الباحث القرآني
سُورَةُ الْإِنْسَانِ وَهِيَ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ آيَةً مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَدَنِيَّةٌ. وَقِيلَ: فِيهَا مَكِّيٌّ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا [[الآية ٢٣.]] [الإنسان: ٢٣] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَمَا تَقَدَّمَهُ مَدَنِيٌّ. وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: وَحَدَّثَنَا ابْنُ زَيْدٍ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَيَقْرَأُ (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ أَسْوَدُ كَانَ يَسْأَلُ النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا تُثْقِلْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: (دعه يا ابن الْخَطَّابِ) قَالَ: فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ وَهُوَ عِنْدُهُ، فَلَمَّا قَرَأَهَا عَلَيْهِ وَبَلَغَ صِفَةَ الْجِنَانِ زَفَرَ زَفْرَةً فَخَرَجَتْ نَفْسِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (أَخْرَجَ نَفْسَ صَاحِبِكُمْ- أَوْ أَخِيكُمْ- الشَّوْقُ إِلَى الْجَنَّةِ) وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِخِلَافِ هَذَا اللَّفْظِ، وَسَيَأْتِي. وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بن طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ السُّورَةِ عَامٌّ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مَا يُقَالُ إِنَّهُ نَزَلَ بِسَبَبِ كَذَا وَكَذَا.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾ هَلْ: بِمَعْنَى [[في ح: (تقديره).]] قَدْ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سيبويه هَلْ بمعنى قد.
قَالَ الْفَرَّاءُ: هَلْ تَكُونُ جَحْدًا، وَتَكُونُ خَبَرًا، فَهَذَا مِنَ الْخَبَرِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ: هَلْ أَعْطَيْتُكَ؟ تُقَرِّرُهُ بِأَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ. وَالْجَحْدُ أَنْ تَقُولَ: هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا؟ وَقِيلَ: هِيَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِفْهَامِ، وَالْمَعْنَى: أَتَى. وَالْإِنْسَانُ هُنَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ: أَرْبَعُونَ سَنَةً مَرَّتْ بِهِ، قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَهُوَ مُلْقًى بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وعن ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ طِينٍ، فَأَقَامَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ صَلْصَالٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَمَّ خَلْقُهُ بَعْدَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَزَادَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَقَامَ وَهُوَ مِنْ تُرَابٍ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَمَّ خَلْقُهُ بَعْدَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الروح. وقيل: الحين المذكور ها هنا: لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا، حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ. لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَا فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ. وَقِيلَ: أَيْ كَانَ جَسَدًا مصورا ترابا وطئنا، لَا يُذْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ، وَلَا يُدْرَى مَا اسْمُهُ وَلَا مَا يُرَادُ بِهِ، ثُمَّ نُفِخَ فيه الروح، فصار مذكورا، قال الْفَرَّاءُ وَقُطْرُبُ وَثَعْلَبٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ: لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا فِي الْخَلْقِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا مَذْكُورًا. وَقِيلَ: لَيْسَ هَذَا الذِّكْرُ بِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، فَإِنَّ إِخْبَارَ الرَّبِّ عَنِ الْكَائِنَاتِ قَدِيمٌ، بَلْ هَذَا الذِّكْرُ بِمَعْنَى الْخَطَرِ وَالشَّرَفِ وَالْقَدْرِ، تَقُولُ: فُلَانٌ مَذْكُورٌ أَيْ لَهُ شَرَفٌ وَقَدْرٌ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: ٤٤] أَيْ قَدْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَدْرٌ عِنْدَ الْخَلِيقَةِ. ثُمَّ لَمَّا عَرَّفَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ أَنَّهُ جَعَلَ آدَمَ خَلِيفَةً، وحمله الأمانة التي عجز عنها السموات وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، ظَهَرَ فَضْلُهُ عَلَى الْكُلِّ، فَصَارَ مَذْكُورًا. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَعَلَى الْجُمْلَةِ مَا كَانَ مَذْكُورًا لِلْخَلْقِ، وَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا لِلَّهِ. وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ عَنِ الْفَرَّاءِ: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً قَالَ: كَانَ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا. وَقَالَ قَوْمٌ: النَّفْيُ يَرْجِعُ إِلَى الشَّيْءِ، أَيْ قَدْ مَضَى مُدَدٌ مِنَ الدَّهْرِ وَآدَمُ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يُذْكَرُ فِي الْخَلِيقَةِ، لِأَنَّهُ آخِرُ مَا خَلَقَهُ مِنْ أَصْنَافِ الْخَلِيقَةِ، وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ حِينٌ. وَالْمَعْنَى: قَدْ مَضَتْ عَلَيْهِ أَزْمِنَةٌ وَمَا كَانَ آدَمُ شَيْئًا وَلَا مَخْلُوقًا وَلَا مَذْكُورًا لِأَحَدٍ مِنَ الْخَلِيقَةِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ: قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّمَا خُلِقَ الْإِنْسَانُ حَدِيثًا مَا نَعْلَمُ مِنْ خَلِيقَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَلِيقَةً كَانَتْ بَعْدَ الْإِنْسَانِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَتَقْدِيرُهُ: هَلْ أَتَى حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ شَيْئًا مَذْكُورًا، لِأَنَّهُ خَلَقَهُ بَعْدَ خَلْقِ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ، وَلَمْ يَخْلُقْ بَعْدَهُ حَيَوَانًا. وَقَدْ قِيلَ: الْإِنْسانِ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ عُنِيَ بِهِ الْجِنْسُ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، وَأَنَّ الْحِينَ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ، مُدَّةَ حَمْلِ الْإِنْسَانِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً: إِذْ كَانَ عَلَقَةً وَمُضْغَةً، لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ جَمَادٌ لَا خَطَرَ لَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: لَيْتَهَا تَمَّتْ فَلَا نُبْتَلَى أَيْ لَيْتَ الْمُدَّةَ الَّتِي أَتَتْ عَلَى آدَمَ لَمْ تَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا تَمَّتْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَلِدُ وَلَا يُبْتَلَى أَوْلَادُهُ. وَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا يَقْرَأُ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً فَقَالَ لَيْتَهَا تَمَّتْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أَيِ ابْنَ آدَمَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مِنْ نُطْفَةٍ أَيْ مِنْ مَاءٍ يَقْطُرُ وَهُوَ الْمَنِيُّ، وَكُلُّ مَاءٍ قَلِيلٍ فِي وِعَاءٍ فَهُوَ نُطْفَةٌ، كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ:
مَالِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ ... هَلْ أَنْتِ إِلَّا نُطْفَةٌ فِي شَنَّهْ»
وَجَمْعُهَا: نُطَفٌ وَنِطَافٌ.
(أَمْشاجٍ): أَخْلَاطٌ. وَاحِدُهَا: مِشْجٌ وَمَشِيجٌ، مِثْلَ خِدْنٍ وَخَدِينٍ، قَالَ: رُؤْبَةُ:
يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعَجَّلٍ نَشَّاجِ ... لَمْ يُكْسَ جِلْدًا فِي دَمٍ أَمْشَاجِ
وَيُقَالُ: مَشَجْتُ هَذَا بِهَذَا أَيْ خَلَطْتُهُ، فَهُوَ مَمْشُوجٌ وَمَشِيجٌ، مِثْلَ مَخْلُوطٌ وَخَلِيطٌ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: وَاحِدُ الْأَمْشَاجِ: مَشِيجٌ، يُقَالُ: مَشَجَ يَمْشِجُ: إِذَا خَلَطَ، وَهُوَ هُنَا اخْتِلَاطُ النُّطْفَةِ بِالدَّمِ، قَالَ الشَّمَّاخُ:
طَوَتْ أَحْشَاءُ مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ ... عَلَى مَشَجٍ سُلَالَتُهُ مَهِينُ
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَمْشَاجٌ: أَخْلَاطُ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ، وَالدَّمُ وَالْعَلَقَةُ. وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ مِنْ هَذَا إِذَا خُلِطَ: مَشِيجٌ كَقَوْلِكَ خَلِيطٌ، وَمَمْشُوجٌ كَقَوْلِكَ مَخْلُوطٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنه قَالَ: الْأَمْشَاجُ: الْحُمْرَةُ فِي الْبَيَاضِ، وَالْبَيَاضُ فِي الْحُمْرَةِ. وَهَذَا قَوْلٌ يَخْتَارُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالَ الْهُذَلِيُّ [[هو عمرو بن الداخل الهذلي. وفي (اللسان: مشج) زهير بن حرام الهذلي. سيط به: أي خرج قذذ من الريش مختلط من الدم والماء.]]:
كَأَنَّ الرِّيشَ وَالْفُوقَيْنِ مِنْهُ ... خِلَافَ النَّصْلِ سِيطَ بِهِ مَشِيجُ
وَعَنِ [[وفي حاشية الجمل نقلا عن القرطبي ما يأتي: والمعنى: (من نطفة قد امتزج فيها الماءان وكل منهما مختلف الاجزاء متباين الأوصاف في الرقة والثخن والقوام، والخواص تجتمع من الأخلاط وهي العناصر الاربعة ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان الشبه له (.)]] ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: يَخْتَلِطُ مَاءُ الرَّجُلِ وَهُوَ أَبْيَضُ غَلِيظٌ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ وَهُوَ أَصْفَرُ رَقِيقٌ فَيُخْلَقُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ، فَمَا كَانَ مِنْ عَصَبٍ وَعَظْمٍ وَقُوَّةٍ فَهُوَ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ، وَمَا كَانَ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ وَشَعْرٍ فَهُوَ مِنْ مَاءِ الْمَرْأَةِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا، ذَكَرَهُ الْبَزَّارُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَمْشَاجُهَا عُرُوقُ الْمُضْغَةِ. وَعَنْهُ: مَاءُ الرَّجُلِ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ وَهُمَا لَوْنَانِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نُطْفَةُ الرَّجُلِ بَيْضَاءُ وَحَمْرَاءُ وَنُطْفَةُ الْمَرْأَةِ خَضْرَاءُ وَصَفْرَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُلِقَ مِنْ أَلْوَانٍ، خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ مَاءِ الْفَرْجِ وَالرَّحِمِ، وَهِيَ نُطْفَةٌ ثُمَّ عَلَقَةٌ ثُمَّ مُضْغَةٌ ثُمَّ عَظْمٌ ثُمَّ لَحْمٌ. وَنَحْوُهُ قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ أَطْوَارُ الْخَلْقِ: طَوْرُ وطور علقة وطور مضغة عِظَامٍ ثُمَّ يَكْسُو الْعِظَامَ لَحْمًا، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ "الْمُؤْمِنُونَ" وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: ١٢] الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الْأَمْشَاجُ الْأَخْلَاطٌ، لِأَنَّهَا مُمْتَزِجَةٌ مِنْ أَنْوَاعٍ فَخُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْهَا ذَا طَبَائِعَ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْأَمْشَاجُ مَا جُمِعَ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِلنُّطْفَةِ، كَمَا يُقَالُ: بُرْمَةٌ أَعْشَارٌ وَثَوْبٌ أَخْلَاقٌ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الْأَنْصَارِيِّ: قَالَ جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ؟ فَقَالَ: [مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ فَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ آنَثَتْ وَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ أَذْكَرَتْ [فَقَالَ الْحَبْرُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْقَوْلُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ".
(نَبْتَلِيهِ) أَيْ نَخْتَبِرُهُ. وَقِيلَ: نُقَدِّرُ فِيهِ الِابْتِلَاءَ وَهُوَ الِاخْتِبَارُ. وفيما يختبر به وجهان: أحدهما- نختبره بالخير والشر، قال الْكَلْبِيُّ. الثَّانِي- نَخْتَبِرُ شُكْرَهُ فِي السَّرَّاءِ وَصَبْرَهُ فِي الضَّرَّاءِ، قَالَهُ الْحَسَنُ. وَقِيلَ: نَبْتَلِيهِ نُكَلِّفُهُ. وَفِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- بِالْعَمَلِ بَعْدَ الْخَلْقِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. الثَّانِي- بِالدِّينِ لِيَكُونَ مَأْمُورًا بِالطَّاعَةِ وَمَنْهِيًّا عَنِ الْمَعَاصِي. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَبْتَلِيهِ: نُصَرِّفُهُ خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ، لِنَبْتَلِيَهُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ عَنِ الْفَرَّاءِ قَالَ: الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) لِنَبْتَلِيَهُ، وَهِيَ مُقَدَّمَةٌ مَعْنَاهَا التَّأْخِيرُ. قُلْتُ: لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ. وقيل: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً: يَعْنِي جَعَلْنَا لَهُ سَمْعًا يَسْمَعُ بِهِ الْهُدَى، وَبَصَرًا يُبْصِرُ بِهِ الْهُدَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ﴾ أَيْ بَيَّنَّا لَهُ وَعَرَّفْنَاهُ طَرِيقَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِبَعْثِ الرُّسُلِ، فَآمَنَ أَوْ كَفَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: ١٠]. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ بَيَّنَّا لَهُ السَّبِيلَ إِلَى الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَأَبُو صَالِحٍ وَالسُّدِّيُّ: السَّبِيلُ هُنَا خُرُوجُهُ مِنَ الرَّحِمِ. وَقِيلَ: مَنَافِعُهُ وَمَضَارُّهُ الَّتِي يَهْتَدِي إِلَيْهَا بِطَبْعِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ.
(إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أَيْ أَيُّهُمَا فَعَلَ فقد بينا له. قال الكوفيون: (إن) ها هنا تَكُونُ جَزَاءً وَ (مَا) زَائِدَةٌ أَيْ بَيَّنَّا لَهُ الطَّرِيقَ إِنْ شَكَرَ أَوْ كَفَرَ. وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ وَلَمْ يُجِزْهُ الْبَصْرِيُّونَ، إِذْ لَا تَدْخُلُ (إِنْ) لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَسْمَاءِ إِلَّا أَنْ يُضْمَرَ بَعْدَهَا فِعْلٌ. وَقِيلَ: أَيْ هَدَيْنَاهُ الرُّشْدَ، أَيْ بَيَّنَّا لَهُ سَبِيلَ التَّوْحِيدِ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ خَلَقْنَا لَهُ الْهِدَايَةَ اهْتَدَى وَآمَنَ، وَإِنْ خَذَلْنَاهُ كَفَرَ. وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: قَدْ نَصَحْتُ لَكَ، إِنْ شِئْتَ فَاقْبَلْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْ، أَيْ فَإِنْ شِئْتَ، فَتُحْذَفُ الْفَاءُ. وَكَذَا إِمَّا شاكِراً وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُقَالُ: هَدَيْتُهُ السَّبِيلَ وَلِلسَّبِيلِ وَإِلَى السَّبِيلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "الْفَاتِحَةِ" [[راجع ج ١ ص ١٤٧ وص (١٦٠)]] وَغَيْرِهَا. وَجَمَعَ بَيْنَ الشَّاكِرِ وَالْكَفُورِ، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الشَّكُورِ وَالْكَفُورِ مَعَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ، نَفْيًا لِلْمُبَالَغَةِ فِي الشُّكْرِ وَإِثْبَاتًا لَهَا فِي الْكُفْرِ، لِأَنَّ شُكْرَ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُؤَدَّى، فَانْتَفَتْ عَنْهُ الْمُبَالَغَةُ، وَلَمْ تَنْتَفِ عَنِ الْكُفْرِ الْمُبَالَغَةُ، فَقَلَّ شُكْرُهُ، لِكَثْرَةِ النِّعَمِ عَلَيْهِ [[في ا، ح، و: (وكثرة كفره).]] وَكَثْرَةِ كُفْرِهِ وَإِنْ قَلَّ مَعَ الْإِحْسَانِ إِلَيْهِ. حكاه الماوردي.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَـٰنِ حِینࣱ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ یَكُن شَیۡـࣰٔا مَّذۡكُورًا","إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجࣲ نَّبۡتَلِیهِ فَجَعَلۡنَـٰهُ سَمِیعَۢا بَصِیرًا","إِنَّا هَدَیۡنَـٰهُ ٱلسَّبِیلَ إِمَّا شَاكِرࣰا وَإِمَّا كَفُورًا"],"ayah":"هَلۡ أَتَىٰ عَلَى ٱلۡإِنسَـٰنِ حِینࣱ مِّنَ ٱلدَّهۡرِ لَمۡ یَكُن شَیۡـࣰٔا مَّذۡكُورًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق