَحَلٍّ مِنَ القُرْبِ سَبَقَ بِهِ الأوَّلِينَ والآخَرِينَ. فانْصَبَّتْ إلَيْهِ هُناكَ أقْسامُ القُرْبِ انْصِبابًا. وانْقَشَعَتْ عَنْهُ سَحائِبُ الحُجُبِ ظاهِرًا وباطِنًا حِجابًا حِجابًا. وأُقِيمَ مَقامًا غَبَطَهُ بِهِ الأنْبِياءُ والمُرْسَلُونَ. فَإذا كانَ في المَعادِ أُقِيمَ مَقامًا مِنَ القُرْبِ ثانِيًا، يَغْبِطُهُ بِهِ الأوَّلُونَ والآخِرُونَ. واسْتَقامَ هُناكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مِن كَمالِ أدَبِهِ مَعَ اللَّهِ، ما زاغَ البَصَرُ عَنْهُ وما طَغى. فَأقامَهُ في هَذا العالَمِ عَلى أقْوَمَ صِراطٍ مِنَ الحَقِّ والهُدى. وأقْسَمَ بِكَلامِهِ عَلى ذَلِكَ في الذِّكْرِ الحَكِيمِ، فَقالَ تَعالى: ﴿يس - والقُرْآنِ الحَكِيمِ - إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ - عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يس: ١-٤] فَإذا كانَ يَوْمُ المَعادِ أقامَهُ عَلى الصِّراطِ يَسْألُهُ السَّلامَةَ لِأتْباعِهِ وأهْلِ سُنَّتِهِ، حَتّى يَجُوزُوهُ إلى جَنّاتِ النَّعِيمِ. وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ. واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
* [فَصْلٌ الأدَبُ هو الدِّينُ كُلُّهُ]
والأدَبُ هو الدِّينُ كُلُّهُ. فَإنَّ سَتْرَ العَوْرَةِ مِنَ الأدَبِ. والوُضُوءَ وغُسْلَ الجَنابَةِ مِنَ الأدَبِ. والتَّطَهُّرَ مِنَ الخُبْثِ مِنَ الأدَبِ. حَتّى يَقِفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ طاهِرًا. ولِهَذا كانُوا يَسْتَحِبُّونَ أنْ يَتَجَمَّلَ الرَّجُلُ في صَلاتِهِ. لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: أمَرَ اللَّهُ بِقَدْرٍ زائِدٍ عَلى سَتْرِ العَوْرَةِ في الصَّلاةِ. وهو أخْذُ الزِّينَةِ. فَقالَ تَعالى ﴿خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٣١]
فَعَلَّقَ الأمْرَ بِأخْذِ الزِّينَةِ، لا بِسَتْرِ العَوْرَةِ، إيذانًا بِأنَّ العَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ: أنْ يَلْبَسَ أزْيَنَ ثِيابِهِ، وأجْمَلَها في الصَّلاةِ.
وَكانَ لِبَعْضِ السَّلَفِ حُلَّةٌ بِمَبْلَغٍ عَظِيمٍ مِنَ المالِ. وكانَ يَلْبَسُها وقْتَ الصَّلاةِ. ويَقُولُ: رَبِّي أحَقُّ مَن تَجَمَّلْتُ لَهُ في صَلاتِي.
وَمَعْلُومٌ: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى يُحِبُّ أنْ يَرى أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلى عَبْدِهِ. لاسِيَّما إذا
وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَأحْسَنُ ما وقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِمَلابِسِهِ ونِعْمَتِهِ الَّتِي ألْبَسَهُ إيّاها ظاهِرًا وباطِنًا.
وَمِنَ الأدَبِ: نَهى النَّبِيُّ ﷺ المُصَلِّيَ: «أنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ إلى السَّماءِ».
فَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: هَذا مِن كَمالِ أدَبِ الصَّلاةِ: أنْ يَقِفَ العَبْدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مُطْرِقًا، خافِضًا طَرْفَهُ إلى الأرْضِ. ولا يَرْفَعَ بَصَرَهُ إلى فَوْقٍ.
قالَ: والجَهْمِيَّةُ - لَمّا لَمْ يَفْقَهُوا هَذا الأدَبَ، ولا عَرَفُوهُ - ظَنُّوا أنَّ هَذا دَلِيلٌ أنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ سَمَواتِهِ عَلى عَرْشِهِ. كَما أخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ. واتَّفَقَتْ عَلَيْهِ رُسُلُهُ وجَمِيعُ أهْلِ السُّنَّةِ.
قالَ: وهَذا مِن جَهْلِهِمْ. بَلْ هَذا دَلِيلٌ لِمَن عَقَلَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ عَلى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ؛ إذْ مِنَ الأدَبِ مَعَ المُلُوكِ: أنَّ الواقِفَ بَيْنَ أيْدِيهِمْ يَطْرُقُ إلى الأرْضِ. ولا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إلَيْهِمْ. فَما الظَّنُّ بِمَلِكِ المُلُوكِ سُبْحانَهُ؟
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ - في نَهْيِهِ ﷺ عَنْ قِراءَةِ القُرْآنِ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ - إنَّ القُرْآنَ هو أشْرَفُ الكَلامِ. وهو كَلامُ اللَّهِ. وحالَتا الرُّكُوعِ والسُّجُودِ حالَتا ذُلٍّ وانْخِفاضٍ مِنَ العَبْدِ. فَمِنَ الأدَبِ مَعَ كَلامِ اللَّهِ: أنْ لا يُقْرَأ في هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ. ويَكُونَ حالُ القِيامِ والِانْتِصابِ أوْلى بِهِ.
وَمِنَ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ: أنْ لا يَسْتَقْبِلَ بَيْتَهُ ولا يَسْتَدْبِرَهُ عِنْدَ قَضاءِ الحاجَةِ. كَما ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في حَدِيثِ أبِي أيُّوبَ وسَلْمانَ وأبِي هُرَيْرَةَ، وغَيْرِهِمْ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. والصَّحِيحُ: أنَّ هَذا الأدَبَ: يَعُمُّ الفَضاءَ والبُنْيانَ. كَما ذَكَرْنا في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ.
وَمِنَ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ، في الوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ في الصَّلاةِ: وضَعُ اليُمْنى عَلى اليُسْرى حالَ قِيامِ القِراءَةِ، فَفي المُوَطَّأِ لِمالِكٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ، وكانَ النّاسُ يُؤْمَرُونَ بِهِ ولا رَيْبَ أنَّهُ مِن أدَبِ الوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ المُلُوكِ والعُظَماءِ. فَعَظِيمُ العُظَماءِ أحَقُّ بِهِ.
وَمِنها: السُّكُونُ في الصَّلاةِ. وهو الدَّوامُ الَّذِي قالَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ: ﴿الَّذِينَ هم عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ﴾ [المعارج: ٢٣].
قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أبِي حَبِيبٍ: أنَّ أبا الخَيْرِ أخْبَرَهُ قالَ: سَألْنا عُقْبَةَ بْنَ عامِرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ هم عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ﴾ [المعارج: ٢٣] أهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ دائِمًا؟ قالَ: لا. ولَكِنَّهُ إذا صَلّى لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ يَمِينِهِ، ولا عَنْ شِمالِهِ ولا خَلْفَهُ.
قُلْتُ: هُما أمْرانِ. الدَّوامُ عَلَيْها. والمُداوَمَةُ عَلَيْها. فَهَذا الدَّوامُ. والمُداوَمَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ هم عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ﴾ [المعارج: ٣٤] وفُسِّرَ الدَّوامُ بِسُكُونِ الأطْرافِ والطُّمَأْنِينَةِ.
وَأدَبِهِ في اسْتِماعِ القِراءَةِ: أنْ يُلْقِيَ السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ.
وَأدَبُهُ في الرُّكُوعِ: أنْ يَسْتَوِيَ. ويُعَظِّمَ اللَّهَ تَعالى، حَتّى لا يَكُونَ في قَلْبِهِ شَيْءٌ أعْظَمُ مِنهُ. ويَتَضاءَلَ ويَتَصاغَرَ في نَفْسِهِ. حَتّى يَكُونَ أقَلَّ مِنَ الهَباءِ.
والمَقْصُودُ: أنَّ الأدَبَ مَعَ اللَّهِ تَبارَكَ وتَعالى: هو القِيامُ بِدِينِهِ، والتَّأدُّبُ بِآدابِهِ ظاهِرًا وباطِنًا.
وَلا يَسْتَقِيمُ لِأحَدٍ قَطُّ الأدَبُ مَعَ اللَّهِ إلّا بِثَلاثَةِ أشْياءَ: مَعْرِفَتُهُ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ، ومَعْرِفَتُهُ بِدِينِهِ وشَرْعِهِ، وما يُحِبُّ وما يَكْرَهُ. ونَفْسٌ مُسْتَعِدَّةٌ قابِلَةٌ لَيِّنَةٌ، مُتَهَيِّئَةٌ لِقَبُولِ الحَقِّ عِلْمًا وعَمَلًا وحالًا. واللَّهُ المُسْتَعانُ.
* [فَصْلٌ الأدَبُ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ]
وَأمّا الأدَبُ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ: فالقُرْآنُ مَمْلُوءٌ بِهِ.
فَرَأسُ الأدَبِ مَعَهُ: كَمالُ التَّسْلِيمِ لَهُ، والِانْقِيادُ لِأمْرِهِ. وتَلَقِّي خَبَرِهِ بِالقَبُولِ والتَّصْدِيقِ، دُونَ أنْ يُحَمِّلَهُ مُعارَضَةَ خَيالٍ باطِلٍ، يُسَمِّيهِ مَعْقُولًا. أوْ يُحَمِّلَهُ شُبْهَةً أوْ شَكًّا، أوْ يُقَدِّمَ عَلَيْهِ آراءَ الرِّجالِ، وزُبالاتِ أذْهانِهِمْ، فَيُوَحِّدُهُ بِالتَّحْكِيمِ والتَّسْلِيمِ، والِانْقِيادِ والإذْعانِ. كَما وحَّدَ المُرْسِلَ سُبْحانَهُ وتَعالى بِالعِبادَةِ والخُضُوعِ والذُّلِّ، والإنابَةِ والتَّوَكُّلِ.
فَهُما تَوْحِيدانِ. لا نَجاةَ لِلْعَبْدِ مِن عَذابِ اللَّهِ إلّا بِهِما:
تَوْحِيدُ المُرْسِلِ. وتَوْحِيدُ مُتابَعَةِ الرَّسُولِ.
فَلا يُحاكِمُ إلى غَيْرِهِ. ولا يَرْضى بِحُكْمِ غَيْرِهِ. ولا يَقِفُ تَنْفِيذُ أمْرِهِ. وتَصْدِيقُ خَبَرِهِ. عَلى عَرْضِهِ عَلى قَوْلِ شَيْخِهِ وإمامِهِ، وذَوِي مَذْهَبِهِ وطائِفَتِهِ، ومَن يُعَظِّمُهُ.
فَإنْ أذِنُوا لَهُ نَفَّذَهُ وقَبِلَ خَبَرَهُ، وإلّا فَإنْ طَلَبَ السَّلامَةَ: أعْرَضَ عَنْ أمْرِهِ وخَبَرِهِ وفَوَّضَهُ إلَيْهِمْ، وإلّا حَرَّفَهُ عَنْ مَواضِعِهِ. وسَمّى تَحْرِيفَهُ: تَأْوِيلًا، وحَمْلًا. فَقالَ: نُؤَوِّلُهُ ونَحْمِلُهُ.
فَلَأنْ يَلْقى العَبْدُ رَبَّهُ بِكُلِّ ذَنْبٍ عَلى الإطْلاقِ - ما خَلا الشِّرْكَ بِاللَّهِ - خَيْرٌ لَهُ مِن أنْ يَلْقاهُ بِهَذِهِ الحالِ.
وَلَقَدْ خاطَبْتُ يَوْمًا بَعْضَ أكابِرِ هَؤُلاءِ. فَقُلْتُ لَهُ: سَألْتُكَ بِاللَّهِ. لَوْ قُدِّرَ أنَّ الرَّسُولَ ﷺ حَيٌّ بَيْنَ أظْهُرِنا. وقَدْ واجَهَنا بِكَلامِهِ وبِخِطابِهِ. أكانَ فَرْضًا عَلَيْنا أنْ نَتْبَعَهُ مِن غَيْرِ أنْ نَعْرِضَهُ عَلى رَأْيِ غَيْرِهِ وكَلامِهِ ومَذْهَبِهِ، أمْ لا نَتْبَعَهُ حَتّى نَعْرِضَ ما سَمِعْناهُ مِنهُ عَلى آراءِ النّاسِ وعُقُولِهِمْ؟
فَقالَ: بَلْ كانَ الفَرْضُ المُبادَرَةَ إلى الِامْتِثالِ مِن غَيْرِ التِفاتٍ إلى سِواهُ.
فَقُلْتُ: فَما الَّذِي نَسَخَ هَذا الفَرْضَ عَنّا؟ وبِأيِّ شَيْءٍ نُسِخَ؟
فَوَضَعَ إصْبَعَهُ عَلى فِيهِ. وبَقِيَ باهِتًا مُتَحَيِّرًا. وما نَطَقَ بِكَلِمَةٍ.
هَذا أدَبُ الخَواصِّ مَعَهُ. لا مُخالَفَةِ أمْرِهِ والشِّرْكِ بِهِ. ورَفْعِ الأصْواتِ، وإزْعاجِ الأعْضاءِ بِالصَّلاةِ عَلَيْهِ والتَّسْلِيمِ. وعَزْلِ كَلامِهِ عَنِ اليَقِينِ. وأنْ يُسْتَفادَ مِنهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ، أوْ يُتَلَقّى مِنهُ أحْكامُهُ. بَلِ المُعَوَّلُ في بابِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ عَلى العُقُولِ المُتَهَوِّكَةِ المُتَحَيِّرَةِ المُتَناقِضَةِ. وفي الأحْكامِ: عَلى تَقْلِيدِ الرِّجالِ وآرائِها. والقُرْآنُ والسُّنَّةُ إنَّما نَقْرَؤُهُما تَبَرُّكًا، لا أنّا نَتَلَقّى مِنهُما أُصُولَ الدِّينِ ولا فُرُوعَهُ. ومَن طَلَبَ ذَلِكَ ورامَهُ عادَيْناهُ وسَعَيْنا في قَطْعِ دابِرِهِ. واسْتِئْصالِ شَأْفَتِهِ ﴿بَلْ قُلُوبُهم في غَمْرَةٍ مِن هَذا ولَهم أعْمالٌ مِن دُونِ ذَلِكَ هم لَها عامِلُونَ - حَتّى إذا أخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالعَذابِ إذا هم يَجْأرُونَ - لا تَجْأرُوا اليَوْمَ إنَّكم مِنّا لا تُنْصَرُونَ - قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكم فَكُنْتُمْ عَلى أعْقابِكم تَنْكِصُونَ - مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِرًا تَهْجُرُونَ - أفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أمْ جاءَهم ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الأوَّلِينَ - أمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهم فَهم لَهُ مُنْكِرُونَ - أمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهم بِالحَقِّ وأكْثَرُهم لِلْحَقِّ كارِهُونَ - ولَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أهْواءَهم لَفَسَدَتِ السَّماواتُ والأرْضُ ومَن فِيهِنَّ بَلْ أتَيْناهم بِذِكْرِهِمْ فَهم عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ - أمْ تَسْألُهم خَرْجًا فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وهو خَيْرُ الرّازِقِينَ - وإنَّكَ لَتَدْعُوهم إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ - وإنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٣-٧٤].
والنّاصِحُ لِنَفْسِهِ. العامِلُ عَلى نَجاتِها: يَتَدَبَّرُ هَذِهِ الآياتَ حَقَّ تَدَبُّرِها. ويَتَأمَّلُها حَقَّ تَأمُّلِها. ويُنْزِلُها عَلى الواقِعِ: فَيَرى العَجَبَ. ولا يَظُنُّها اخْتَصَّتْ بِقَوْمٍ كانُوا فَبانُوا. فالحَدِيثُ لَكِ. واسْمَعِي يا جارَةُ. واللَّهُ المُسْتَعانُ.
وَمِنَ الأدَبِ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ: أنْ لا يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِأمْرٍ ولا نَهْيٍ، ولا إذَنٍ ولا تَصَرُّفٍ. حَتّى يَأْمُرَ هُوَ، ويَنْهى ويَأْذَنَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [الحجرات: ١] وهَذا باقٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ولَمْ يُنْسَخْ. فالتَّقَدُّمُ بَيْنَ يَدَيْ سُنَّتِهِ بَعْدَ وفاتِهِ، كالتَّقَدُّمِ بَيْنَ يَدَيْهِ في حَيّاتِهِ، ولا فَرْقَ بَيْنَهُما عِنْدَ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ.
قالَ مُجاهِدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لا تَفْتاتُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ العَرَبُ: لا تُقَدِّمْ بَيْنَ يَدَيِ الإمامِ وبَيْنَ يَدَيِ الأبِ. أيْ لا تُعَجِّلُوا بِالأمْرِ والنَّهْيِ دُونَهُ.
وَقالَ غَيْرُهُ: لا تَأْمُرُوا حَتّى يَأْمُرَ. ولا تَنْهُوا حَتّى يَنْهى.
وَمِنَ الأدَبِ مَعَهُ: أنْ لا تُرْفَعَ الأصْواتُ فَوْقَ صَوْتِهِ. فَإنَّهُ سَبَبٌ لِحُبُوطِ الأعْمالِ فَما الظَّنُّ بِرَفْعِ الآراءِ، ونَتائِجِ الأفْكارِ عَلى سُنَّتِهِ وما جاءَ بِهِ؟ أتُرى ذَلِكَ مُوجِبًا لِقَبُولِ الأعْمالِ، ورَفْعُ الصَّوْتِ فَوْقَ صَوْتِهِ مُوجِبٌ لِحُبُوطِها؟
وَمِنَ الأدَبِ مَعَهُ: أنْ لا يَجْعَلَ دُعاءَهُ كَدُعاءِ غَيْرِهِ. قالَ تَعالى: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكم كَدُعاءِ بَعْضِكم بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣]. وفِيهِ قَوْلانِ لِلْمُفَسِّرِينَ.
أحَدُهُما: أنَّكم لا تَدْعُونَهُ بِاسْمِهِ، كَما يَدْعُو بَعْضُكم بَعْضًا، بَلْ قُولُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، يا نَبِيَّ اللَّهِ، فَعَلى هَذا: المَصْدَرُ مُضافٌ إلى المَفْعُولِ، أيْ دُعاءَكُمُ الرَّسُولَ.
الثّانِي: أنَّ المَعْنى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَهُ لَكم بِمَنزِلَةِ دُعاءِ بَعْضِكم بَعْضًا. إنْ شاءَ أجابَ، وإنْ شاءَ تَرَكَ، بَلْ إذا دَعاكم لَمْ يَكُنْ لَكم بُدٌّ مِن إجابَتِهِ، ولَمْ يَسَعْكُمُ التَّخَلُّفُ عَنْها ألْبَتَّةَ. فَعَلى هَذا: المَصْدَرُ مُضافٌ إلى الفاعِلِ. أيْ دُعاؤُهُ إيّاكم.
وَمِنَ الأدَبِ مَعَهُ: أنَّهم إذا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ - مِن خُطْبَةٍ، أوْ جِهادٍ، أوْ رِباطٍ - لَمْ يَذْهَبْ أحَدٌ مِنهم مَذْهَبًا في حاجَتِهِ حَتّى يَسْتَأْذِنَهُ.
كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وإذا كانُوا مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ [النور: ٦٢]. فَإذا كانَ هَذا مَذْهَبًا مُقَيَّدًا بِحاجَةٍ عارِضَةٍ، ولَمْ يُوَسِّعْ لَهم فِيهِ إلّا بِإذْنِهِ فَكَيْفَ بِمَذْهَبٍ مُطْلَقٍ في تَفاصِيلِ الدِّينِ: أُصُولِهِ، وفُرُوعِهِ، دَقِيقِهِ، وجَلِيلِهِ؟ هَلْ يُشْرَعُ الذَّهابُ إلَيْهِ بِدُونِ اسْتِئْذانِهِ؟ ﴿فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣].
وَمِنَ الأدَبِ مَعَهُ: أنْ لا يُسْتَشْكَلَ قَوْلُهُ:. بَلْ تُسْتَشْكَلُ الآراءُ لِقَوْلِهِ: ولا يُعارَضُ نَصُّهُ بِقِياسٍ بَلْ تُهْدَرُ الأقْيِسَةُ وتُلْقى لِنُصُوصِهِ. ولا يُحَرَّفُ كَلامُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ لِخَيالٍ يُسَمِّيهِ أصْحابُهُ مَعْقُولًا، نَعَمْ هو مَجْهُولٌ، وعَنِ الصَّوابِ مَعْزُولٌ، ولا يُوقَفُ قَبُولُ ما جاءَ بِهِ ﷺ عَلى مُوافَقَةِ أحَدٍ، فَكُلُّ هَذا مِن قِلَّةِ الأدَبِ مَعَهُ ﷺ. وهو عَيْنُ الجُرْأةِ.
* [فَصْلٌ الأدَبُ مَعَ الخَلْقِ]
وَأمّا الأدَبُ مَعَ الخَلْقِ: فَهو مُعامَلَتُهم - عَلى اخْتِلافِ مَراتِبِهِمْ - بِما يَلِيقُ بِهِمْ. فَلِكُلِّ مَرْتَبَةٍ أدَبٌ. والمَراتِبُ فِيها أدَبٌ خاصٌّ. فَمَعَ الوالِدَيْنِ: أدَبٌ خاصٌّ ولِلْأبِ مِنهُما: أدَّبٌ هو أخُصُّ بِهِ، ومَعَ العالِمِ: أدَبٌ آخَرُ، ومَعَ السُّلْطانِ: أدَبٌ يَلِيقُ بِهِ، ولَهُ مَعَ الأقْرانِ أدَبٌ يَلِيقُ بِهِمْ. ومَعَ الأجانِبِ: أدَبٌ غَيْرُ أدَبِهِ مَعَ أصْحابِهِ وذَوِي أُنْسِهِ. ومَعَ الضَّيْفِ: أدَبٌ غَيْرُ أدَبِهِ مَعَ أهْلِ بَيْتِهِ.
وَلِكُلِّ حالٍ أدَبٌ: فَلِلْأكْلِ آدابٌ. ولِلشُّرْبِ آدابٌ. ولِلرُّكُوبِ والدُّخُولِ والخُرُوجِ والسَّفَرِ والإقامَةِ والنَّوْمِ آدابٌ. ولِلْبَوْلِ آدابٌ. ولِلْكَلامِ آدابٌ. ولِلسُّكُوتِ والِاسْتِماعِ آدابٌ.
وَأدَبُ المَرْءِ: عُنْوانُ سَعادَتِهِ وفَلاحِهِ. وقِلَّةُ أدَبِهِ: عُنْوانُ شَقاوَتِهِ وبَوارِهِ.
فَما اسْتُجْلِبَ خَيْرُ الدُّنْيا والآخِرَةِ بِمِثْلِ الأدَبِ، ولا اسْتُجْلِبَ حِرْمانُهُما بِمِثْلِ قِلَّةِ الأدَبِ.
فانْظُرْ إلى الأدَبِ مَعَ الوالِدَيْنِ: كَيْفَ نَجّى صاحِبَهُ مِن حَبْسِ الغارِ حِينَ أطْبَقَتْ عَلَيْهِمُ الصَّخْرَةُ؟ والإخْلالُ بِهِ مَعَ الأُمِّ - تَأْوِيلًا وإقْبالًا عَلى الصَّلاةِ - كَيْفَ امْتُحِنَ صاحِبُهُ بِهَدْمِ صَوْمَعَتِهِ وضَرْبِ النّاسِ لَهُ، ورَمْيِهِ بِالفاحِشَةِ؟
وَتَأمَّلْ أحْوالَ كُلِّ شَقِيٍّ ومُغْتَرٍّ ومُدْبِرٍ: كَيْفَ تَجِدُ قِلَّةَ الأدَبِ هي الَّتِي ساقَتْهُ إلى الحِرْمانِ؟
وانْظُرْ قِلَّةَ أدَبِ عَوْفٍ مَعَ خالِدٍ: كَيْفَ حَرَمَهُ السَّلْبَ بَعْدَ أنْ بَرَدَ بِيَدَيْهِ؟
وانْظُرْ أدَبَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في الصَّلاةِ: أنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقالَ: ما كانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أبِي قُحافَةَ أنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. كَيْفَ أوْرَثَهُ مَقامَهُ والإمامَةَ بِالأُمَّةِ بَعْدَهُ؟ فَكانَ ذَلِكَ التَّأخُّرُ إلى خَلْفِهِ - وقَدْ أوْمَأ إلَيْهِ أنِ اثْبُتْ مَكانَكَ - جَمْزًا، وسَعْيًا إلى قُدّامَ؟ بِكُلِّ خُطْوَةٍ إلى وراءَ مَراحِلُ إلى قُدّامَ. تَنْقَطِعُ فِيها أعْناقُ المَطِيِّ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ حَقِيقَةُ الأدَبِ]
قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ":
الأدَبُ: حِفْظُ الحَدِّ، بَيْنَ الغُلُوِّ والجَفاءِ، بِمَعْرِفَةِ ضَرَرِ العُدْوانِ.
هَذا مِن أحْسَنِ الحُدُودِ. فَإنَّ الِانْحِرافَ إلى أحَدِ طَرَفَيِ الغُلُوِّ والجَفاءِ: هو قِلَّةُ الأدَبِ. والأدَبُ: الوُقُوفُ في الوَسَطِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَلا يُقَصِّرُ بِحُدُودِ الشَّرْعِ عَنْ تَمامِها. ولا يَتَجاوَزُ بِها ما جُعِلَتْ حُدُودًا لَهُ. فَكِلاهُما عُدْوانٌ. واللَّهُ لا يُحِبُّ المُعْتَدِينَ. والعُدْوانُ: هو سُوءُ الأدَبِ.
وَقالَ بَعْضُ السَّلَفِ: دِينُ اللَّهِ بَيْنَ الغالِي فِيهِ والجافِي عَنْهُ.
فَإضاعَةُ الأدَبِ بِالجَفاءِ: كَمَن لَمْ يُكْمِلْ أعْضاءَ الوُضُوءِ. ولَمْ يُوفِّ الصَّلاةَ آدابَها الَّتِي سَنَّها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وفَعَلَها. وهي قَرِيبٌ مِن مِائَةِ أدَبٍ: ما بَيْنَ واجِبٍ ومُسْتَحَبٍّ.
وَإضاعَتُهُ بِالغُلُوِّ: كالوَسْوَسَةِ في عَقْدِ النِّيَّةِ. ورَفَعِ الصَّوْتِ بِها. والجَهْرِ بِالأذْكارِ والدَّعَواتِ الَّتِي شُرِعَتْ سِرًّا. وتَطْوِيلِ ما السُّنَّةُ تَخْفِيفُهُ وحَذْفُهُ. كالتَّشَهُّدِ الأوَّلِ والسَّلامِ الَّذِي حَذْفُهُ سُنَّةٌ. وزِيادَةِ التَّطْوِيلِ عَلى ما فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لا عَلى ما يَظُنُّهُ سُرّاقُ الصَّلاةِ والنَّقّارُونَ لَها ويَشْتَهُونَهُ. فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ لِيَأْمُرَ بِأمْرٍ ويُخالِفَهُ. وقَدْ صانَهُ اللَّهُ مِن ذَلِكَ. وكانَ يَأْمُرُهم بِالتَّخْفِيفِ ويَؤُمُّهم بِالصّافّاتِ، ويَأْمُرُهم بِالتَّخْفِيفِ وتُقامُ صَلاةُ الظُّهْرِ، فَيَذْهَبُ الذّاهِبُ إلى البَقِيعِ، فَيَقْضِي حاجَتَهُ. ويَأْتِي أهْلَهُ ويَتَوَضَّأُ. ويُدْرِكُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في الرَّكْعَةِ الأُولى. فَهَذا هو التَّخْفِيفُ الَّذِي أمَرَ بِهِ. لا نَقْرَ الصَّلاةِ وسَرْقَها. فَإنَّ ذَلِكَ اخْتِصارٌ، بَلِ اقْتِصارٌ عَلى ما يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. ويُسَمّى بِهِ مُصَلِّيًا، وهو كَأكْلِ المُضْطَرِّ في المَخْمَصَةِ ما يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ: فَلَيْتَهُ شِبَعَ عَلى القَوْلِ الآخَرِ، وهو كَجائِعٍ قُدِّمَ إلَيْهِ طَعامٌ لَذِيذٌ جِدًّا. فَأكَلَ مِنهُ لُقْمَةً أوْ لُقْمَتَيْنِ. فَماذا يُغْنِيانِ عَنْهُ؟ ولَكِنْ لَوْ أحَسَّ بِجُوعِهِ لَما قامَ مِنَ الطَّعامِ حَتّى يَشْبَعَ مِنهُ وهو يَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ. لَكِنَّ القَلْبَ شَبْعانُ مِن شَيْءٍ آخَرَ.
وَمِثالُ هَذا التَّوَسُّطُ في حَقِّ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ: أنْ لا يَغْلُوَ فِيهِمْ، كَما غَلَتِ النَّصارى في المَسِيحِ، ولا يَجْفُوَ عَنْهُمْ، كَما جَفَتِ اليَهُودُ. فالنَّصارى عَبَدُوهم. واليَهُودُ قَتَلُوهم وكَذَّبُوهم. والأُمَّةُ الوَسَطُ: آمَنُوا بِهِمْ، وعَزَّرُوهم ونَصَرُوهُمْ، واتَّبَعُوا ما جاءُوا بِهِ.
وَمِثالُ ذَلِكَ في حُقُوقِ الخَلْقِ: أنْ لا يُفَرِّطَ في القِيامِ بِحُقُوقِهِمْ، ولا يَسْتَغْرِقَ فِيها، بِحَيْثُ يَشْتَغِلُ بِها عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أوْ عَنْ تَكْمِيلِها، أوْ عَنْ مَصْلَحَةِ دِينِهِ وقَلْبِهِ، وأنْ لا يَجْفُوَ عَنْها حَتّى يُعَطِّلَها بِالكُلِّيَّةِ. فَإنَّ الطَّرَفَيْنِ مِنَ العُدْوانِ الضّارِّ. وعَلى هَذا الحَدِّ، فَحَقِيقَةُ الأدَبِ: هي العَدْلُ. واللَّهُ أعْلَمُ.
* (فصل: في وجوب تَأْدِيب الأوْلاد وتعليمهم والعدْل بَينهم)
قالَ الله تَعالى ﴿يا أيها الَّذين آمنُوا قوا أنفسكُم وأهليكم نارا وقودها النّاس والحِجارَة﴾
قالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ علموهم وأدبوهم وقالَ الحسن مُرُوهم بِطاعَة الله وعلموهم الخَيْر وفي المسند وسنَن أبي داوُد من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أبِيه عَن جده قالَ قالَ رَسُول الله ﷺ مروا أبناءكم بِالصَّلاةِ لسبع واضْرِبُوهم عَلَيْها لعشر وفرقُوا بَينهم في المضاجِع فَفي هَذا الحَدِيث ثَلاثَة آداب أمرهم بها وضربهم عَلَيْها والتفريق بَينهم في المضاجِع
وَقد روى الحاكِم عَن أبي النَّضر الفَقِيه ثَنا مُحَمَّد بن حموية ثَنا أبي ثَنا النَّضر بن مُحَمَّد عَن الثَّوْريّ عَن إبْراهِيم بن مهاجر عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبّاس عَن النَّبِي ﷺ قالَ افتحوا على صِبْيانكم أول كلمة بِلا إلَه إلّا الله ولقنوهم عند المَوْت لا إلَه إلّا الله
وَفِي تارِيخ البُخارِيّ من رِوايَة بشر بن يُوسُف عَن عامر بن أبي عامر سمع أيُّوب بن مُوسى القرشِي عَن أبِيه عَن جده عَن النَّبِي ﷺ قالَ ما نحل والِد ولدا أفضل من أدب حسن قالَ البُخارِيّ ولم يَصح سَماع جده من النَّبِي ﷺ
وَفِي مُعْجم الطَّبَرانِيّ من حَدِيث سماك عَن جابر بن سَمُرَة قالَ قالَ رَسُول الله ﷺ لِأن يُؤَدب أحدكُم ولَده خير لَهُ من أم يتَصَدَّق كل يَوْم بِنصْف صاع على المَساكِين.
وَذكر البَيْهَقِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن الفضل بن عَطِيَّة وهو ضَعِيف عَن أبِيه عَن عَطاء عَن ابْن عَبّاس قالَ قالُوا يا رَسُول الله قد علمنا ما حق الوالِد فَما حق الوَلَد قالَ أن يحسن اسْمه ويحسن أدبه قالَ سُفْيان الثَّوْريّ يَنْبَغِي للرجل أن يكره ولَده على طلب الحَدِيث فَإنَّهُ مسؤول عَنهُ وقالَ إن هَذا الحَدِيث عز من أرادَ بِهِ الدُّنْيا وجدها ومن أرادَ بِهِ الآخِرَة وجدها وقالَ عبد الله بن عمر أدب ابْنك فَإنّك مسؤول عَنهُ ماذا أدبته وماذا عَلمته وهو مسؤول عَن برك وطواعيته لَك.
وَذكر البَيْهَقِيّ من حَدِيث مُسلم بن إبْراهِيم حَدثنا شَدّاد بن سعيد عَن الجريرِي عَن أبي سعيد وابْن عَبّاس قالا قالَ رَسُول الله ﷺ
"من ولد لَهُ ولد فليحسن اسْمه وأدبه، فَإذا بلغ فليزوجه فَإن بلغ ولم يُزَوجهُ فَأصاب إثْمًا فَإنَّما إثمه على أبِيه"
وَقالَ سعيد بن مَنصُور حَدثنا حزم قالَ سَمِعت الحسن وسَألَهُ كثير ابْن زِياد عَن قَوْله تَعالى ﴿رَبنا هَب لنا من أزواجنا وذُرِّيّاتنا قُرَّة أعين﴾ [الفرقان: ٧٤]
فَقالَ يا أبا سعيد ما هَذِه القرة الأعْين أفِي الدُّنْيا أم في الآخِرَة؟
قالَ لا. بل والله في الدُّنْيا.
قالَ وما هِيَ؟ قالَ والله أن يري الله العَبْد من زَوجته من أخِيه من حميمه طاعَة الله لا والله ما شَيْء أحب إلى المَرْء المُسلم من أن يرى ولدا أو والدا أو حميما أو أخا مُطيعًا لله عز وجل.
وَقد روى البُخارِيّ في صَحِيحه من حَدِيث نافِع عَن ابْن عمر قالَ قالَ رَسُول الله ﷺ
"كلكم راع وكلكم مسؤول عَن رَعيته فالأمير راع على النّاس وهو مسؤول عَن رَعيته والرجل راع على أهل بَيته وامْرَأة الرجل راعية على بَيت بَعْلها وولده وهِي مسؤولة عَنْهُم وعبد الرجل راع على مال سَيّده وهو مسؤول عَنهُ ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عَن رَعيته"
* (فصل)
وَمن حُقُوق الأوْلاد العدْل بَينهم في العَطاء والمَنع
فَفِي السّنَن ومسند أحْمد وصحيح ابْن حبان من حَدِيث النُّعْمان بن بشير قالَ قالَ رَسُول الله ﷺ
"اعدلوا بَين أبْنائِكُم اعدلوا بَين أبْنائِكُم"
وَفِي صَحِيح مُسلم
"أن امْرَأة بشير قالَت لَهُ انحل ابْني غُلاما وأشْهد لي رَسُول الله ﷺ فَأتى رَسُول الله ﷺ فَقالَ: إن ابْنة فلان سَألتنِي أن أنحل ابْنها غلامي.
قالَ لَهُ إخْوَة؟ قالَ نعم.
قالَ أفكلهم أعْطَيْت مثل ما أعْطيته؟
قالَ لا.
قالَ فَلَيْسَ يصلح هَذا وإنِّي لا أشهد إلّا على حق"
وَرَواهُ الإمام أحْمد وقالَ فِيهِ "لا تشهدني على جور إن لبنيك عَلَيْك من الحق أن تعدل بَينهم".
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النُّعْمان بن بشير أن أباهُ أتى بِهِ النَّبِي ﷺ فَقالَ: إنِّي نحلت ابْني هَذا غُلاما كانَ لي فَقالَ رَسُول ﷺ
"أكل ولدك نحلت مثل هَذا؟
فَقالَ لا.
فَقالَ أرجعه.
وَفِي رِوايَة لمُسلم "فَقالَ أفعلتَ هَذا بولدك كلهم؟
قالَ لا.
قالَ اتَّقوا الله واعدلوا في أوْلادكُم، فَرجع أبي في تِلْكَ الصَّدَقَة"
وَفِي الصَّحِيح أشهد على هَذا غَيْرِي وهَذا أمر تهديد لا إباحَة فَإن تِلْكَ العَطِيَّة كانَت جورا بِنَصّ الحَدِيث ورَسُول الله ﷺ لا يَأْذَن لأحد أن يشْهد على صِحَة الجور.
وَمن ذا الَّذِي كانَ يشْهد على تِلْكَ العَطِيَّة وقد أبى رَسُول الله ﷺ أن يشْهد عَلَيْها وأخْبر أنَّها لا تصلح وأنَّها جور وأنَّها خلاف العدْل.
وَمن العجب أن يحمل قَوْله "اعدلوا بَين أوْلادكُم"
على غير الوُجُوب، وهو أمر مُطلق مُؤَكد ثَلاث مَرّات، وقد أخبر الآمِر بِهِ أن خِلافه جور وأنه لا يصلح، وأنه لَيْسَ بِحَق وما بعد الحق إلّا الباطِل.
هَذا والعدْل واحب في كل حال فَلَو كانَ الأمر بِهِ مُطلقًا لوَجَبَ حمله على الوُجُوب فَكيف وقد اقْترن بِهِ عشرَة أشْياء تؤكد وُجُوبه فتأملها في ألْفاظ القِصَّة.
وَقد ذكر البَيْهَقِيّ من حَدِيث أبي أحْمد بن عدي حَدثنا القاسِم بن مهْدي حَدثنا يَعْقُوب بن كاسب حَدثنا عبد الله بن معاذ عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أنس
"أن رجلا كانَ جالِسا مَعَ النَّبِي ﷺ فجاء بني لَهُ فَقبله وأجْلسهُ في حجره، ثمَّ جاءَت بنية فَأخذها فأجلسها إلى جنبه.
فَقالَ النَّبِي ﷺ فَما عدلت بَينهما"
وَكانَ السّلف يستحبون أن يعدلُوا بَين الأوْلاد في القُبْلَة.
وَقالَ بعض أهل العلم إن الله سُبْحانَهُ يسْأل الوالِد عَن ولَده يَوْم القِيامَة قبل أن يسْأل الوَلَد عَن والِده فانه كَما أن للْأب على ابنه حَقًا فللابن على أبِيه حق فَكَما قالَ تَعالى ﴿وَوَصينا الإنْسان بِوالِديهِ حسنا﴾ [العنكبوت: ٨]
قالَ تَعالى ﴿قوا أنفسكُم وأهليكم نارا وقودها النّاس والحِجارَة﴾ [التحريم: ٦]
قالَ عَليّ بن أبي طالب علموهم وأدبوهم وقالَ تَعالى ﴿واعبدوا الله ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وبالوالدين إحسانا وبذي القُرْبى﴾ [النساء: ٣٦]
وَقالَ النَّبِي ﷺ "اعدلوا بَين أوْلادكُم"
فوصية الله للآباء بأولادهم سابِقَة على وصِيَّة الأوْلاد بآبائهم قالَ الله تَعالى ﴿وَلا تقتلُوا أوْلادكُم خشيَة إملاق﴾ [الإسراء: ٣١]
فَمن أهمل تَعْلِيم ولَده ما يَنْفَعهُ وتَركه سدى فقد أساءَ إلَيْهِ غايَة الإساءَة وأكْثر الأوْلاد إنَّما جاءَ فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لَهُم وترك تعليمهم فَرائض الدّين وسننه فأضاعوهم صغارًا فَلم ينتفعوا بِأنْفسِهِم ولم ينفعوا آباءَهُم كبارًا كَما عاتب بَعضهم ولَده على العقوق فَقالَ يا أبَت إنَّك عققتني صَغِيرا فعققتك كَبِيرا وأضعتني وليدا فأضعتك شَيخا
(فُصُول نافعة في تربية الأطْفال تحمد عواقبها عند الكبر)
* (فصل)
يَنْبَغِي أن يكون رضاع المَوْلُود من غير أمه بعد وضعه يَوْمَيْنِ أو ثَلاثَة وهو الأجود لما في لَبنها ذَلِك الوَقْت من الغلظ والأخلاط بِخِلاف لبن من قد اسْتَقَلت على الرَّضاع وكل العَرَب تعتني بذلك حَتّى تسترضع أوْلادها عند نساء البَوادِي كَما استرضع النَّبِي ﷺ في بني سعد.
* (فصل)
وَيَنْبَغِي أن يمْنَع حملهمْ والطّواف بهم حَتّى يَأْتِي عَلَيْهِم ثَلاثَة أشهر فَصاعِدا لقرب عَهدهم ببطون الأُمَّهات وضعف أبدانهم.
* (فصل)
وَيَنْبَغِي أن يقْتَصر بهم على اللَّبن وحده إلى نَبات أسنانهم لضعف معدتهم وقوتهم الهاضمة عَن الطَّعام فَإذا نَبتَت أسْنانه قويت معدته وتغذى بِالطَّعامِ، فَإن الله سُبْحانَهُ أخر إنباتها إلى وقت حاجته إلى الطَّعام لحكمته ولطفه ورَحْمَة مِنهُ بِالأُمِّ وحلمة ثديها فَلا يعضه الوَلَد بِأسْنانِهِ.
* (فصل)
وَيَنْبَغِي تدريجهم في الغذاء فَأول ما يُطْعِمُونَهم الغذاء اللين فيطعمونهم الخبز المنقوع في الماء الحار واللَّبن والحليب ثمَّ بعد ذَلِك الطبيخ والأمراق الخالية من اللَّحْم ثمَّ بعد ذَلِك ما لطف جدا من اللَّحْم بعد إحكام مضغه أو رضه رضا ناعِمًا.
* (فصل)
فَإذا قربوا من وقت التَّكَلُّم وأُرِيد تسهيل الكَلام عَلَيْهِم فليدلك ألسنتهم بالعسل والملح الاندراني لما فيهما من الجلاء للرطوبات الثَّقِيلَة المانِعَة من الكَلام فَإذا كانَ وقت نطقهم فليلقنوا لا إلَه إلّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفَة الله سُبْحانَهُ وتوحيده وأنه سُبْحانَهُ فَوق عَرْشه ينظر إلَيْهِم ويسمع كَلامهم وهو مَعَهم أيْنَما كانُوا وكانَ بَنو إسْرائِيل كثيرا ما يسمون أوْلادهم ب عمانويل ومعنى هَذِه الكَلِمَة إلهنا مَعنا، ولِهَذا كانَ أحب الأسْماء إلى الله عبد الله وعبد الرَّحْمَن بِحَيْثُ إذا وعى الطِّفْل وعقل علم أنه عبد الله وأن الله هو سَيّده ومولاه.
* (فصل)
فَإذا حضر وقت نَبات الأسْنان فَيَنْبَغِي أن يدلك لثاهم كل يَوْم بالزبد والسمن ويمرخ خرز العُنُق تمريخا كثيرا ويحذر عَلَيْهِم كل الحذر وقت نباتها إلى حِين تكاملها وقوتها من الأشْياء الصلبة ويمْنَعُونَ مِنها كل المَنع لما في التَّمَكُّن مِنها من تَعْرِيض الأسْنان لفسادها وتعويجها وخللها.
* (فصل)
وَلا يَنْبَغِي أن يشق على الأبَوَيْنِ بكاء الطِّفْل وصراخه ولا سِيما لشربه اللَّبن إذا جاع فَإنَّهُ ينْتَفع بذلك البكاء انتفاعا عَظِيما فَإنَّهُ يروض أعضاءه ويوسع أمعاءه ويفسح صَدره ويسخن دماغه ويحمي مزاجه ويثير حرارته الغريزية ويحرك الطبيعة لدفع ما فِيها من الفضول ويدْفَع فضلات الدِّماغ من المخاط وغَيره.
* (فصل)
وَيَنْبَغِي أن لا يهمل أمر قماطه ورباطه ولَو شقّ عَلَيْهِ إلى أن يصلب بدنه وتقوى أعضاؤه ويجْلس على الأرْض فَحِينَئِذٍ يمرن ويدرب على الحَرَكَة والقِيام قَلِيلا قَلِيلا إلى أن يصير لَهُ ملكة وقُوَّة يفعل ذَلِك بِنَفسِهِ.
* (فصل)
وَيَنْبَغِي أن يوقى الطِّفْل كل أمر يفزعه من الأصْوات الشَّدِيدَة الشنيعة والمناظر الفظيعة والحركات المزعجة فَإن ذَلِك رُبما أدّى إلى فَساد قوته العاقِلَة لِضعْفِها فَلا ينْتَفع بها بعد كبره فَإذا عرض لَهُ عارض من ذَلِك فَيَنْبَغِي المُبادرَة إلى تلافيه بضده وإيناسه بِما ينسيه إيّاه وأن يلقم ثديه في الحال ويسارع إلى رضاعه ليزول عَنهُ ذَلِك المزعج لَهُ ولا يرتسم في قوته الحافظة فيعسر زَواله ويسْتَعْمل تمهيده بالحركة اللطيفة إلى أن ينام فينسى ذَلِك ولا يهمل هَذا الأمر فَإن في إهماله إسكان الفَزع والروع في قلبه فينشأ على ذَلِك ويعسر زَواله ويتعذر.
* (فصل)
ويتغير حال المَوْلُود عند نَبات أسْنانه ويهيج بِهِ التقيء والحميات وسُوء الأخْلاق ولا سِيما إذا كانَ نباتها في وقت الشتاء والبرد أو في وقت الصَّيف وشدَّة الحر وأحمد أوْقات نباتها الرّبيع والخريف ووقت نباتها لسبعة أشهر وقد تنْبت في الخامِس وقد تتأخر إلى العاشِر فَيَنْبَغِي التلطف في تَدْبيره وقت نباتها وأن يُكَرر عَلَيْهِ دُخُول الحمام وأن يغذى غذاء يَسِيرا فَلا يمْلَأ بَطْنه من الطَّعام وقد يعرض لَهُ انطلاق البَطن فيعصب بِما يَكْفِيهِ مثل عِصابَة صوف عَلَيْها كمون ناعم وكرفس وأنيسون وتدلك لثته بِما تقدم ذكره، ومَعَ هَذا فانطلاق بَطْنه في ذَلِك الوَقْت خير لَهُ من اعتقاله فَإن كانَ بَطْنه معتقلا عند نَبات أسْنانه فَيَنْبَغِي أن يُبادر إلى تليين طَبِيعَته فَلا شَيْء أضرّ على الطِّفْل عند نَبات أسْنانه من اعتقال طَبِيعَته ولا شَيْء أنْفَع لَهُ من سهولتها باعتدال
وَأحمد ما تلين بِهِ عسل مطبوخ يتَّخذ مِنهُ فتائل ويحمل بها أو حبق مسحوق معجون بِعَسَل يتَّخذ مِنهُ فتائل كَذَلِك ويَنْبَغِي للمرضع في ذَلِك الوَقْت تلطيف طعامها وشرابها وتجتنب الأغذية المضرَّة.
* (فصل)
وَمِمّا يَنْبَغِي أن يحذر أن يحمل الطِّفْل على المَشْي قبل وقته لما يعرض في أرجُلهم بِسَبَب ذَلِك من الانفتال والاعوجاج بِسَبَب ضعفها وقبولها لذَلِك واحْذَرْ كل الحذر أن تحبس عَنهُ ما يحْتاج إلَيْهِ في قيء أو نوم أو طَعام أو شراب أو عطاس أو بَوْل أو إخْراج دم فَإن لحبس ذَلِك عواقب رديئه في حق الطِّفْل والكَبِير
* (فصل)
وَمِمّا يحْتاج إلَيْهِ الطِّفْل غايَة الِاحْتِياج الاعتناء بِأمْر خلقه فَإنَّهُ ينشأ على ما عوده المربي في صغره من حرد وغَضب ولجاج وعجلة وخفة مَعَ هَواهُ وطيش وحدة وجشع فيصعب عَلَيْهِ في كبره تلافي ذَلِك وتصير هَذِه الأخْلاق صِفات وهيئات راسخة لَهُ فَلَو تحرز مِنها غايَة التَّحَرُّز فضحته ولا بُد يَوْمًا ما ولِهَذا تَجِد أكثر النّاس منحرفة أخْلاقهم وذَلِكَ من قبل التربية الَّتِي نَشأ عَلَيْها وكَذَلِكَ يجب أن يتَجَنَّب الصَّبِي إذا عقل مجالِس اللَّهْو والباطِل والغناء وسَماع الفُحْش والبدع ومنطق السوء فَإنَّهُ إذا علق بسمعه عسر عَلَيْهِ مُفارقَته في الكبر وعز على وليه استنقاذه مِنهُ فتغيير العوائد من أصعب الأُمُور يحْتاج صاحبه إلى استجداد طبيعة ثانِيَة والخُرُوج عَن حكم الطبيعة عسر جدا.
وَيَنْبَغِي لوَلِيِّه أن يجنبه الأخْذ من غَيره غايَة التجنب فَإنَّهُ مَتى اعْتادَ الأخْذ صار لَهُ طبيعة ونَشَأ بِأن يَأْخُذ لا بِأن يُعْطي ويعوده البَذْل والإعطاء وإذا أرادَ الوَلِيّ أن يُعْطي شَيْئا أعطاهُ إيّاه على يَده ليذوق حلاوة الإعْطاء ويجنبه الكَذِب والخيانة أعظم مِمّا يجنبه السم الناقع فَإنَّهُ مَتى سهل لَهُ سَبِيل الكَذِب والخيانة أفسد عَلَيْهِ سَعادَة الدُّنْيا والآخِرَة وحرمه كل خير
ويجنبه الكسل والبطالة والدعة والراحة بل يَأْخُذهُ بأضدادها ولا يريحه إلّا بِما يجم نَفسه وبدنه للشغل فَإن الكسل والبطالة عواقب سوء ومغبة نَدم وللجد والتعب عواقب حميدة إمّا في الدُّنْيا وإمّا في العقبى وإمّا فيهما فأروح النّاس أتعب النّاس وأتعب النّاس أروح النّاس فالسيادة في الدُّنْيا والسعادة في العقبى لا يُوصل إلَيْها إلّا على جسر من التَّعَب.
قالَ يحيى بن أبي كثير لا ينال العلم براحة الجِسْم.
ويعوده الانتباه آخر اللَّيْل فَإنَّهُ وقت قسم الغَنائِم وتفريق الجوائز فمستقل ومستكثر ومحروم فَمَتى اعْتادَ ذَلِك صَغِيرا سهل عَلَيْهِ كَبِيرا.
* (فصل)
ويجنبه فضول الطَّعام والكَلام والمنام ومخالطة الأنام فَإن الخسارة في هَذِه الفضلات وهِي تفوت على العَبْد خير دُنْياهُ وآخرته ويجنبه مضار الشَّهَوات المُتَعَلّقَة بالبطن والفرج غايَة التجنب فَإن تَمْكِينه من أسبابها والفسح لَهُ فِيها يُفْسِدهُ فَسادًا يعز عَلَيْهِ بعده صَلاحه وكم مِمَّن أشْقى ولَده وفلذة كبده في الدُّنْيا والآخِرَة بإهماله وترك تأديبه وإعانته لَهُ على شهواته ويَزْعُم أنه يُكرمهُ وقد أهانه وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه ففاته انتفاعه بولده وفوت عَلَيْهِ حَظه في الدُّنْيا والآخِرَة وإذا اعْتبرت الفساد في الأوْلاد رَأيْت عامته من قبل الآباء
* (فصل)
والحذر كل الحذر من تَمْكِينه من تناول ما يزِيل عقله من مُسكر وغَيره أو عشرَة من يخْشى فَساده أو كَلامه لَهُ أو الأخْذ في يَده فَإن ذَلِك الهَلاك كُله ومَتى سهل عَلَيْهِ ذَلِك فقد استسهل الدياثة ولا يدْخل الجنَّة ديوث فَما أفسد الأبْناء مثل تغفل الآباء وإهمالهم واستسهالهم شرر النّار بَين الثِّياب فَأكْثر الآباء يعتمدون مَعَ أوْلادهم أعظم ما يعْتَمد العَدو الشَّديد العَداوَة مَعَ عدوه وهم لا يَشْعُرُونَ فكم من والِد حرم والِده خير الدُّنْيا والآخِرَة وعرضه لهلاك الدُّنْيا والآخِرَة وكل هَذا عواقب تَفْرِيط الآباء في حُقُوق الله وإضاعتهم لَها وإعراضهم عَمّا أوجب الله عَلَيْهِم من العلم النافع والعَمَل الصّالح حرمهم الِانْتِفاع بأولادهم وحرم الأوْلاد خَيرهمْ ونفعهم لَهُم هو من عُقُوبَة الآباء.
* (فصل)
ويجنبه لبس الحَرِير فَإنَّهُ مُفسد لَهُ ومخنث لطبيعته كَما يخنثه اللواط وشرب الخمر والسَّرِقَة والكذب وقد قالَ النَّبِي ﷺ يحرم الحَرِير والذَّهَب على ذُكُور أمتِي وأحل لإناثهم والصَّبِيّ وإن لم يكن مُكَلّفا فَوَلِيه مُكَلّف لا يحل لَهُ تَمْكِينه من المحرم فَإنَّهُ يعتاده ويعسر فطامه عَنهُ وهَذا أصح قولي العلماء واحْتج من لم يره حَرامًا عَلَيْهِ بِأنَّهُ غير مُكَلّف فَلم يحرم لبسه للحرير كالدابة وهَذا من أفسد القياس فَإن الصَّبِي وإن لم يكن مُكَلّفا فَإنَّهُ مستعد للتكليف ولِهَذا لا يُمكن من الصَّلاة بِغَيْر وضوء ولا من الصَّلاة عُريانا ونجسا ولا من شرب الخمر والقمار واللواط
* (فصل)
وَمِمّا يَنْبَغِي أن يعْتَمد حال الصَّبِي وما هو مستعد لَهُ من الأعْمال ومهيأ لَهُ مِنها، فَيعلم أنه مَخْلُوق لَهُ فَلا يحملهُ على غَيره ما كانَ مَأْذُونا فِيهِ شرعا فَإنَّهُ إن حمله على غير ما هو مستعد لَهُ لم يفلح فِيهِ وفاته ما هو مُهَيَّأ لَهُ فَإذا رَآهُ حسن الفَهم صَحِيح الإدْراك جيد الحِفْظ واعيا فَهَذِهِ من عَلامات قبُوله وتهيئه للْعلم لينقشه في لوح قلبه ما دامَ خالِيا فَإنَّهُ يتَمَكَّن فِيهِ ويستقر ويزكو مَعَه وإن رَآهُ بِخِلاف ذَلِك من كل وجه وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الرّكُوب والرَّمْي واللعب بِالرُّمْحِ وأنه لا نَفاذ لَهُ في العلم ولم يخلق لَهُ مكنه من أسباب الفروسية والتمرن عَلَيْها فَإنَّهُ أنْفَع لَهُ وللمسلمين وإن رَآهُ بِخِلاف ذَلِك وأنه لم يخلق لذَلِك ورَأى عينه مَفْتُوحَة إلى صَنْعَة من الصَّنائِع مستعدا لَها قابلا لَها وهِي صناعَة مُباحَة نافعة للنّاس فليمكنه مِنها هَذا كُله بعد تَعْلِيمه لَهُ ما يحْتاج إلَيْهِ في دينه فَإن ذَلِك ميسر على كل أحد لتقوم حجَّة الله على العَبْد فَإن لَهُ على عباد الحجَّة البالِغَة كَما لَهُ عَلَيْهِم النِّعْمَة السابغة. والله أعلم.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارࣰا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَیۡهَا مَلَـٰۤىِٕكَةٌ غِلَاظࣱ شِدَادࣱ لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق