الباحث القرآني
ولَمّا حاجُّوهُ في الشِّرْكِ في هَذِهِ السُّورَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ كَما حاجَّ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قَوْمُهُ، وكانَ آخِرُ ذَلِكَ أنْ دَعاهم ﷺ إلى تِلاوَةِ ما أنْزَلَ عَلَيْهِ - سُبْحانَهُ - في تَحْرِيمِ الشِّرْكِ وشَرْحِ دِينِهِ القَيِّمِ، ثُمَّ كَرَّرَ هُنا ذَمَّهم بِالتَّفَرُّقِ الدّالِّ عَلى الضَّلالِ ولا بُدَّ، ومَدْحِ دِينِ الرُّسُلِ الَّذِي تَقَدَّمَ أنَّهم لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ أصْلًا، وأيْأسَ الكُفّارَ مِن مُوافَقَتِهِ ﷺ لَهم نَوْعًا مِنَ المُوافَقَةِ ومَيْلِهِ مَعَهم شَيْئًا مِنَ المَيْلِ - أمَرَهُ (p-٣٤١)- سُبْحانَهُ - بَعْدَ أنْ ثَبَتَ بِأوَّلِ السُّورَةِ وأثْنائِها وآخِرَها أنَّهُ لا رَبَّ غَيْرُهُ - بِالإنْكارِ عَلى مَن يُرِيدُ مِنهُ مَيْلًا إلى غَيْرِ مَن تَفَرَّدَ بِمَحْياهُ ومَماتِهِ - فَكانَ لَهُ التَّفَرُّدُ بِما بَيْنَهُما وما بَعْدَ ذَلِكَ مِن غَيْرِ شُبْهَةٍ، والتَّوْبِيخُ الشَّدِيدُ فَقالَ: ﴿قُلْ﴾ أيْ: لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ يَطْمَعُونَ أنْ تَطْرُدَ أصْحابَكَ مِن أجْلِهِمْ: ﴿أغَيْرَ اللَّهِ﴾ أيْ: الَّذِي لَهُ الكَمالُ كُلُّهُ ﴿أبْغِي﴾ أيْ: أطْلُبُ وأُرِيدُ بِالإشْراكِ فَإنَّ الغِنى المُطْلَقَ لا يُقْبَلُ مِمَّنْ أشْرَكَ بِهِ شَيْئًا ﴿رَبًّا﴾ أيْ: مُنْعِمًا يَتَوَلّى مَصالِحِي كَما بَغَيْتُمْ أنْتُمْ، فَهو تَعْرِيضٌ بِهِمْ وتَنْبِيهٌ لَهم، والإسْنادُ إلَيْهِ ﷺ والمُرادُ جَمِيعُ الخَلْقِ - مِن بابِ الإنْصافِ في المُناظَرَةِ لِلِاسْتِعْطافِ ﴿وهُوَ﴾ أيْ: والحالُ أنَّهُ كَما ثَبَتَ بِالقَواطِعِ ورَكَزَ في العُقُولِ الثَّوابِتِ وطَبَعَ في أنْوارِ الأفْكارِ اللَّوامِعِ ﴿رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أيْ: مُوجِدُهُ ومُرَبِّيهِ، أفَيَنْبَغِي لِأحَدٍ أنَّ يَدِينَ لِغَيْرِ سَيِّدِهِ وذَلِكَ الغَيْرُ مَرْبُوبٌ مِثْلُهُ لِسَيِّدِهِ، هَذا ما لا يَرْضاهُ عاقِلٌ لِنَفْسِهِ.
ولَمّا أنْكَرَ عَلى مَن يَجْنَحُ إلى غَيْرِهِ مَعَ عُمُومِ بِرِّهِ وخَيْرِهِ - أتْبَعَهُ التَّرْوِيعَ مِن قَوِيمِ عَدْلِهِ في عَظِيمِ ضُرِّهِ، فَقالَ: ﴿ولا﴾ أيْ: والحالُ أنَّهُ لا ﴿تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ أيْ: ذَنْبًا وإنْ قَلَّ مَعَ التَّصْمِيمِ والعَزْمِ القَوِيِّ الَّذِي هو بِحَيْثُ يُصَدِّقُهُ العَمَلُ - كَما مَضى في آيَةِ البَقَرَةِ: ﴿إلا عَلَيْها﴾ أيْ: لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ باطِلًا لا عَلَيْها ولا عَلى غَيْرِها، وإذا كانَ عَلَيْها (p-٣٤٢)لا يُمْكِنُ أنْ يُحاسِبَ بِهِ - سُبْحانَهُ - سِواها لِأنَّهُ عَدْلٌ حَكِيمٌ فَكَيْفَ أدْعُو غَيْرَهُ دُعاءً جَلِيًّا أوْ خَفِيًّا وذَلِكَ أعْظَمُ الذُّنُوبِ! ولِلتَّنْفِيرِ مِنَ الشِّرْكِ الخَفِيِّ بِالرِّياءِ وكُلِّ مَعْصِيَةٍ وإنْ صَغُرَتْ - جَرَّدَ الفِعْلَ عَنِ الِافْتِعالِ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّهُ لا يَكُونُ عَلَيْها إلّا ما بالَغَتْ فِيهِ، والسِّياقُ هُنا واضِحٌ في أنَّ الكَسْبَ مُقَيَّدٌ بِالذَّنْبِ فَإنَّهُ في دُعاءِ غَيْرِ اللَّهِ وآيَةُ البَقَرَةِ لِلْإيماءِ إلى الذَّنْبِ الَّذِي لا يَقَعُ إلّا بِشَهْوَةٍ شَدِيدَةٍ مِنَ النَّفْسِ لَهُ لِطَبْعِها عَلى النَّقائِصِ، فَهي لا تُنافِي هَذِهِ لِأنَّ ما كَسَبَتْهُ مِنَ الذُّنُوبِ قَدْ عُلِمَ مِن ثَمَّ أنَّهُ اكْتِسابٌ، وأحْسَنُ مِن هَذا أنْ يُقالَ: ولَمّا كانَ المَعْنى أنِّي إنْ بَغَيْتُ رَبًّا غَيْرَهُ وكَلَنِي إلى ما تَوَلَّيْتُهُ، وأنا إنْسانٌ والإنْسانُ مَطْبُوعٌ عَلى النَّقائِصِ فَهَلَكْتُ، عَبَّرَ عَنْهُ بِقَوْلِهِ مُجَرِّدًا لِلْفِعْلِ لِقَصْدِ العُمُومِ: ﴿ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ بِما هي نَفْسٌ ناظِرَةٌ في نَفاسَتِها مُعْرِضَةٌ عَنْ رَبِّها مَوْكُولَةٌ إلى حَوْلِها وقُوَّتِها ﴿إلا عَلَيْها﴾ ولا يَحْمِلُ عَنْها غَيْرُها شَيْئًا مِن وِزْرِها؛ ولَمّا كانَ رُبَّما حَمَلَ أحَدٌ عَنْ غَيْرِهِ شَيْئًا مِن أثْقالِهِ مُساعَدَةً لَهُ - نَفى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ﴾ أيْ: تَحْمِلُ حامِلَةٌ ولَوْ كانَتْ والِدًا أوْ ولَدًا ﴿وِزْرَ﴾ أيْ: إثْمَ ﴿أُخْرى﴾ ﴿وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنهُ شَيْءٌ ولَوْ كانَ ذا قُرْبى﴾ [فاطر: ١٨] فَإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَلا يَجْمُلُ بِعاقِلٍ أنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ بِحَمْلِ شَيْءٍ مِن غَضَبِ هَذا المَلِكِ الَّذِي لا شَرِيكَ لَهُ وإلَيْهِ المَرْجِعُ (p-٣٤٣)وإنْ طالَ المَدى.
ولَمّا عَمَّ في الكَسْبِ وحَمْلِ الوِزْرِ لِئَلّا يَقُولُ مُتَعَنِّتٌ إنَّ خُصَّ هَذا لَكَ لا لَنا - عَمَّ في المَرْجِعِ أيْضًا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقالَ مُهَدِّدًا لَهم بَعْدَ كَمال الإيضاحِ عاطِفًا عَلى ما أرْشَدَ إلَيْهِ الإنْكارُ مِنَ النَّفْيِ في نَحْوِ أنْ يُقالَ: إنِّي لا أفْعَلُ شَيْئًا مِن ذَلِكَ، لا أبْغِي رَبًّا غَيْرَ رَبِّي أصْلًا، وأمّا أنْتُمْ فافْعَلُوا ما أنْتُمْ فاعِلُونَ فَإنَّ رَبَّكم عالِمٌ بِهِ: ﴿ثُمَّ﴾ [أيْ: بَعْدَ طُولِ الإمْهالِ] لَكم لُطْفًا مِنهُ بِكم ﴿إلى رَبِّكُمْ﴾ أيْ: الَّذِي أحْسَنَ إلَيْكم بِكُلِّ نِعْمَةٍ، لا إلى غَيْرِهِ ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾ أيْ: بِالحَشْرِ وإنْ عَمَّرْتُمْ كَثِيرًا أوْ بَقِيتُمْ طَوِيلًا ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ﴾ أيْ: يُخْبِرُكم إخْبارًا جَلِيلًا عَظِيمًا مُسْتَوْفًى.
ولَمّا كانَ قَدْ تَقَدَّمَ أنَّهم فَرَّقُوا دِينَهم، قالَ: ﴿بِما كُنْتُمْ﴾ أيْ: جِبِلَّةً وطَبْعًا؛ ولِذَلِكَ قَدَّمَ الجارَّ لِيُفِيدَ الِاهْتِمامَ بِهِ لِقُوَّةِ داعِيَتِهِمْ إلَيْهِ مِن غَيْرِ إكْراهٍ ولا ذُهُولٍ ولا نِسْيانٍ فَقالَ: ﴿فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أيْ: مَعَ رَسُولٍ وغَيْرِهِ، ويُدِينُكم عَلى جَمِيعِ ذَلِكَ بِما تَسْتَحِقُّونَهُ، وحالُكم جَدِيرٌ بِأنْ يَعْظُمَ عِقابُكم لِأنَّكم كَفَرْتُمْ نِعْمَتَهُ؛ قالَ أبُو حَيّانَ: حَكى النَّقّاشُ أنَّهُ رُوِيَ أنَّ الكُفّارَ قالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: ارْجِعْ يا مُحَمَّدُ إلى دِينِنا واعْبُدْ آلِهَتَنا واتْرُكْ ما أنْتَ عَلَيْهِ ونَحْنُ نَتَكَفَّلُ لَكَ بِكُلِّ ما تَحْتاجُ إلَيْهِ في دُنْياكَ وآخِرَتِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. انْتَهى.
{"ayah":"قُلۡ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِی رَبࣰّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَیۡءࣲۚ وَلَا تَكۡسِبُ كُلُّ نَفۡسٍ إِلَّا عَلَیۡهَاۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرۡجِعُكُمۡ فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ فِیهِ تَخۡتَلِفُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











