سُورَةُ الدَّهْرِ مَدَنِيَّةٌ وهي إحْدى وثَلاثُونَ آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ ﴿إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ ﴿إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا﴾ ﴿إنّا أعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وأغْلالًا وسَعِيرًا﴾ ﴿إنَّ الأبْرارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُورًا﴾ ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيرًا﴾ ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ويَخافُونَ يَوْمًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ ﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأسِيرًا﴾ ﴿إنَّما نُطْعِمُكم لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكم جَزاءً ولا شُكُورًا﴾ ﴿إنّا نَخافُ مِن رَبِّنا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ ﴿فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ ولَقّاهم نَضْرَةً وسُرُورًا﴾ ﴿وجَزاهم بِما صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيرًا﴾ ﴿مُتَّكِئِينَ فِيها عَلى الأرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسًا ولا زَمْهَرِيرًا﴾ ﴿ودانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا﴾ ﴿ويُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِن فِضَّةٍ وأكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَ﴾ [الإنسان: ١٥] ﴿قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيرًا﴾ [الإنسان: ١٦] ﴿ويُسْقَوْنَ فِيها كَأْسًا كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا﴾ [الإنسان: ١٧] ﴿عَيْنًا فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلًا﴾ [الإنسان: ١٨] ﴿ويَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إذا رَأيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤًا مَنثُورًا﴾ [الإنسان: ١٩] ﴿وإذا رَأيْتَ ثَمَّ رَأيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا﴾ [الإنسان: ٢٠] ﴿عالِيَهم ثِيابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وإسْتَبْرَقٌ وحُلُّوا أساوِرَ مِن فِضَّةٍ وسَقاهم رَبُّهم شَرابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: ٢١] ﴿إنَّ هَذا كانَ لَكم جَزاءً وكانَ سَعْيُكم مَشْكُورًا﴾ [الإنسان: ٢٢] ﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٣] ﴿فاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تُطِعْ مِنهم آثِمًا أوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٢٤] ﴿واذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٥] ﴿ومِنَ اللَّيْلِ فاسْجُدْ لَهُ وسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٦] ﴿إنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ العاجِلَةَ ويَذَرُونَ وراءَهم يَوْمًا ثَقِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٧] ﴿نَحْنُ خَلَقْناهم وشَدَدْنا أسْرَهم وإذا شِئْنا بَدَّلْنا أمْثالَهم تَبْدِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٨] ﴿إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ [الإنسان: ٢٩] ﴿وما تَشاءُونَ إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان: ٣٠] ﴿يُدْخِلُ مَن يَشاءُ في رَحْمَتِهِ والظّالِمِينَ أعَدَّ لَهُمْ﴾ [الإنسان: ٣١] الأمْشاجُ: الأخْلاطُ، واحِدُها مَشَجٌ بِفَتْحَتَيْنِ، أوْ مَشْجٌ كَعَدْلٍ، أوْ مَشِيجٌ كَشَرِيفٍ وأشْرافٍ، قالَهُ ابْنُ الأعْرابِيِّ، وقالَ رُؤْبَةُ:
يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعَجَّلٍ نَشّاجِ لَمْ يُكْسَ جِلْدًا مِن دَمٍ أمْشاجِ
وقالَ الهُذَلِيُّ:
كَأنَّ النَّصْلَ والفَوْقَيْنِ مِنها ∗∗∗ خِلافَ الرِّيشِ سِيطَ بِهِ مَشِيجُ
وقالَ الشَّمّاخُ:
طَوَتْ أحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لِوَقْتٍ ∗∗∗ عَلى مَشَجٍ سُلالَتُهُ مَهِينُ
ويُقالُ: مَشَجَ يَمْشُجُ مَشَجًا إذا خَلَطَ، ومَشِيجٌ: كَخَلِيطٍ، ومَمْشُوجٌ: كَمَخْ لُوطٍ. مَزَجَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ: خَلَطَهُ، وقالَ الشّاعِرُ:
كَأنَّ سَبِيئَةً مِن بَيْتِ رَأْسٍ ∗∗∗ يَكُونُ مِزاجُها عَسَلٌ وماءُ
اسْتَطارَ الشَّيْءُ: انْتَشَرَ، وتَقُولُ العَرَبُ: اسْتَطارَ الصَّدْعُ في القارُورَةِ وشِبْهِها واسْتَطالَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
فَبانَتْ وقَدْ أسْأرَتْ في الفُؤا ∗∗∗ دِ صَدْعًا عَلى نَأْيِها مُسْتَطِيرا
وقالَ الفَرّاءُ: (مُسْتَطِيرٌ) مُسْتَطِيلٌ. ويُقالُ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وقُماطِرٌ واقْمَطَرَّ، فَهو مُقَمْطِرٌّ إذا كانَ صَعْبًا شَدِيدًا، وقالَ الرّاجِزُ:
قَدْ جَعَلَتْ شَبْوَةُ تَزْبَئِرُّ ∗∗∗ تَكْسُو اسْتَها لَحْمًا وتَقْمَطِرُّ
وقالَ الشّاعِرُ:
فَفَرُّوا إذا ما الحَرْبُ ثارَ غُبارُها ∗∗∗ ولَجَّ بِها اليَوْمُ الشَّدِيدُ القُماطِرُ
وقالَ الزَّجّاجُ: (القَمْطَرِيرُ) الَّذِي يَعِيشُ حَتّى يَجْتَمِعَ ما بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ويُقالُ: اقْمَطَرَّتِ النّاقَةُ، إذا رَفَعَتْ ذَنَبَها وجَمَعَتْ قُطْرَيْها ورَمَتْ بِأنْفِها، فاشْتَقَّهُ مِنَ القَطْرِ، وجَعَلَ المِيمَ زائِدَةً، وقالَ أسَدُ بْنُ ناعِصَةَ:
واصْطَلَيْتُ الحُرُوبَ في كُلِّ يَوْمٍ ∗∗∗ بِأُسْدِ الشَّرِّ قَمْطَرِيرِ الصَّباحِ
واخْتُلِفَ في هَذا الوَزْنِ، وأكْثَرُ النُّحاةِ لا يُثْبِتُ افْمَعَلَّ في أوْزانِ الأفْعالِ. (الزَّمْهَرِيرُ) أشَدُّ البَرْدِ، وقالَ ثَعْلَبٌ: هو القَمَرُ بِلُغَةِ طَيٍّ، وأنْشَدَ قَوْلَ الرّاجِزِ:
ولَيْلَةٍ ظَلامُها قَدِ اعْتَكَرْ ∗∗∗ قَطَعْتُها والزَّمْهَرِيرُ ما زَهَرْ
القارُورَةُ: إناءٌ رَقِيقٌ صافٍ تُوضَعُ فِيهِ الأشْرِبَةُ، قِيلَ: ويَكُونُ مِنَ الزُّجاجِ. ”الزَّنْجَبِيلُ“، قالَ الدِّينَوَرِيُّ: نَبْتٌ في أرْضِ عُمانَ عُرُوقٌ تَسْرِي ولَيْسَ بِشَجَرٍ، يُؤْكَلُ رَطْبًا، وأجْوَدُهُ ما يُحْمَلُ مِن بِلادِ الصِّينِ، كانَتِ العَرَبُ تُحِبُّهُ؛ لِأنَّهُ يُوجِبُ لَذْعًا في اللِّسانِ إذا مُزِجَ بِالشَّرابِ فَيَتَلَذَّذُونَ بِهِ، قالَ الشّاعِرُ:
كَأنَّ جَنْبًا مِنَ الزَّنْجَبِيلِ باتَ ∗∗∗ بِفِيها وارِيًا مَسْتُورًا
وقالَ المُسَيِّبُ بْنُ عَلَسٍ:
وكَأنَّ طَعْمَ الزَّنْجَبِيـ ∗∗∗ لِ بِهِ إذا ذُقْتَهُ وسُلافَةَ الخَمْرِ
السَّلْسَبِيلُ والسَّلْسَلُ والسَّلْسالُ: ما كانَ مِنَ الشَّرابِ غايَةً في السَّلاسَةِ، قالَهُ الزَّجّاجُ. وقالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: لَمْ أسْمَعِ السَّلْسَبِيلَ إلّا في القُرْآنِ. ”ثَمَّ“ ظَرْفٌ مَكانٍ لِلْبُعْدِ.
﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ ﴿إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ أمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ ﴿إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا﴾ ﴿إنّا أعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وأغْلالًا وسَعِيرًا﴾ ﴿إنَّ الأبْرارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُورًا﴾ ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيرًا﴾ ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ويَخافُونَ يَوْمًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ ﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأسِيرًا﴾ ﴿إنَّما نُطْعِمُكم لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكم جَزاءً ولا شُكُورًا﴾ ﴿إنّا نَخافُ مِن رَبِّنا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ ﴿فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ ولَقّاهم نَضْرَةً وسُرُورًا﴾ ﴿وجَزاهم بِما صَبَرُوا جَنَّةً وحَرِيرًا﴾ ﴿مُتَّكِئِينَ فِيها عَلى الأرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسًا ولا زَمْهَرِيرًا﴾ ﴿ودانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا﴾ .
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الجُمْهُورِ. وقالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: مَدَنِيَّةٌ. وقالَ الحَسَنُ وعِكْرِمَةُ: مَدَنِيَّةٌ إلّا آيَةً واحِدَةً فَإنَّها مَكِّيَّةٌ، وهي:
﴿ولا تُطِعْ مِنهم آثِمًا أوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٢٤] . وقِيلَ: مَدَنِيَّةٌ إلّا مِن قَوْلِهِ:
﴿فاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ [الإنسان: ٢٤] إلَخْ، فَإنَّهُ مَكِّيٌّ، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. ومُناسَبَتُها لِما قَبْلَها ظاهِرَةٌ جِدًّا لا تَحْتاجُ إلى شَرْحٍ. (هَلْ) حَرْفُ اسْتِفْهامٍ، فَإنْ دَخَلَتْ عَلى الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لَمْ يُمْكِنْ تَأْوِيلُهُ بِقَدْ؛ لِأنَّ قَدْ مِن خَواصِّ الفِعْلِ، فَإنْ دَخَلَتْ عَلى الفِعْلِ فالأكْثَرُ أنْ تَأْتِيَ لِلِاسْتِفْهامِ المَحْضِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وقَتادَةُ: هي هُنا بِمَعْنى قَدْ. قِيلَ: لِأنَّ الأصْلَ أهَلْ، فَكَأنَّ الهَمْزَةَ حُذِفَتْ واجْتُزِئَ بِها في الِاسْتِفْهامِ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ:
سائِلْ فَوارِسَ يَرْبُوعٍ لِحِلَّتِها ∗∗∗ أهَلْ رَأوْنا بِوادِي القُّفِّ ذِي الأكَمِ
فالمَعْنى: أقَدْ أتى عَلى التَّقْدِيرِ والتَّقْرِيبِ جَمِيعًا، أيْ: أتى عَلى الإنْسانِ قَبْلَ زَمانٍ قَرِيبٍ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ كَذا، فَإنَّهُ يَكُونُ الجَوابُ: أتى عَلَيْهِ ذَلِكَ وهو بِالحالِ المَذْكُورِ. وما تُلِيَتْ عِنْدَ أبِي بَكْرٍ، وقِيلَ: عِنْدَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - قالَ: لَيْتَها تَمَّتْ، أيْ: لَيْتَ تِلْكَ الحالَةَ تَمَّتْ، وهي كَوْنُهُ شَيْئًا غَيْرَ مَذْكُورٍ ولَمْ يُخْلَقْ ولَمْ يُكَلَّفْ. والإنْسانُ هُنا جِنْسُ بَنِي آدَمَ، والحِينُ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ، إمّا حِينُ عَدَمِهِ، وإمّا حِينُ كَوْنِهِ نُطْفَةً. وانْتِقالُهُ مِن رُتْبَةٍ إلى رُتْبَةٍ حَتّى حِينِ إمْكانِ خِطابِهِ، فَإنَّهُ في تِلْكَ المُدَّةِ لا ذِكْرَ لَهُ، وسُمِّيَ إنْسانًا بِاعْتِبارِ ما صارَ إلَيْهِ. وقِيلَ: آدَمُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - والحِينُ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ هي المُدَّةُ الَّتِي بَقِيَ فِيها إلى أنْ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: بَقِيَ طِينًا أرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ صَلْصالًا أرْبَعِينَ، ثُمَّ حَمَأً مَسْنُونًا أرْبَعِينَ، فَتَمَّ خَلْقُهُ في مِائَةٍ وعِشْرِينَ سَنَةً، وسُمِّيَ إنْسانًا بِاعْتِبارِ ما آلَ إلَيْهِ. والجُمْلَةُ مِن (لَمْ يَكُنْ) في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الإنْسانِ، كَأنَّهُ قِيلَ: غَيْرُ مَذْكُورٍ، وهو الظّاهِرُ أوْ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِـ (حِينٌ) فَيَكُونُ العائِدُ عَلى المَوْصُوفِ مَحْذُوفًا، أيْ: لَمْ يَكُنْ فِيهِ.
﴿إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ﴾: هو جِنْسُ بَنِي آدَمَ؛ لِأنَّ آدَمَ لَمْ يُخْلَقْ مِن نُطْفَةٍ أمْشاجٍ: أخْلاطٍ، وهو وصْفٌ لِلنُّطْفَةِ. فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وأُسامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أبِيهِ: هي العُرُوقُ الَّتِي في النُّطْفَةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ والرَّبِيعُ: هو ماءُ الرَّجُلِ وماءُ المَرْأةِ، اخْتَلَطا في الرَّحِمِ فَخُلِقَ الإنْسانُ مِنهُما. وقالَ الحَسَنُ: اخْتِلاطُ النُّطْفَةِ بِدَمِ الحَيْضِ، فَإذا حَبِلَتِ ارْتَفَعَ الحَيْضُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا وعِكْرِمَةُ وقَتادَةُ: أمْشاجٌ مُنْتَقِلَةٌ مِن نُطْفَةٍ إلى عَلَقَةٍ إلى مُضْغَةٍ إلى غَيْرِ ذَلِكَ إلى إنْشائِهِ إنْسانًا. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا والكَلْبِيُّ: هي ألْوانُ النُّطْفَةِ. وقِيلَ: أخْلاطُ الدَّمِ والبَلْغَمِ والصَّفْراءِ والسَّوْداءِ، والنُّطْفَةُ أُرِيدَ بِها الجِنْسُ، فَلِذَلِكَ وُصِفَتْ بِالجَمْعِ، كَقَوْلِهِ:
﴿عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ﴾ [الرحمن: ٧٦] أوْ لِتَنْزِيلِ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ النُّطْفَةِ نُطْفَةً. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نُطْفَةٍ أمْشاجٍ، كَبُرْمَةٍ أعْسارٍ، وبُرْدٍ أكْياسٍ، وهي ألْفاظُ مُفْرَدٍ غَيْرُ جُمُوعٍ، ولِذَلِكَ وقَعَتْ صِفاتٍ لِلْأفْرادِ. ويُقالُ أيْضًا: نُطْفَةُ مَشَجٍ، ولا يَصِحُّ أمْشاجٌ أنْ تَكُونَ تَكْسِيرًا لَهُ، بَلْ هُما مِثْلانِ في الإفْرادِ لِوَصْفِ المُفْرِدِ بِهِما. انْتَهى. وقَوْلُهُ مُخالِفٌ لِنَصِّ سِيبَوَيْهِ والنَّحْوِيِّينَ عَلى أنَّ أفْعالًا لا يَكُونُ مُفْرَدًا. قالَ سِيبَوَيْهِ: ولَيْسَ في الكَلامِ أفْعالٌ إلّا أنْ يُكْسَرَ عَلَيْهِ اسْمًا لِلْجَمِيعِ، وما ورَدَ مِن وصْفِ المُفْرَدِ بِأفْعالٍ تَأوَّلُوهُ.
﴿نَبْتَلِيهِ﴾: نَخْتَبِرُهُ بِالتَّكْلِيفِ في الدُّنْيا. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: نُصَرِّفُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً، فَعَلى هَذا هي حالٌ مُصاحِبَةٌ، وعَلى أنَّ المَعْنى نَخْتَبِرُهُ بِالتَّكْلِيفِ، فَهي حالٌ مُقَدَّرَةٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى حِينَ خَلَقَهُ مِن نُطْفَةٍ لَمْ يَكُنْ مُبْتَلِيًا لَهُ بِالتَّكْلِيفِ في ذَلِكَ الوَقْتِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يُرادَ ناقِلِينَ لَهُ مِن حالٍ إلى حالٍ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ الِابْتِلاءُ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ. انْتَهى. وهَذا مَعْنى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقِيلَ: نَبْتَلِيهِ بِالإيحانِ والكَوْنِ في الدُّنْيا، فَهي حالٌ مُقارِنَةٌ. وقِيلَ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، الأصْلُ
﴿فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ نَبْتَلِيهِ، أيْ: جَعْلُهُ سَمِيعًا بَصِيرًا هو الِابْتِلاءُ، ولا حاجَةَ إلى ادِّعاءِ التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ، والمَعْنى يَصِحُّ بِخِلافِهِ، وامْتَنَّ تَعالى عَلَيْهِ بِجَعْلِهِ بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، وهُما كِنايَةٌ عَنِ التَّمْيِيزِ والفَهْمِ، إذْ آلَتُهُما سَبَبٌ لِذَلِكَ، وهُما أشْرَفُ الحَواسِّ، تُدْرَكُ بِهِما أعْظَمُ المُدْرِكاتِ.
ولَمّا جَعَلَهُ بِهَذِهِ المَثابَةِ، أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ هَداهُ إلى السَّبِيلِ، أيْ: أرْشَدَهُ إلى الطَّرِيقِ، وعَرَّفْنا مَآلَ طَرِيقِ النَّجاةِ ومَآلَ طَرِيقِ الهَلاكِ، إذْ أرْشَدْناهُ طَرِيقَ الهُدى. وقالَ مُجاهِدٌ: سَبِيلُ السَّعادَةِ والشَّقاوَةِ. وقالَ السُّدِّيُّ: سَبِيلُ الخُرُوجِ مِنَ الرَّحِمِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أيْ: مَكَّناهُ وأقْدَرْناهُ في حالَتَيْهِ جَمِيعًا، وإذْ دَعَوْناهُ إلى الإسْلامِ بِأدِلَّةِ العَقْلِ والسَّمْعِ كانَ مَعْلُومًا مِنهُ أنَّهُ يُؤْمِنُ أوْ يَكْفُرُ لِإلْزامِ الحُجَّةِ. انْتَهى، وهو عَلى طَرِيقَةِ الِالتِزامِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: (إمّا) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ فِيهِما. وأبُو السَّمّالِ وأبُو العاجِ، وهو كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السُّلَمِيُّ شامِيٌّ ولِيَ البَصْرَةَ لِهِشامِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ: بِفَتْحِها فِيهِما، وهي لُغَةٌ حَكاها أبُو زَيْدٍ عَنِ العَرَبِ، وهي الَّتِي عَدَّها بَعْضُ النّاسِ في حُرُوفِ العَطْفِ، وأنْشَدُوا:
يَلْحَقُها إمّا شَمالٌ عَرِيَّةٌ ∗∗∗ وإمّا صَبا جُنْحِ العَشِيِّ هُبُوبُ
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وهي قِراءَةٌ حَسَنَةٌ، والمَعْنى: إمّا شاكِرًا بِتَوْفِيقِنا، وإمّا كَفُورًا فَبِسُوءِ اخْتِيارِهِ. انْتَهى. فَجَعَلَها إمّا التَّفْصِيلِيَّةِ المُتَضَمِّنَةِ مَعْنى الشَّرْطِ، ولِذَلِكَ تَلَقّاها بِفاءِ الجَوابِ، فَصارَ كَقَوْلِ العَرَبِ: إمّا صَدِيقًا فَصَدِيقٌ. وانْتَصَبَ شاكِرًا وكَفُورًا عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ النَّصْبِ في
﴿هَدَيْناهُ﴾ . وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونا حالَيْنِ مِنَ السَّبِيلِ، أيْ: عَرَّفْناهُ السَّبِيلَ، إمّا سَبِيلًا شاكِرًا، وإمّا سَبِيلًا كَفُورًا، كَقَوْلِهِ:
﴿وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: ١٠] فَوَصَفَ السَّبِيلَ بِالشُّكْرِ والكُفْرِ مَجازًا. انْتَهى. ولَمّا كانَ الشُّكْرُ قَلَّ مَن يَتَّصِفُ بِهِ، قالَ (شاكِرًا) ولَمّا كانَ الكُفْرُ كَثُرَ مَن يَتَّصِفُ بِهِ ويَكْثُرُ وُقُوعُهُ مِنَ الإنْسانِ بِخِلافِ الشُّكْرِ جاءَ (كَفُورًا) بِصِيغَةِ المُبالَغَةِ. ولَمّا ذَكَرَ الفَرِيقَيْنِ أتْبَعَهُما الوَعِيدَ والوَعْدَ. وقَرَأ طَلْحَةُ وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ:
﴿سَلاسِلَ﴾ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ وقْفًا ووَصْلًا. وقِيلَ عَنْ حَمْزَةَ وأبِي عُمَرَ: الوَقْفُ بِالألِفِ. وقَرَأ حَفْصٌ وابْنُ ذَكْوانَ بِمَنعِ الصَّرْفِ، واخْتُلِفَ عَنْهم في الوَقْفِ، وكَذا عَنِ البَزِّيِّ. وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِالتَّنْوِينِ وصْلًا، وبِالألِفِ المُبْدَلَةِ مِنهُ وقْفًا، وهي قِراءَةُ الأعْمَشِ، قِيلَ: وهَذا عَلى ما حَكاهُ الأخْفَشُ مِن لُغَةِ مَن يَصْرِفُ كُلَّ ما لا يَنْصَرِفُ إلّا أفْعَلَ مِن، وهي لُغَةُ الشُّعَراءِ، ثُمَّ كَثُرَ حَتّى جَرى في كَلامِهِمْ، وعَلَّلَ ذَلِكَ بِأنَّ هَذا الجَمْعَ لَمّا كانَ يُجْمَعُ، فَقالُوا: صَواحِباتُ يُوسُفَ ونَواكِسِي الأبْصارِ، أشْبَهَ المُفْرَدَ فَجَرى فِيهِ الصَّرْفُ، وقالَ بَعْضُ الرُّجّازِ:
والصَّرْفُ في الجَمْعِ أتى كَثِيرًا ∗∗∗ حَتّى ادَّعى قَوْمٌ بِهِ التَّخْيِيرا
والصَّرْفُ ثابِتٌ في مَصاحِفِ المَدِينَةِ ومَكَّةَ والكُوفَةِ والبَصْرَةِ، وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ وعَبْدِ اللَّهِ، وكَذا ”قَوارِيرَ“ . ورَوى هِشامٌ عَنِ ابْنِ عامِرٍ: سَلاسِلَ في الوَصْلِ، وسَلاسِلا بِألِفٍ دُونَ تَنْوِينٍ في الوَقْفِ. ورُوِيَ أنَّ مِنَ العَرَبِ مَن يَقُولُ: رَأيْتُ عَمْرا بِالألِفِ في الوَقْفِ.
﴿مِن كَأْسٍ﴾: ”مِن“ لِابْتِداءِ الغايَةِ
﴿كانَ مِزاجُها كافُورًا﴾ قالَ قَتادَةُ: يُمْزَجُ لَهم بِالكافُورِ، ويُخْتَمُ لَهم بِالمِسْكِ. وقِيلَ: هو عَلى التَّشْبِيهِ، أيْ: طِيبُ رائِحَةٍ وبَرْدٍ كالكافُورِ. وقالَ الكَلْبِيُّ:
﴿كافُورًا﴾ اسْمُ عَيْنٍ في الجَنَّةِ، وصُرِفَتْ لِتُوافِقَ الآيَ. وقَرَأ عَبْدُ اللَّهِ: (قافُورًا) بِالقافِ بَدَلَ الكافِ، وهُما كَثِيرًا ما يَتَعاقَبانِ في الكَلِمَةِ، كَقَوْلِهِمْ: عَرَبِيٌّ قُحٌّ وكُحٌّ، و(عَيْنًا) بَدَلٌ مِن
﴿كافُورًا﴾ ومَفْعُولًا بِـ
﴿يَشْرَبُونَ﴾ أيْ: ماءَ عَيْنٍ، أوْ بَدَلٌ مِن مَحَلٍّ مِن كَأْسٍ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: يَشْرَبُونَ خَمْرًا خَمْرَ عَيْنٍ، أوْ نُصِبَ عَلى الِاخْتِصاصِ. ولَمّا كانَتِ الكَأْسُ مَبْدَأ شُرْبِهِمْ أتى بِـ (مِن وفي) .
﴿يَشْرَبُ بِها﴾ أيْ: يُمْزَجُ شَرابُهم بِها، أتى بِالباءِ الدّالَّةِ عَلى الإلْصاقِ، والمَعْنى: يَشْرَبُ عِبادُ اللَّهِ بِها الخَمْرَ، كَما تَقُولُ: شَرِبْتُ الماءَ بِالعَسَلِ، أوْ ضُمِّنَ
﴿يَشْرَبُ﴾ مَعْنى يَرْوى فَعُدِّيَ بِالباءِ. وقِيلَ: الباءُ زائِدَةٌ والمَعْنى يَشْرَبُ بِها، وقالَ الهُذَلِيُّ:
شَرِبْنَ بِماءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ∗∗∗ مَتّى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ
قِيلَ أيْ: شَرِبْنَ ماءَ البَحْرِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: (يَشَرَبُها) .
و
﴿عِبادُ اللَّهِ﴾ هُنا هُمُ المُؤْمِنُونَ
﴿يُفَجِّرُونَها﴾: يَثْقُبُونَها بِعُودِ قَصَبٍ ونَحْوِهِ حَيْثُ شاءُوا، فَهي تَجْرِي عِنْدَ كُلِّ واحِدٍ مِنهم، هَكَذا ورَدَ في الأثَرِ. وقِيلَ: هي عَيْنٌ في دارِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَنْفَجِرُ إلى دُورِ الأنْبِياءِ والمُؤْمِنِينَ.
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ في الدُّنْيا، وكانُوا يَخافُونَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
﴿يُوفُونَ﴾ جَوابُ مَن عَسى يَقُولُ: ما لَهم يُرْزَقُونَ ذَلِكَ ؟ . انْتَهى. فاسْتَعْمَلَ (عَسى) صِلَةً لِمَن وهو لا يَجُوزُ، وأتى بَعْدَ (عَسى) بِالمُضارِعِ غَيْرَ مَقْرُونٍ بِأنْ، وهو قَلِيلٌ أوْ في شِعْرٍ. والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ بِالنَّذْرِ ما هو المَعْهُودُ في الشَّرِيعَةِ أنَّهُ نَذْرٌ. قالَ الأصَمُّ وتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذا مُبالَغَةٌ في وصْفِهِمْ بِالتَّوَفُّرِ عَلى أداءِ الواجِباتِ؛ لِأنَّ مَن وفّى بِما أوْجَبَهُ هو عَلى نَفْسِهِ كانَ لِما أوْجَبَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ أوْفى. وقِيلَ: النَّذْرُ هُنا عامٌّ لِما أوْجَبَهُ اللَّهُ تَعالى، وما أوْجَبَهُ العَبْدُ فَيَدْخُلُ فِيهِ الإيمانُ وجَمِيعُ الطّاعاتِ.
﴿عَلى حُبِّهِ﴾ أيْ: عَلى حُبِّ الطَّعامِ، إذْ هو مَحْبُوبٌ لِلْفاقَةِ والحاجَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ. أوْ عَلى حُبِّ اللَّهِ أيْ: لِوَجْهِهِ وابْتِغاءِ مَرْضاتِهِ، قالَهُ الفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ وأبُو سُلَيْمانَ الدّارانِيُّ. والأوَّلُ أمْدَحُ؛ لِأنَّ فِيهِ الإيثارَ عَلى النَّفْسِ. وأمّا الثّانِي فَقَدْ يَفْعَلُهُ الأغْنِياءُ أكْثَرَ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ الفَضْلِ: عَلى حُبِّ الطَّعامِ، أيْ: مُحِبِّينَ في فِعْلِهِمْ ذَلِكَ، لا رِياءَ فِيهِ ولا تَكَلُّفَ
﴿مِسْكِينًا﴾: وهو الطَّوّافُ المُنْكَسِرُ في السُّؤالِ
﴿ويَتِيمًا﴾: هو الصَّبِيُّ الَّذِي لا أبَ لَهُ
﴿وأسِيرًا﴾ والأسِيرُ مَعْرُوفٌ، وهو مِنَ الكُفّارِ، قالَهُ قَتادَةُ. وقِيلَ: مِنَ المُسْلِمِينَ تُرِكُوا في بِلادِ الكُفّارِ رَهائِنَ وخَرَجُوا لِطَلَبِ الفِداءِ. وقالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وعَطاءٌ: هو الأسِيرُ مِن أهْلِ القِبْلَةِ. وقِيلَ:
﴿وأسِيرًا﴾ اسْتِعارَةٌ وتَشْبِيهٌ. وقالَ مُجاهِدٌ وابْنُ جُبَيْرٍ وعَطاءٌ: هو المَسْجُونُ. وقالَ أبُو حَمْزَةَ اليَمانِيُّ: هي الزَّوْجَةُ. وعَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: هو المَمْلُوكُ والمَسْجُونُ. وفي الحَدِيثِ:
«غَرِيمُكَ أسِيرُكَ فَأحْسِنْ إلى أسِيرِكَ» .
﴿إنَّما نُطْعِمُكم لِوَجْهِ اللَّهِ﴾: هو عَلى إضْمارِ القَوْلِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونُوا صَرَّحُوا بِهِ خِطابًا لِلْمَذْكُورِينَ، مَنعًا مِنهم وعَنِ المُجازاةِ بِمِثْلِهِ أوِ الشُّكْرِ؛ لِأنَّ إحْسانَهم مَفْعُولٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعالى، فَلا مَعْنى لِمُكافَأةِ الخَلْقِ، وهَذا هو الظّاهِرُ. وقالَ مُجاهِدٌ: أما أنَّهم ما تَكَلَّمُوا بِهِ، ولَكِنَّ اللَّهَ تَعالى عَلِمَهُ مِنهم فَأثْنى عَلَيْهِمْ بِهِ.
﴿لا نُرِيدُ مِنكم جَزاءً﴾ أيْ: بِالأفْعالِ
﴿ولا شُكُورًا﴾ أيْ: ثَناءً بِالأقْوالِ. وهَذِهِ الآيَةُ قِيلَ نَزَلَتْ في عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ - وذَكَرَ النَّقّاشُ في ذَلِكَ حِكايَةً طَوِيلَةً جِدًّا ظاهِرَةَ الِاخْتِلافِ، وفِيها إشْعارٌ لِلْمِسْكِينِ واليَتِيمِ والأسِيرِ، يُخاطَبُونَ بِها بِبَيْتِ النُّبُوَّةِ، وإشْعارٌ لِفاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - تُخاطِبُ كُلَّ واحِدٍ مِنهم، ظاهِرُها الِاخْتِلافُ لِسَفْسافِ ألْفاظِها وكَسْرِ أبْياتِها وسَفاطَةِ مَعانِيها.
﴿يَوْمًا عَبُوسًا﴾: نِسْبَةُ العَبُوسِ إلى اليَوْمِ مَجازٌ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يَعْبِسُ الكافِرُ يَوْمئِذٍ حَتّى يَسِيلَ مِن عَيْنَيْهِ عَرَقٌ كالقَطْرانِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ:
﴿فَوَقاهُمُ﴾ بِخِفَّةِ القافِ. وأبُو جَعْفَرٍ: بِشَدِّها.
﴿ولَقّاهم نَضْرَةً﴾: بَدَلَ عَبُوسِ الكافِرِ
﴿وسُرُورًا﴾: فَرَحًا بَدَلَ حُزْنِهِ، لا تَكادُ تَكُونُ النَّظْرَةُ إلّا مَعَ فَرَحِ النَّفْسِ وقُرَّةِ العَيْنِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ:
﴿وجَزاهُمْ﴾ . وعَلِيٌّ: وجازاهم عَلى وزْنِ فاعَلَ
﴿جَنَّةً وحَرِيرًا﴾: بُسْتانًا فِيهِ كُلُّ مَأْكَلٍ هَنِيءٍ
﴿وحَرِيرًا﴾ فِيهِ مَلْبَسٌ بَهِيٌّ، وناسَبَ ذِكْرَ الحَرِيرِ مَعَ الجَنَّةِ؛ لِأنَّهم أُوثِرُوا عَلى الجُوعِ والغِذاءِ.
﴿لا يَرَوْنَ فِيها﴾ أيْ: في الجَنَّةِ
﴿شَمْسًا﴾ أيْ: حَرَّ شَمْسٍ ولا شِدَّةَ بَرْدٍ، أيْ: لا شَمْسَ فِيها فَتُرى فَيُؤْذِي حَرُّها، ولا زَمْهَرِيرَ يُرى فَيُؤْذِي بِشِدَّتِهِ، أيْ: هي مُعْتَدِلَةُ الهَواءِ. وفي الحَدِيثِ:
«هَواءُ الجَنَّةِ سَجْسَجٌ لا حَرٌّ ولا قُرٌّ» . وقِيلَ: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسًا ولا قَمَرًا، والزَّمْهَرِيرُ في لُغَةِ طَيِّئٍ القَمَرُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ:
﴿ودانِيَةً﴾ قالَ الزَّجّاجُ: هو حالٌ عَطْفًا عَلى
﴿مُتَّكِئِينَ﴾ . وقالَ أيْضًا: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْجَنَّةِ، فالمَعْنى: وجَزاهم جَنَّةً دانِيَةً. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ما مَعْناهُ أنَّها حالٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى حالٍ وهي لا يَرَوْنَ، أيْ: غَيْرَ رائِينَ، ودَخَلَتِ الواوُ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ الأمْرَيْنِ مُجْتَمِعانِ لَهم، كَأنَّهُ قِيلَ: وجَزاهم جَنَّةً جامِعِينَ فِيها بَيْنَ البُعْدِ عَنِ الحَرِّ والقُرِّ ودُنُوِّ الظِّلالِ عَلَيْهِمْ. وقَرَأأبُو حَيْوَةَ: ودانِيَةٌ بِالرَّفْعِ، واسْتَدَلَّ بِهِ الأخْفَشُ عَلى جَوازِ رَفْعِ اسْمِ الفاعِلِ مِن غَيْرِ أنْ يَعْتَمِدَ نَحْوُ قَوْلِكَ: قائِمٌ الزَّيْدُونَ، ولا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأنَّ الأظْهَرَ أنْ يَكُونَ
﴿ظِلالُها﴾ مُبْتَدَأً
﴿ودانِيَةً﴾ خَبَرٌ لَهُ. وقَرَأ الأعْمَشُ: ودانِيًا عَلَيْهِمْ، وهو كَقَوْلِهِ:
﴿خاشِعَةً أبْصارُهُمْ﴾ [المعارج: ٤٤] . وقَرَأ أُبَيٌّ: ودانٍ مَرْفُوعٌ، فَهَذا يُمْكِنُ أنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ الأخْفَشُ.
﴿وذُلِّلَتْ قُطُوفُها﴾ قالَ قَتادَةُ ومُجاهِدٌ وسُفْيانُ: إنْ كانَ الإنْسانُ قائِمًا تَناوَلَ الثَّمَرَ دُونَ كُلْفَةٍ، وإنْ قاعِدًا أوْ مُضْطَجِعًا فَكَذَلِكَ، فَهَذا تَذْلِيلُها، لا يَرُدُّ اليَدَ عَنْها بُعْدٌ ولا شَوْكٌ. فَأمّا عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ:
﴿ودانِيَةً﴾ بِالنَّصْبِ، كانَ
﴿وذُلِّلَتْ﴾ مَعْطُوفًا عَلى (دانِيَةٌ) لِأنَّها في تَقْدِيرِ المُفْرَدِ، أيْ: ومُذَلَّلَةً، وعَلى قِراءَةِ الرَّفْعِ كانَ مِن عَطْفِ جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ عَلى جُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: وقَدْ ذُلِّلَتْ رُفِعَتْ (دانِيَةً) أوْ نُصِبَتْ.