الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أَيْ مَالِكُهُ. رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: ارْجِعْ يَا مُحَمَّدُ إِلَى دِينِنَا، واعبد آلهتنا، وأترك ما أنت عَلَيْهِ، وَنَحْنُ نَتَكَفَّلُ لَكَ بِكُلِّ تِبَاعَةٍ تَتَوَقَّعُهَا فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَهِيَ اسْتِفْهَامٌ يَقْتَضِي التَّقْرِيرَ وَالتَّوْبِيخَ. وَ "غَيْرَ" نُصِبَ "بِ" أَبْغِي "وَ" رَبًّا" تَمْيِيزٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها﴾ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها﴾ أَيْ لَا يَنْفَعُنِي فِي ابْتِغَاءِ رب غير الله كونكم على ذلك، إلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا، أَيْ لَا يُؤْخَذُ بِمَا أَتَتْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَرَكِبَتْ مِنَ الْخَطِيئَةِ سِوَاهَا. الثَّانِيَةُ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُخَالِفِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَحَمُّلُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ دون أحكام الدنيا، بدليل قول تَعَالَى: "وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى " عَلَى مَا يَأْتِي. وَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ عِنْدَنَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ، فَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ. هَذَا عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ قَدْ بَاعَ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَاشْتَرَى وَتَصَرَّفَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: عُرِضَ لِلنَّبِيِّ ﷺ جَلَبٌ [[الجلب (بالتحريك): ما جلب القوم من غنم وغيره.]] فَأَعْطَانِي دِينَارًا وَقَالَ: (أَيْ عُرْوَةُ ايتِ الْجَلَبَ فَاشْتَرِ لَنَا شَاةً بِهَذَا الدِّينَارِ) فَأَتَيْتُ الْجَلَبَ فَسَاوَمْتُ فَاشْتَرَيْتُ شَاتَيْنِ بِدِينَارٍ، فَجِئْتُ أَسُوقُهُمَا- أَوْ قَالَ أَقُودُهُمَا- فَلَقِيَنِي رَجُلٌ فِي الطَّرِيقِ فَسَاوَمَنِي فَبِعْتُهُ إِحْدَى الشَّاتَيْنِ بِدِينَارٍ، وَجِئْتُ بِالشَّاةِ الْأُخْرَى وَبِدِينَارٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ الشَّاةُ وَهَذَا دِينَارُكُمْ. قَالَ: (كَيْفَ صَنَعْتَ)؟ فَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيثَ. قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ). قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَقِفُ فِي كُنَاسَةِ [[محله بالكوفة يشبه أن تكون سوقا.]] الْكُوفَةِ فَأَرْبَحُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا قَبْلَ أَنْ أَصِلَ إِلَى أَهْلِي. لَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ، وَفِيهِ [[في ج: في صحته ثبوت.]] صِحَّةُ ثُبُوتِ النَّبِيِّ ﷺ لِلشَّاتَيْنِ [[في ك: للشارين.]]، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا أَخَذَ مِنْهُ الدِّينَارَ وَلَا أَمْضَى لَهُ الْبَيْعَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ، وَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. فَإِذَا قال الموكل لو كيله: اشْتَرِ كَذَا، فَاشْتَرَى زِيَادَةً عَلَى مَا وُكِّلَ بِهِ فَهَلْ يَلْزَمُ ذَلِكَ الْأَمْرُ أَمْ لَا؟. كرجل قال لرجل: أشتر بهذا الدِّرْهَمِ رِطْلَ لَحْمٍ، صِفَتُهُ كَذَا، فَاشْتَرَى لَهُ أَرْبَعَةَ أَرْطَالٍ مِنْ تِلْكَ الصِّفَةِ بِذَلِكَ الدِّرْهَمِ. فَالَّذِي عَلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّ الْجَمِيعَ يَلْزَمُهُ إِذَا وَافَقَ الصِّفَةَ وَمِنْ جِنْسِهَا، لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي. وَهَذَا الْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ. قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) "أَيْ لَا تَحْمِلُ حَامِلَةُ ثِقَلٍ أُخْرَى، أَيْ لَا تُؤْخَذُ نَفْسٌ بِذَنْبِ غَيْرِهَا، بَلْ كُلُّ نَفْسٍ مَأْخُوذَةٌ بِجُرْمِهَا وَمُعَاقَبَةٌ بِإِثْمِهَا. وَأَصْلُ الْوِزْرِ الثِّقَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [[راجع ج ٢٠ ص ١٠٥.]] ". وَهُوَ هُنَا الذَّنْبُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ". وَقَدْ تَقَدَّمَ [[راجع ج ٦ ص ٤١٣ وص ٣٤٢.]]. قَالَ الْأَخْفَشُ: يُقَالُ وَزِرَ يَوْزَرُ، وَوَزَرَ يَزِرُ، وَوُزِرَ يُوزَرُ وَزَرًا. وَيَجُوزُ إِزْرًا، كَمَا يُقَالُ: إِسَادَةٌ [[في قولهم: وسادة.]]. وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ المغيرة، كان يقول: اتبعوا سبيلي أحمل أو زاركم، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ رَدًّا عَلَى الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الرَّجُلِ بِأَبِيهِ وَبِابْنِهِ وَبِجَرِيرَةِ حَلِيفِهِ. قُلْتُ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ الَّتِي قَبْلَهَا، فَأَمَّا الَّتِي [[من ز.]] فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يُؤَاخَذُ فِيهَا بَعْضُهُمْ بِجُرْمِ بَعْضٍ، لَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَنْهَ الطَّائِعُونَ الْعَاصِينَ، كَمَا تَقَدَّمَ في حديث أبي بكر في قول:" عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [[راجع ج ٦ ص ٤١٣ وص ٣٤٢.]] ". وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [[راجع ص ٣٩١ من هذا الجزء.]] "." إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [[راجع ج ٩ ص ٢٩١.]] ". وَقَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ). قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ أَوْلَادُ الزِّنَى. وَالْخَبَثُ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) اسْمٌ لِلزِّنَى. فَأَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ حَتَّى لَا يُطَلَّ [[طل دمه: ذهب هدرا.]] دَمُ الْحُرِّ [[في ك: المرء.]] الْمُسْلِمِ تَعْظِيمًا لِلدِّمَاءِ. وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بينهم في ذلك ز، فَدَلَّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي الدُّنْيَا، فِي أَلَّا يُؤَاخَذَ زَيْدٌ بِفِعْلِ عَمْرٍو، وَأَنَّ كُلَّ مُبَاشِرٍ لِجَرِيمَةٍ فَعَلَيْهِ مَغَبَّتُهَا. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ قَالَ، انْطَلَقْتُ مَعَ أَبِي نَحْوَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِأَبِي: (ابْنُكَ هَذَا)؟ قَالَ: أَيْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. قَالَ: (حَقًّا). قَالَ: أَشْهَدُ بِهِ. قَالَ: فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ ﷺ ضَاحِكًا مِنْ ثَبْتِ [[كذا في الأصول أي استقرار وفى سنن أبى داود: بين.]] شَبَهِي فِي أَبِي، وَمِنْ حَلِفِ أَبِي عَلَيَّ. ثُمَّ قَالَ: (أَمَا إِنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ). وَقَرَأَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ "وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ". وَلَا يُعَارَضُ مَا قُلْنَاهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ:" وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [[راجع ج ١٣ ص ٣٣٠. وص ١٢.]] "، فَإِنَّ هَذَا مُبَيَّنٌ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَوْلُهُ:" لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [[راجع ج ١٠ ص ٩٦.]] ". فَمَنْ كَانَ إِمَامًا فِي الضَّلَالَةِ وَدَعَا إِلَيْهَا وَاتُّبِعَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَحْمِلُ وِزْرَ مَنْ أَضَلَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ وِزْرِ المضل [[في ك: المظلين.]] شي، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب