الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْها ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤].
لا تَحمِلُ النفوسُ إلاَّ أوزارَها وحَسَناتِها، التي كسَبَتْ بنفسِها أو دَلَّتْ غَيْرَها عليها، فأخَذَتْ إثمَ الدَّلالةِ أو أجرَها وعَمَلَ المدلولِ ولو لم تَقُمْ بالعملِ بنفسِها، كما قال تعالى: ﴿ولا تُجْزَوْنَ إلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [يس: ٥٤]، وقال: ﴿لَها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها ما اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: ٢٨٦]، وقال: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إلاَّ أصْحابَ اليَمِينِ ﴾ [المدثر: ٣٨ ـ ٣٩]، وقال: ﴿وأَنْ لَيْسَ لِلإنْسانِ إلاَّ ما سَعى ﴾ [النجم: ٣٩].
والوِزْرُ لا يُهدى، ولو أراد أحدٌ في الدُّنيا أنْ يتحمَّلَ وِزْرَ غيرِهِ في الآخِرةِ، لم يكنْ له ذلك ما لم يَكُنْ هو الذي عَمِلَ الوِزْرَ أو دَلَّ عليه، بخلافِ الثوابِ فيُهدى بشروطِهِ ولو لم يَعْلَمِ المُهدى إليه، وهذا مِن رحمةِ اللهِ وعَدْلِهِ.
ما يَنْفَعُ الحيَّ والميتَ من عملِ غيرِهِ:
وفي «الصحيحِ»، قال ﷺ: (إذا ماتَ الإنْسانُ، انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلاَّ مِن ثَلاثَةٍ: إلاَّ مِن صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، أوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ ولَدٍ صالِحٍ يَدْعُو لَهُ) [[أخرجه مسلم (١٦٣١).]].
ولا خلافَ عندَ السلفِ في أنّ الصدقةَ الجاريةَ، والعِلْمَ الذي يُنتفَعُ به، ودعاءَ الوَلَدِ: ثلاثةٌ تَصِلُ إلى الميِّتِ بعدَ مَوْتِهِ، لظاهِرِ الحديثِ.
وقد دَلَّ الدليلُ على غيرِها مِن الأعمالِ التي يَصِحُّ إهداؤُها إلى الميِّتِ، على خلافٍ عندَ العُلَماءِ في بعضِ أحوالِها وصُوَرِها، ومنها الحجُّ والعمرةُ.
وذِكْرُ دعاءِ الولدِ لا يُخرِجُ دعاءَ غيرِهِ للميِّتِ بالإجماعِ، فلو دعا غيرُ الولدِ لأحدٍ وتقبَّلَهُ اللهُ، نفَعَ صاحِبَهُ، فهو موقوفٌ على قَبُولِ اللهِ له، كما أنّ دعاءَ الرجلِ لنفسِهِ موقوفٌ على قَبُولِ اللهِ له، وقد امتدَحَ اللهُ دعاءَ المؤمنينَ لِمَن سبَقَهُمْ بقولِهِ: ﴿والَّذِينَ جاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ولإخْوانِنا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ﴾ [الحشر: ١٠].
وإنّما ذكَرَ رسولُ اللهِ ﷺ الولدَ خاصَّةً، لأنّه أولى الناسِ أنْ يَدْعوَ لأبيهِ وأَرْجاهُم، فالميِّتُ يُنسى غالبًا إلاَّ مِن ذُرِّيَّتِه، وفي ذلك إشارةٌ إلى استِصْلاحِ الأولادِ، رَغْبةً في دعائِهم.
وإنّما ذكَرَ دعاءَ الولدِ ولم يذكُرْ صَدَقةَ الولدِ مع قَبُولِها منه، إشارةً إلى أنّ الأَولى أنْ يُقدِّمَ لنفسِهِ صدقةً جاريةً، فنفوسُ الناسِ حتى الأولادِ مجبولةٌ على الشُّحِّ، فيَبخَلُ الولدُ بالنفقةِ على والدِهِ ولو كان يُحِبُّهُ، ولكنَّه لا يَبخَلُ بالدُّعاءِ، لأنّه لا يَنقُصُهُ شيئًا، فذكَرَ الصدقةَ الجاريةَ وأطلَقَها، إشارةً إلى أنّ الميِّتَ ينبغي أنْ يُقدِّمَ لنفسِه، ولا ينتظِرَ غيرَه.
إهداءُ الثوابِ:
واختُلِفَ في أكثرِ الأعمالِ كالذِّكْرِ والصلاةِ وقراءةِ القرآنِ والصومِ: هل يَصِحُّ إهداؤُها أو لا؟ على خلافٍ عندَ العلماءِ:
وقد ذهَبَ أبو حنيفةَ وأحمدُ: إلى جوازِ إهداءِ ثوابِ جميعِ الأعمالِ، وإلى هذا ذهَب جماعةٌ مِن الشافعيَّةِ، واستثنى الحنفيَّةُ الصيامَ: فيَرَوْنَ الإطعامَ عن الميِّتِ، لا الصيامَ عنه.
وذهَب مالكٌ والشافعيُّ: إلى أنّه لا يَصِلُ إلى الميِّتِ إلاَّ ما دَلَّ عليه الدليلُ، وهذا الأشبَهُ والأقرَبُ، لأنّ الصحابةَ يُكثِرُونَ مِن السؤالِ عن بعضِ الأعمالِ ووصولِها إلى الميِّتِ وانتفاعِهِ بها، ممّا يدُلُّ على إدراكِهِمْ أنّ الأصلَ عدمُ وصولِها، ولو كان الأصلُ الوصولَ، لجاز عمَلُ الحيِّ للميِّتِ كما يَعمَلُ الحيُّ لنفسِهِ، وجاء الحثُّ عامًّا لا خاصًّا بصدقةٍ وحجٍّ ونحوِهما.
وقد كان الصحابةُ والتابِعونَ أحرَصَ الناسِ على عملِ البِرِّ لغيرِهم، ولم يَرِدْ عنهم أداءُ الصلواتِ وقراءةُ القرآنِ وإهداءُ الثوابِ لغيرِهم، ومع حبِّ بعضِهم بعضًا وحبِّهم مَن سلَفَ منهم، فلم يَثبُتْ عن واحدٍ منهم ذلك، ومع حِرْصِهم على الاستزادةِ فكانوا يُوصُونَ بأشياءَ كثيرةٍ، ولم يثبُتْ أنّ واحدًا منهم أوْصى بالصلاةِ عنه، وقراءةِ القرآنِ عنه، والتسبيحِ والتحميدِ والتهليلِ وإهداءِ ثوابِ ذلك إليه، وقد كانوا يَزُورُونَ القبورَ ويَستحضِرونَ أهلَها وفَضْلَهُمْ وسَبْقَهم وحاجتَهم وفرَحَهُمْ بالعملِ الصالحِ، ومع ذلك لم يثبُتْ عن واحدٍ منهم أنّه صلّى أو قرَأَ أو سبَّحَ لميِّتٍ منهم.
وقد جاء في الأحاديثِ والآثارِ عنهم: الدعاءُ للميِّتِ، ولم يَرِدْ إهداءُ ثوابِ الأعمالِ، مع قيامِ داعِيهِ ومُوجبِهِ وحضورِ الحاجةِ إليه، وكان السلفُ يَذكُرونَ حَسْرةَ أهلِ القبورِ على فَواتِ الأعمالِ، وحاجتَهُمْ إلى ركَعاتٍ وتسبيحاتٍ، ومع ذلك لم يَحمِلْهُمْ وجْدُهُمْ على مَوْتاهُم على إهداءِ صلاةٍ أو قراءةٍ لهم، ولم يَفْعَلْهُ الأبناءُ بآبائِهم وهم أعظَمُ القرونِ بِرًّا بهم.
أثَرُ ذنبِ الوالديْن على الوَلَدِ:
وفي قولِه تعالى: ﴿ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْها﴾ دليلٌ على أنّ جَرِيرَةَ الوالدِ لا تنتقِلُ إلى الولدِ، وأمّا ما استفاضَ في الآثارِ: بأنّ جزاءَ البِرِّ وعقابَ العقوقِ دَيْنٌ ناجِزٌ في الأولادِ، فليس المرادُ أنّ اللهَ يَجعلُ إثمَ عقوقِ الوالدِ لأبيهِ على ابنِه، بل إنّ الوَلَدَ لا يأخُذُ جريرةَ العقوقِ حتى يَعُقَّ هو بنفسِهِ أباه، لا بمجرَّدِ عقوقِ أبيهِ لجَدِّه، ولو مات قبلَ ذلك أو كان بارًّا، لم يَلحَقْهُ شيءٌ.
ومِثلُ ذلك: ما جاء في عِفَّةِ الأمِّ وأثرِ ذلك على ولَدِها، كما في قولِهِ تعالى عن عفافِ مريمَ وقولِ قَوْمِها لها: ﴿ما كانَ أبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: ٢٨]، فليس المرادُ به أنّ البنتَ تكونُ بَغِيًّا بمجرَّدِ زِنى أُمِّها، وإنّما المرادُ أنّ الأمَّ تُربِّي بنتَها على مِثْلِ ما هي عليه، وتَراها بنتُها وتَصنَعُ مِثْلَها، والعفيفةُ تُربِّي عفيفةً مِثلَها، وليس هذا انتقالًا للأوزارِ.
وقد تكونُ المرأةُ بغيًّا وليس لها ابنٌ ولا بنتٌ، وقد يكونُ لها بنتٌ عفيفةٌ، وقد يكونُ في الأمِّ العفيفةِ بنتٌ عَكْسُها، فإنّ الزِّنى لم يكنْ في ذُرِّيَّةِ آدَمَ وحَوّاءَ الأُولى، وإنّما كان في ذراريَّ جاءتْ بعدَ ذلك بِزَمَنٍ، فلم تُسبَقْ كلُّ زانيةٍ بأمٍّ مِثْلِها، فالأصلُ في بني آدَمَ العفافُ.
وأمّا ما يُروى في الحديثِ: (عِفُّوا تَعِفَّ نِساؤُكُمْ)، فرواهُ الحاكمُ، مِن حديثِ أبي هريرةَ وجابرٍ[[أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٤ /١٥٤).]]، وجاء عندَ الطبرانيِّ بنحوِه مِن حديثِ ابنِ عمرَ وعائشةَ[[أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» (١٠٠٢) و(٦٢٩٥).]]، وعندَ الخرائطيِّ عن ابنِ عبّاسٍ[[«اعتلال القلوب» للخرائطي (١ /٦٠).]]، وفي بعضِها زيادةٌ: «بَرُّوا آباءَكُمْ، تَبَرَّكُمْ أبْناؤُكُمْ»، ولا يصحُّ منها شيءٌ.
وقد يكونُ العقوقُ في الأولادِ عقوبةً لعقوقِ الآباءِ لآبائِهم، بأنْ يكونَ في الأولادِ أسبابٌ تُوجِبُ عقوقَهُمْ لآبائِهِمْ قامتْ فيهم كما قامتْ في آبائِهِمْ مع أجدادِهم، وكلٌّ محاسَبٌ مكلَّفٌ، الأحفادُ والآباءُ، وقد يتوبُ الوالِدُ مِن عقوقِهِ لأبيهِ فلا يَعُقُّهُ ولدُه، وقد لا يكونُ عاقًّا وقد يكونُ عاقًّا ويتوبُ ثمَّ يَعُقُّهُ ولدُهُ، ابتِلاءً مِن اللهِ، لا عقوبةً، وقد وُجِدَ مِن ذريَّةِ البارِّينَ أولادٌ عاقُّونَ، والعكسُ كذلك، وقد لا يكونُ للعاقِّ ذريَّةٌ ولا زوجٌ أصلًا، فلا تُعجَّلُ عقوبتُهُ مِن ولدِه.
وإنّما ذكَرَ اللهُ أمرًا يقعُ ويكثُرُ، وهو الجزاءُ العاجلُ بمِثْلِ ما وقَعَ منه، وليس ذلك بلازِمٍ لكلِّ أحدٍ، ولهذا لم تَثبُتْ بصراحتِهِ النصوصُ، وإنّما جاء على سبيلِ الإجمالِ تعجيلُ العقوبةِ بقطيعةِ الرَّحِمِ والعقوقِ.
وقد يُعاقِبُ اللهُ الوالِدَ بعقوقِ ولدِهِ له، لأنّ الوالِدَ كان عاقًّا لأبيه، ثمَّ يرزُقُ اللهُ الحفيدَ التوبةَ، فأَجْرى اللهُ على يدِ الوَلَدِ عقوبةً لوالدِهِ، ثمَّ وفَّقَهُ للتوبةِ فتاب عليه، فكانتْ رحمةً بالوالدِ والولدِ، وذلك أنْ عَجَّلَ عقوبةَ الوالدِ في الدُّنيا، ووَفَّقَ الولدَ للتوبةِ، وقَبِلَ منهم، وكلُّهم لَقِيَ اللهَ بلا وِزْرٍ، وهذا مِن رحمةِ اللهِ وإحسانِهِ وحكمتِه.
{"ayah":"قُلۡ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِی رَبࣰّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَیۡءࣲۚ وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَیۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِیهِ تَخۡتَلِفُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق