الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿وقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِن مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتَّخِذَهُ ولَدًا وكَذَلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ ولِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحادِيثِ واللَّهُ غالِبٌ عَلى أمْرِهِ ولَكِنَّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ ۝﴾ [يوسف: ٢١]. سمّى اللهُ هذا البلاءَ ليوسُفَ تمكينًا بعدَما بِيعَ واشتراهُ العزيزُ، مع أنّه تَبِعَهُ مُغالَبَةٌ على حرامٍ وتُهَمَةٌ وسَجْنٌ وطُولُ بلاءٍ، وفي هذا أنّ أوَّلَ التمكينِ ابتلاءٌ. وقولُه: ﴿الَّذِي اشْتَراهُ مِن مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ﴾ لم يذكُرْ أنّ المُشترِيَ عزيزُ مصرَ، ولا أنّ المرأةَ زَوْجَتُهُ، وذلك لأنّه في سياقِ البيعِ والشراءِ، وهذه المواضعُ تَستوِي فيها الأطرافُ، فعندَ العقودِ لا فرقَ بينَ حاكمٍ ومحكومٍ، فيجبُ أداءُ الحقوقِ كما لو استوَتِ المقاماتُ، وهذا كالخصوماتِ والتَّقاضي فيَستوي فيه الأطرافُ، وهذا شبيهٌ بقولِه تعالى: ﴿وأَلْفَيا سَيِّدَها لَدى البابِ﴾ [يوسف: ٢٥]، قال: سيِّدَها، ولم يقُلْ: سيِّدَ مصرَ، لأنّ السِّياقَ سياقُ خصومةٍ ونِزاعٍ، وهو وزوجتُهُ طرَفٌ فيه، فلا ينبغي حضورُهُ فيه باسمِ عزيزِ مصرَ وسيِّدِها، حتى يتمَّ العدلُ فلا يُبخَسَ حقُّ الأضعَفِ. طاعةُ المرأةِ لزوجِها وخِدْمَتُها له وعنايتُها بوَلَدِهِ: في هذا جريانُ عُرْفِ البشرِ على خِدْمةِ المرأةِ لزوجِها وقيامِها بشأنِ بيتِها ورعايةِ عيالِه، فقد وكَلَ مَن اشترى يوسُفَ رعايتَهُ وإكرامَهُ لامرأتِه، ولم يَكِلْهُ إلى عبدِهِ ومَوْلاتِه، أو خادمِهِ أو وزيرِه. وأمّا طاعةُ المرأةِ لزوجِها في بيتِهِ، فمنه: ما هو محلُّ اتِّفاقٍ على وجوبِه، ومنه: ما هو محلُّ اتِّفاقٍ على عدمِ وجوبِه، ومنه: ما هو محلُّ خلافٍ: أمّا الطاعةُ الواجبةُ بلا خلافٍ: فما يَملِكُهُ منها، وهو بُضْعُها، فلو دعاها إلى فِراشِه، حَرُمَ عليها الامتناعُ عن ذلك، وفي «الصحيحَيْنِ»، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: (إذا دَعا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إلى فِراشِهِ فَأَبَتْ فَباتَ غَضْبانَ عَلَيْها، لَعَنَتْها المَلائِكَةُ حَتّى تُصْبِحَ)[[أخرجه البخاري (٣٢٣٧)، ومسلم (١٤٣٦).]]. وكلُّ أمرٍ يتَّصلُ بذلك، فيجبُ عليها طاعتُهُ فيه، كالامتناعِ عمّا يَحُولُ بينَهُ وبينَ قضاءِ وطَرِهِ ووطَرِها، مِن أكلٍ يَكْرَهُ رائحتَه، أو لِباسٍ يُزهِّدُهُ فيها ويُنفِّرُهُ منها، وتركِ سفرٍ أو خروجٍ مباحٍ تَغِيبُ به عنه فيحتاجُ إليها ولا يَجِدُها. وأمّا خروجُها مِن منزلِها، فلا يُختلَفُ في أنّ السُّنَّةَ استئذانُ المرأةِ مِن زَوْجِها لخروجِها ولو إلى بيتِ أبوَيْها، ومِن ذلك قولُ عائشةَ، كما في «الصحيحَيْنِ» للنبيِّ ﷺ: «أتَأْذَنُ لِي أنْ آتِيَ أبَوَيَّ؟»[[أخرجه البخاري (٤١٤١)، ومسلم (٢٧٧٠).]]. وأمّا مِن جِهةِ وجوبِ ذلك مِن عدمِه، فإنّ خروجَها على حالَيْنِ: خروجٌ ليس بعـارِضٍ، كـالخروجِ إلى الأسواقِ، أو شهودِ الولائمِ، وأشَدُّ منه السفرُ، فذلك لا يجوزُ إلاَّ بإذنِه، وقد حَكى بعضُ العلماءِ الاتِّفاقَ على ذلك، قال ابنُ تيميَّةَ: «فليس لها أنْ تخرُجَ مِن منزِلِهِ إلاَّ بإذنِه، سواءٌ أمَرَها أبوها أو أمُّها أو غيرُ أبوَيْها، باتِّفاقِ الأئمَّةِ»[[«مجموع الفتاوى» (٣٢ /٢٦٣).]]. وأمّا خروجُها لِما جرى العُرْفُ بالخروجِ إلى مِثْلِه، كما كانتِ النِّساءُ تخرُجُ إلى المسجدِ والخَلاءِ، وخروجِ المرأةِ إلى جارتِها وما أشرَفَ على دارِها، فخروجُها لمِثْلِهِ جائزٌ ما لم يَمنَعْها منه، وقد كانتْ أُمَّهاتُ المؤمِنينَ يَفْعَلْنَ ذلك، وكان النبيُّ ﷺ يَسألُ الواحدةَ منهنَّ: (أيْنَ كُنْتِ؟)، كما جاء عن عائشةَ، قالتْ: أبْطَأْتُ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ لَيْلَةً بَعْدَ العِشاءِ، ثُمَّ جِئْتُ، فَقالَ: (أيْنَ كُنْتِ؟)، قُلْتُ: كُنْتُ أسْتَمِعُ قِراءَةَ رَجُلٍ مِن أصْحابِكَ، لَمْ أسْمَعْ مِثْلَ قِراءَتِهِ وصَوْتِهِ مِن أحَدٍ، قالَتْ: فَقامَ وقُمْتُ مَعَهُ حَتّى اسْتَمَعَ لَهُ، ثُمَّ التَفَتَ إلَيَّ، فَقالَ: (هَذا سالِمٌ مَوْلى أبِي حُذَيْفَةَ، الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مِثْلَ هَذا)[[أخرجه ابن ماجه (١٣٣٨).]]. ومِثلُ خروجِها: إذنُها لأحدٍ بالدخولِ في بيتِه، ولو كان ذلك مِن نسائِها، فإنْ كان ممَّن لا يُعتادُ إتيانُهُ في بيتِها وزوجُها شاهدٌ، فالأصلُ عدمُ إدخالِهِ إلاَّ بإذنِه، لِما في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أبي هريرةَ، قال ﷺ: (ولا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إلاَّ بِإذْنِهِ) [[أخرجه البخاري (٥١٩٥)، ومسلم (١٠٢٦).]]. ومَن جرَتِ العادةُ بدخولِهِ بيتَها، كأُمِّها وأُختِها وجارتِها، فذلك جائزٌ ولو لم يأذَنْ في كلِّ مرَّةٍ، وقد كانتِ النِّساءُ تَرِدُ إلى بيوتِ النبيِّ ﷺ ويُدخِلُهُنَّ أزواجُهُ ويَسألُ عنهنَّ، وفي «الصحيحَيْنِ»، عن عائشةَ، أنّ النبيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْها وعِنْدَها امْرَأَةٌ، قالَ: (مَن هَذِهِ؟)، قالَتْ: فُلانَةُ، تَذْكُرُ مِن صَلاتِها، قالَ: (مَهْ، عَلَيْكُمْ بِما تُطِيقُونَ، فَواللهِ، لا يَمَلُّ اللهُ حَتّى تَمَلُّوا)، وكانَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيْهِ ما دامَ عَلَيْهِ صاحِبُهُ[[أخرجه البخاري (٤٣)، ومسلم (٧٨٥).]]. وأمّا الطاعةُ غيرُ الواجبةِ بالاتِّفاقِ: فقد تحرُمُ إنْ أمَرَها بمحرَّمٍ كالوَطْءِ في الدُّبُرِ، وقد تُكرَهُ إنْ أمَرَها بفعلِ مكروهٍ، وإنْ أمَرَها بما يُضِرُّ بها، فليس عليها طاعتُهُ، وأمّا إنْ أمَرَها بما لا يُضِرُّ بها ولا منفعةَ له به، كأنْ يأمُرَها أنْ تَلبَسَ الأبيضَ أو الأصفرَ أو الأخضرَ عندَ النِّساءِ، فلا يجبُ عليها ذلك، لأنّ الأمرَ يتعلَّقُ بها لا به، لكنَّه لو أمَرَها ألاَّ تَلبَسَ لونَ كذا وكذا عندَهُ، فهذا له. وأمّا خِدْمةُ المرأةِ لزوجِها في بيتِهِ مِن طبخِ طعامٍ ونظافةِ ثيابٍ، فقد وقَعَ فيها خلافٌ: وقد ذهَبَ جماعةٌ مِن الفقهاءِ: إلى وجوبِ ذلك، كما هو قولُ أهلِ الرأيِ، وجماعةٍ مِن المالكيَّةِ، وأبي بكرِ بنِ أبي شَيْبةَ، ولكنَّ الحنفيَّةَ أوجَبُوهُ دِيانةً لا قَضاءً. وذهَبَ الشافعيَّةُ والحنابلةُ وجماعةٌ مِن فقهاءِ المالكيَّةِ: إلى عدمِ الوجوبِ. والأظهَرُ في ذلك: أنّه يُجرى على العُرْفِ، وذلك لأنّ الخِدْمةَ تَختلِفُ صِفتُها بحسَبِ البُلْدانِ، فأحوالُ البَوادِي تختلِفُ عن القُرى، وأحوالُ المُدُنِ الكبيرةِ تختلفُ عن القُرى، وقد كان ذلك جاريًا عندَ العربِ وما زال، وقد قَضى النبيُّ ﷺ على فاطمةَ بخِدْمةِ زَوْجِها في بيتِه، وعلى عليٍّ بالخِدْمةِ الظاهرةِ، وكان الصحابةُ يَتزوَّجونَ وتقومُ أزواجُهم بخِدْمتِهم، كما قال جابرٌ للنبيِّ ﷺ: «إنَّ عَبْدَ اللهِ هَلَكَ وتَرَكَ بَناتٍ، وإنِّي كَرِهْتُ أنْ أجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وتُصْلِحُهُنَّ»[[أخرجه البخاري (٥٣٦٧)، ومسلم (٧١٥).]]. وإنّما لم تأتِ نصوصٌ صريحةٌ آمِرةٌ في ذلك، لأنّ كلَّ البيوتِ كانتْ تَجري على العُرْفِ، فتُرِكَتْ على ما هي عليه، والنِّساءُ يَعمَلْنَ في بيوتِ أزواجِهِنَّ ولا يُؤمَرْنَ بذلك، ويقومُ الزوجُ بعلاجِ زَوْجَتِهِ إنْ مَرِضَتْ، وأكثرُ الفقهاءِ كالمذاهبِ الأربعةِ لا يُوجِبُونَ ذلك عليه، ويَفْعَلُ ذلك عادةً وإحسانًا بلا تعاقُدٍ ولا مُشارَطةٍ عليه، ولو دخَلَتِ المُشارَطةُ والعقودُ في مِثْلِ هذا العُرْفِ، لَفَسَدَتِ البيوتُ وقلَّ الإحسانُ بينَ الزوجَيْنِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب