قالَ الجُمْهُورُ: هي مَدَنِيَّةٌ.
وقالَ مُقاتِلٌ، والكَلْبِيُّ: هي مَكِّيَّةٌ.
وأخْرَجَ النَّحّاسُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ بِمَكَّةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ، وقِيلَ فِيها مَكِّيٌّ مِن قَوْلِهِ:
﴿إنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ إلى آخِرِ السُّورَةِ، وما قَبْلَهُ مَدَنِيٌّ.
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ:
«جاءَ رَجُلٌ مِنَ الحَبَشَةِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: سَلْ واسْتَفْهِمْ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلْتُمْ عَلَيْنا بِالألْوانِ والصُّوَرِ والنُّبُوَّةِ أفَرَأيْتَ إنْ آمَنتُ بِما آمَنتَ بِهِ وعَمِلْتُ بِما عَمِلْتَ بِهِ، أنِّي كائِنٌ مَعَكَ في الجَنَّةِ، قالَ: نَعَمْ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ لِيُرى بَياضُ الأسْوَدِ في الجَنَّةِ مِن مَسِيرَةِ ألْفِ عامٍ، ثُمَّ قالَ: مَن قالَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ كانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ، ومَن قالَ: سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ كُتِبَ لَهُ مِائَةُ ألْفِ حَسَنَةٍ وأرْبَعَةٌ وعِشْرُونَ ألْفَ حَسَنَةً، ونَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ ﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ إلى قَوْلِهِ:
﴿ومُلْكًا كَبِيرًا﴾ فَقالَ الحَبَشِيُّ: وإنَّ عَيْنِي لِتَرى ما تَرى عَيْناكَ في الجَنَّةِ، قالَ: نَعَمْ، فاشْتَكى حَتّى فاضَتْ نَفْسُهُ. قالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُدْلِيهِ في حُفْرَتِهِ بِيَدِهِ» .
وأخْرَجَ أحْمَدُ في الزُّهْدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُطَرِّفٍ قالَ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ
«أنَّ رَجُلًا أسْوَدَ كانَ يَسْألُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ التَّسْبِيحِ والتَّهْلِيلِ، فَقالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: أكْثَرْتَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ، فَقالَ: مَهْ يا عُمَرُ. وأُنْزِلَتْ عَلى النَّبِيِّ ﷺ ﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ حَتّى إذا أتى عَلى ذِكْرِ الجَنَّةِ زَفَرَ الأسْوَدُ زَفْرَةً خَرَجَتْ نَفْسُهُ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ماتَ شَوْقًا إلى الجَنَّةِ» .
وأخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ وهْبٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا.
وأخْرَجَ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ مُنَيْعٍ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظْمَةِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والضِّياءُ عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ:
«قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ﴾ حَتّى خَتَمَها، ثُمَّ قالَ: إنِّي أرى ما لا تَرَوْنَ وأسْمَعُ ما لا تَسْمَعُونَ، أطَّتِ السَّماءُ وحَقَّ لَها أنْ تَئِطَّ ما فِيها مَوْضِعُ أرْبَعِ أصابِعَ إلّا ومَلَكٌ واضِعٌ جَبْهَتَهُ ساجِدًا لِلَّهِ، واللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وما تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّساءِ عَلى الفُرُشِ، ولَخَرَجْتُمْ إلى الصَّعِداتِ تَجْأرُونَ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حَكى الواحِدِيُّ عَنِ المُفَسِّرِينَ وأهْلِ المَعانِي أنَّ هَلْ هُنا بِمَعْنى قَدْ، ولَيْسَ بِاسْتِفْهامٍ، وقَدْ قالَ بِهَذا سِيبَوَيْهِ، والكِسائِيُّ، والفَرّاءُ، وأبُو عُبَيْدَةَ.
قالَ الفَرّاءُ: " هَلْ " تَكُونُ جَحْدًا وتَكُونُ خَبَرًا فَهَذا مِنَ الخَبَرِ لِأنَّكَ تَقُولُ: هَلْ أعْطَيْتُكَ، تُقَرِّرُهُ بِأنَّكَ أعْطَيْتَهُ، والجَحْدُ أنْ تَقُولَ: هَلْ يَقْدِرُ أحَدٌ عَلى مِثْلِ هَذا، وقِيلَ هي وإنْ كانَتْ بِمَعْنى " قَدْ " فَفِيها مَعْنى الِاسْتِفْهامِ. والأصْلُ أهَلْ أتى، فالمَعْنى: أقَدْ أتى، والِاسْتِفْهامُ لِلتَّقْرِيرِ والتَّقْرِيبِ، والمُرادُ بِالإنْسانِ هُنا آدَمُ، قالَ قَتادَةُ، والثَّوْرِيُّ، وعِكْرِمَةُ، والسُّدِّيُّ وغَيْرُهم
﴿حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ قِيلَ أرْبَعُونَ سَنَةً قَبْلَ أنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، وقِيلَ إنَّهُ خُلِقَ مِن طِينِ أرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِن حَمَأٍ مَسْنُونٍ أرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِن صَلْصالٍ أرْبَعِينَ سَنَةً فَتَمَّ خَلْقُهُ بَعْدَ مِائَةٍ وعِشْرِينَ سَنَةً.
وقِيلَ الحِينُ المَذْكُورُ هُنا لا يُعْرَفُ مِقْدارُهُ وقِيلَ المُرادُ بِالإنْسانِ بَنُو آدَمَ، والحِينُ مُدَّةُ الحَمْلِ، وجُمْلَةُ
﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ الإنْسانِ، أوْ في مَحَلِّ رَفْعِ صِفَةٍ لِحِينٍ.
قالَ الفَرّاءُ، وقُطْرُبٌ، وثَعْلَبٌ: المَعْنى أنَّهُ كانَ جَسَدًا مُصَوَّرًا تُرابًا وطِينًا لا يُذْكَرُ ولا يُعْرَفُ ولا يُدْرى ما اسْمُهُ ولا ما يُرادُ بِهِ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ الرُّوحُ فَصارَ مَذْكُورًا.
وقالَ يَحْيى بْنُ سَلامٍ:
﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ في الخَلْقِ وإنْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ شَيْئًا مَذْكُورًا، وقِيلَ لَيْسَ المُرادُ بِالذِّكْرِ هُنا الإخْبارُ، فَإنَّ إخْبارَ الرَّبِّ عَنِ الكائِناتِ قَدِيمٌ، بَلْ هو الذِّكْرُ بِمَعْنى الخَطَرِ والشَّرَفِ، كَما في قَوْلِهِ:
﴿وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ﴾ .
قالَ القُشَيْرِيُّ: ما كانَ مَذْكُورًا لِلْخَلْقِ وإنْ كانَ مَذْكُورًا لِلَّهِ سُبْحانَهُ.
قالَ الفَرّاءُ: كانَ شَيْئًا ولَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا.
فَجُعِلَ النَّفْيُ مُتَوَجِّهًا إلى القَيْدِ.
وقِيلَ المَعْنى: قَدْ مَضَتْ أزْمِنَةٌ وما كانَ آدَمُ شَيْئًا ولا مَخْلُوقًا ولا مَذْكُورًا لِأحَدٍ مِنَ الخَلِيقَةِ.
وقالَ مُقاتِلٌ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ وتَقْدِيرُهُ: هَلْ أتى حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا؛ لِأنَّهُ خَلَقَهُ بَعْدَ خَلْقِ الحَيَوانِ كُلِّهِ ولَمْ يَخْلُقْ بَعْدَهُ حَيَوانًا.
﴿إنّا خَلَقْنا الإنْسانَ مِن نُطْفَةٍ﴾ المُرادُ بِالإنْسانِ هُنا ابْنُ آدَمَ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: مِن غَيْرِ خِلافٍ، والنُّطْفَةُ: الماءُ الَّذِي يُقَطَّرُ، وهو المَنِيُّ وكُلُّ ماءٍ قَلِيلٌ في وِعاءٍ فَهو نُطْفَةٌ، وجَمْعُها نُطَفٌ، وأمْشاجٍ صِفَةٌ لِنُطْفَةٍ، وهي جَمْعُ مُشُجٍ، أوْ مَشِيجٍ، وهي الأخْلاطُ، والمُرادُ نُطْفَةُ الرَّجُلِ ونُطْفَةُ المَرْأةِ واخْتِلاطُهُما.
يُقالُ مَشَجَ هَذا بِهَذا فَهو مَمْشُوجٌ: أيْ خَلَطَ هَذا بِهَذا فَهو مَخْلُوطٌ.
قالَ المُبَرِّدُ: مَشَجَ يَمْشُجُ: إذا اخْتَلَطَ، وهو هُنا اخْتِلاطُ النُّطْفَةِ بِالدَّمِ.
قالَ رُؤْبَةُ بْنُ العَجّاجِ:
يَطْرَحْنَ كُلَّ مُعَجَّلٍ مَشّاجٍ لَمْ يُكْسَ جِلْدًا مِن دَمٍ أمْشاجِ
قالَ الفَرّاءُ: أمْشاجٌ: اخْتِلاطُ ماءِ الرَّجُلِ وماءِ المَرْأةِ والدَّمِ والعَلَقَةِ، ويُقالُ مَشَجَ هَذا: إذا خَلَطَ، وقِيلَ الأمْشاجُ: الحُمْرَةُ في البَياضِ والبَياضُ في الحُمْرَةِ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: وهَذا قَوْلٌ يَخْتارُهُ كَثِيرٌ مِن أهْلِ اللُّغَةِ.
قالَ الهُذَلِيُّ:
كَأنَّ الرِّيشَ والوَقَّيْنَ مِنهُ ∗∗∗ حِلافُ النَّصْلِ نِيطَ بِهِ مَشِيجُ
وذَلِكَ لِأنَّ ماءَ الرَّجُلِ أبْيَضُ غَلِيظٌ وماءُ المَرْأةِ أصْفَرُ رَقِيقٌ فَيُخْلَقُ مِنهُما الوَلَدُ.
قالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: الأمْشاجُ: الأخْلاطُ لِأنَّها مُمْتَزِجَةٌ مِن أنْواعٍ يُخْلَقُ الإنْسانُ مِنها وطِباعٌ مُخْتَلِفَةٌ.
وقِيلَ الأمْشاجُ لَفْظٌ مُفْرَدٌ كَبِرْمَةِ أعْشارٍ، ويُؤَيِّدُ هَذا وُقُوعُهُ نَعْتًا لِنُطْفَةٍ، وجُمْلَةُ نَبْتَلِيهِ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن فاعِلِ خَلَقْنا: أيْ مُرِيدِينَ ابْتِلاءَهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الإنْسانِ، والمَعْنى: نَبْتَلِيهِ بِالخَيْرِ والشَّرِّ وبِالتَّكالِيفِ.
قالَ الفَرّاءُ: مَعْناهُ واللَّهُ أعْلَمُ
﴿فَجَعَلْناهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ نَبْتَلِيهِ وهي مُقَدِّمَةٌ مَعْناها التَّأْخِيرُ؛ لِأنَّ الِابْتِلاءَ لا يَقَعُ إلّا بَعْدَ تَمامِ الخِلْقَةِ، وعَلى هَذا تَكُونُ هَذِهِ الحالُ مُقَدَّرَةً، وقِيلَ مُقارَنَةً.
وقِيلَ مَعْنى الِابْتِلاءِ: نَقْلُهُ مِن حالٍ إلى حالٍ عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ، والأوَّلُ أوْلى.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ أعْطاهُ ما يَصِحُّ مَعَهُ الِابْتِلاءُ فَقالَ:
﴿إنّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا﴾ أيْ بَيَّنّا لَهُ وعَرَّفْناهُ طَرِيقَ الهُدى والضَّلالِ والخَيْرِ والشَّرِّ كَما في قَوْلِهِ:
﴿وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: ١٠] قالَ مُجاهِدٌ: أيْ بَيَّنّا السَّبِيلَ إلى الشَّقاءِ والسَّعادَةِ.
وقالَ الضَّحّاكُ، والسُّدِّيُّ، وأبُو صالِحٍ: السَّبِيلُ هُنا خُرُوجُهُ مِنَ الرَّحِمِ، وقِيلَ مَنافِعُهُ ومَضارُّهُ الَّتِي يَهْتَدِي إلَيْها بِطَبْعِهِ وكَمالِ عَقْلِهِ. وانْتِصابُ شاكِرًا وكَفُورًا عَلى الحالِ مِن مَفْعُولِ هَدَيْناهُ: أيْ مَكَّنّاهُ مِن سُلُوكِ الطَّرِيقِ في حالَتَيْهِ جَمِيعًا، وقِيلَ عَلى الحالِ مِن ( سَبِيلٍ ) عَلى المَجازِ: أيْ عَرَّفْناهُ السَّبِيلَ إمّا سَبِيلًا شاكِرًا وإمّا سَبِيلًا كَفُورًا.
وحَكى مَكِّيٌّ عَنِ الكُوفِيِّينَ أنَّ قَوْلَهُ إمّا هي ( إنْ ) شُرْطِيَّةٌ زِيدَتْ بَعْدَها ما: أيْ بَيَّنّا لَهُ الطَّرِيقَ إنْ شَكَرَ وإنْ كَفَرَ.
واخْتارَ هَذا الفَرّاءُ، ولا يُجِيزُهُ البَصْرِيُّونَ لِأنَّ إنِ الشَّرْطِيَّةَ لا تَدْخُلُ عَلى الأسْماءِ إلّا أنْ يُضْمَرَ بَعْدَها فِعْلٌ، ولا يَصِحُّ هُنا إضْمارُ الفِعْلِ لِأنَّهُ كانَ يَلْزَمُ رَفْعُ شاكِرًا وكَفُورًا.
ويُمْكِنُ أنْ يُضْمَرَ فِعْلٌ يَنْصِبُ ( شاكِرًا ) و( كَفُورًا )، وتَقْدِيرُهُ: إنْ خَلَقْناهُ شاكِرًا فَشَكُورٌ وإنْ خَلَقْناهُ كافِرًا فَكَفُورٌ، وهَذا عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ
﴿إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا﴾ بِكَسْرِ هَمْزَةِ إمّا.
وقَرَأ أبُو السِّماكِ، وأبُو العَجّاجِ بِفَتْحِها، وهي عَلى الفَتْحِ إمّا العاطِفَةُ في لُغَةِ بَعْضِ العَرَبِ، أوْ هي التَّفْصِيلِيَّةُ وجَوابُها مُقَدَّرٌ، وقِيلَ انْتَصَبَ ( شاكِرًا ) و( كَفُورًا ) بِإضْمارِ كانَ، والتَّقْدِيرُ: سَواءٌ كانَ شاكِرًا أوْ كانَ كَفُورًا.
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ ما أعَدَّ لِلْكافِرِينَ فَقالَ:
﴿إنّا أعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وأغْلالًا وسَعِيرًا﴾ قَرَأ نافِعٌ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، وهُشامٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ " سَلاسِلًا " بِالتَّنْوِينِ، ووَقَفَ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وحَمْزَةُ بِغَيْرِ ألِفٍ، والباقُونَ وقَفُوا بِالألِفِ.
ووَجْهُ مَن قَرَأ بِالتَّنْوِينِ في " سَلاسِلَ " مَعَ كَوْنِ فِيهِ صِيغَةُ مُنْتَهى الجُمُوعِ أنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ التَّناسُبَ لِأنَّ ما قَبْلَهُ وهو
﴿إمّا شاكِرًا وإمّا كَفُورًا﴾، وما بَعْدَهُ وهو أغْلالًا وسَعِيرًا مُنَوَّنٌ، أوْ عَلى لُغَةِ مَن يَصْرِفُ جَمِيعَ ما لا يَنْصَرِفُ كَما حَكاهُ الكِسائِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ الكُوفِيِّينَ عَنْ بَعْضِ العَرَبِ.
قالَ الأخْفَشُ: سَمِعْنا مِنَ العَرَبِ مَن يَصْرِفُ كُلَّ ما لا يَنْصَرِفُ؛ لِأنَّ الأصْلَ في الأسْماءِ الصَّرْفُ وتَرَكَ الصَّرْفَ لِعارِضٍ فِيها.
قالَ الفَرّاءُ: هو عَلى لُغَةِ مَن يَجُرُّ الأسْماءَ كُلَّها إلّا قَوْلُهم: هو أظْرَفُ مِنكَ فَإنَّهم لا يَجُرُّونَهُ، وأنْشَدَ ابْنُ الأنْبارِيِّ في ذَلِكَ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
كَأنَّ سُيُوفَنا فِينا وفِيهِمْ ∗∗∗ مَخارِيقٌ بِأيْدِي لاعِبِينا
ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ:
وإذا الرِّجالُ رَأوْا يَزِيدَ رَأيْتَهم ∗∗∗ خُضُعَ الرِّقابِ نَواكِسِ الأبْصارِ
بِكَسْرِ السِّينِ مِن " نَواكِسِ " . وقَوْلُ لَبِيَدٍ:
وحَسُورِ أسْتارٍ دَعُونِي لِحَتْفِها ∗∗∗ بِمَعالِقٍ مُتَشابِهٌ أعْلاقُها
. وقَوْلُهُ أيْضًا:
فَضْلًا وذُو كَرَمٍ يُعِينُ عَلى النَّدى ∗∗∗ سَمْحٌ لِشَوْبِ رَغائِبٍ غَنّامُها
وقِيلَ إنَّ التَّنْوِينَ لِمُوافَقَةِ رَسْمِ المَصاحِفِ المَكِّيَّةِ والمَدَنِيَّةِ والكُوفِيَّةِ فَإنَّها فِيها بِالألِفِ، وقِيلَ إنَّ هَذا التَّنْوِينَ بَدَلٌ مِن حَرْفِ الإطْلاقِ، ويَجْرِي الوَصْلُ مَجْرى الوَقْفِ، والسَّلاسِلُ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُها، والخِلافُ فِيها هَلْ هي القُيُودُ، أوْ ما يُجْعَلُ في الأعْناقِ كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولَكِنْ ∗∗∗ أحاطَتْ بِالرِّقابِ السَّلاسِلُ والأغْلالُ
جَمْعُ غُلٍّ تُغَلُّ بِهِ الأيْدِي إلى الأعْناقِ، والسَّعِيرُ: الوَقُودُ الشَّدِيدُ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ السَّعِيرِ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ ما أعَدَّهُ لِلشّاكِرِينَ فَقالَ:
﴿إنَّ الأبْرارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ﴾ . الأبْرارُ: أهْلُ الطّاعَةِ والإخْلاصِ، والصِّدْقُ جَمْعُ بَرٍّ أوْ بارٍّ.
قالَ في الصَّحّاحِ: جَمْعُ البَرِّ الأبْرارُ، وجَمْعُ البارِّ البَرَرَةُ، وفُلانٌ يَبَرُّ خالِقَهُ ويَبْرُرُهُ: أيْ يُطِيعُهُ.
وقالَ الحَسَنُ: البَرُّ الَّذِي لا يُؤْذِي الذَّرَّ.
وقالَ قَتادَةُ: الأبْرارُ الَّذِينَ يُؤَدُّونَ حَقَّ اللَّهِ ويُوفُونَ بِالنَّذْرِ.
والكَأْسُ في اللُّغَةِ هو الإناءُ الَّذِي فِيهِ الشَّرابُ، وإذا لَمْ يَكُنْ فِيهِ الشَّرابُ لَمْ يُسَمَّ كَأْسًا، ولا وجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِالزُّجاجَةِ، بَلْ يَكُونُ مِنَ الزُّجاجِ ومِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والصِّينِيِّ وغَيْرِ ذَلِكَ، وقَدْ كانَتْ كاساتُ العَرَبِ مِن أجْناسٍ مُخْتَلِفَةٍ، وقَدْ يُطْلَقُ الكَأْسُ عَلى نَفْسِ الخَمْرِ كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ:
وكَأْسٌ شُرِبْتُ عَلى لَذَّةٍ ∗∗∗ وأُخْرى تَداوَيْتُ مِنها بِها
﴿كانَ مِزاجُها كافُورًا﴾ أيْ يُخالِطُها وتُمْزَجُ بِهِ، يُقالُ مَزَجَهُ يَمْزُجُهُ مَزْجًا: أيْ خَلَطَهُ يَخْلِطُهُ خَلْطًا، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
كَأنَّ سَبِيَّةً مِن بَيْتِ رَأْسٍ ∗∗∗ كَأنَّ مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وقَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
صَدَدْتِ الكَأْسَ عَنّا أُمَّ عَمْرٍو ∗∗∗ وكانَ الكَأْسُ مَجْراها اليَمِينا
مُعَتَّقَةً كَأنَّ الحُصَّ فِيها ∗∗∗ إذا ما الماءُ خالَطَها سَخِينا
ومِنهُ مِزاجُ البَدَنِ، وهو ما يُمازِجُهُ مِنَ الأخْلاطِ، والكافُورُ قِيلَ: هو اسْمُ عَيْنٍ في الجَنَّةِ يُقالُ لَها الكافُورِيُّ تُمْزَجُ خَمْرُ الجَنَّةِ بِماءِ هَذِهِ العَيْنِ.
وقالَ قَتادَةُ، ومُجاهِدٌ: تُمْزَجُ لَهم بِالكافُورِ وتُخْتَمُ لَهم بِالمِسْكِ.
وقالَ عِكْرِمَةُ: مِزاجُها طَعْمُها، وقِيلَ إنَّما الكافُورُ في رِيحِها لا في طَعْمِها.
وقِيلَ إنَّما أرادَ الكافُورَ في بَياضِهِ وطِيبِ رائِحَتِهِ وبَرْدِهِ؛ لِأنَّ الكافُورَ لا يُشْرَبُ كَما في قَوْلِهِ:
﴿حَتّى إذا جَعَلَهُ نارًا﴾ [الكهف: ٩٦] أيْ كَنارٍ.
وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: طَيَّبَها المِسْكُ والكافُورُ والزَّنْجَبِيلُ.
وقالَ مُقاتِلٌ: لَيْسَ هو كافُورُ الدُّنْيا، وإنَّما سَمّى اللَّهُ ما عِنْدَهُ بِما عِنْدَكم حَتّى تَهْتَدِيَ لَهُ القُلُوبُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ جَرِّ صِفَةٍ لِكَأْسٍ.
وقِيلَ إنَّ " كانَ " هُنا زائِدَةٌ: أيْ مِن كَأْسٍ مِزاجُها كافُورٌ.
﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ﴾ انْتِصابُ عَيْنًا عَلى أنَّها بَدَلٌ مِن كافُورًا؛ لِأنَّ ماءَها في بَياضِ الكافُورِ.
وقالَ مَكِّيٌّ: إنَّها بَدَلٌ مِن مَحَلِّ ( مِن كَأْسٍ ) عَلى حَذْفِ مُضافٍ كَأنَّهُ قِيلَ: يَشْرَبُونَ خَمْرًا خَمْرُ عَيْنٍ، وقِيلَ إنَّها مُنْتَصِبَةٌ عَلى أنَّها مَفْعُولُ يَشْرَبُونَ: أيْ عَيْنًا مِن كَأْسٍ، وقِيلَ هي مُنْتَصِبَةٌ عَلى الِاخْتِصاصِ، قالَهُ الأخْفَشُ وقِيلَ مُنْتَصِبَةٌ بِإضْمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ما بَعْدَهُ: أيْ يَشْرَبُونَ عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ، والأوَّلُ أوْلى، وتَكُونُ جُمْلَةُ
﴿يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ﴾ صِفَةٌ لِ عَيْنًا.
وقِيلَ إنَّ الباءَ في
﴿يَشْرَبُ بِها﴾ زائِدَةٌ، وقِيلَ بِمَعْنى " مَن " قالَهُ الزَّجّاجُ، ويَعْضُدُهُ قِراءَةُ ابْنِ أبِي عَبْلَةَ " يَشْرَبُها عِبادُ اللَّهِ " .
وقِيلَ إنَّ " يَشْرَبُ " مُضَمَّنٌ مَعْنى يَلْتَذُّ، وقِيلَ هي مُتَعَلِّقَةٌ بِـ ( يَشْرَبُ )، والضَّمِيرُ يَعُودُ إلى الكَأْسِ.
وقالَ الفَرّاءُ: يَشْرَبُها ويَشْرَبُ بِها سَواءٌ في المَعْنى، وكَأنَّ يَشْرَبُ بِها يُرْوى بِها ويُنْتَفَعُ بِها، وأنْشَدَ قَوْلَ الهُذَلِيِّ:
شَرِبْنَ بِماءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ
قالَ: ومِثْلُهُ تَكَلَّمَ بِكَلامٍ حَسَنٍ، وتَكَلَّمَ كَلامًا حَسَنًا
﴿يُفَجِّرُونَها تَفْجِيرًا﴾ أيْ يَجُرُّونَها إلى حَيْثُ يُرِيدُونَ ويَنْتَفِعُونَ بِها كَما يَشاءُونَ ويَتْبَعُهم ماؤُها إلى كُلِّ مَكانٍ يُرِيدُونَ وُصُولَهُ إلَيْهِ، فَهم يَشُقُّونَها شَقًّا كَما يُشَقُّ النَّهْرُ ويُفَجَّرُ إلى هُنا وهُنا.
قالَ مُجاهِدٌ: يَقُودُونَها حَيْثُ شاءُوا وتَتْبَعُهم حَيْثُ مالُوا مالَتْ مَعَهم، والجُمْلَةُ صِفَةٌ أُخْرى لِ عَيْنًا.
وجُمْلَةُ
﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ مُسُوقَةٌ لِبَيانِ ما لِأجْلِهِ رُزِقُوا ما ذَكَرَ، وكَذا ما عُطِفَ عَلَيْها. ومَعْنى النَّذْرِ في اللُّغَةِ الإيجابُ، والمَعْنى: يُوفُونَ بِما أوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الطّاعاتِ.
قالَ قَتادَةُ، ومُجاهِدٌ: يُوفُونَ بِطاعَةِ اللَّهِ مِنَ الصَّلاةِ والحَجِّ ونَحْوِهِما.
وقالَ عِكْرِمَةُ: يُوفُونَ إذا نَذَرُوا في حَقِّ اللَّهِ سُبْحانَهُ، والنَّذْرُ في الشَّرْعِ ما أوْجَبَهُ المُكَلَّفُ عَلى نَفْسِهِ، فالمَعْنى: يُوفُونَ بِما أوْجَبُوهُ عَلى أنْفُسِهِمْ.
قالَ الفَرّاءُ: في الكَلامِ إضْمارٌ: أيْ كانُوا يُوفُونَ بِالنَّذْرِ في الدُّنْيا.
وقالَ الكَلْبِيُّ: يُوفُونَ بِالعَهْدِ: أيْ يُتَمِّمُونَ العَهْدَ.
والأوْلى حَمْلُ النَّذْرِ هُنا عَلى ما أوْجَبَهُ العَبْدُ عَلى نَفْسِهِ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ
﴿ويَخافُونَ يَوْمًا كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ المُرادُ يَوْمَ القِيامَةِ، ومَعْنى اسْتِطارَةُ شَرِّهِ فَشُوُّهَ وانْتِشارُهُ، يُقالُ اسْتَطارَ يَسْتَطِيرُ اسْتِطارَةً فَهو مُسْتَطِيرٌ، وهو اسْتَفْعَلَ مِنَ الطَّيَرانِ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى:
فَباتَتْ وقَدْ أثارَتْ في الفُؤا ∗∗∗ دِ صَدْعًا عَلى نَأْيِها مُسْتَطِيرا
والعَرَبُ تَقُولُ: اسْتَطارَ الصَّدْعُ في القارُورَةِ والزُّجاجَةِ: إذا امْتَدَّ، ويُقالُ اسْتِطارَ الحَرِيقُ: إذا انْتَشَرَ.
قالَ الفَرّاءُ: المُسْتَطِيرُ: المُسْتَطِيلُ.
قالَ قَتادَةُ: اسْتَطارَ شَرُّ ذَلِكَ اليَوْمِ حَتّى مَلَأ السَّماواتِ والأرْضَ.
قالَ مُقاتِلٌ: كانَ شَرُّهُ فاشِيًا في السَّماواتِ فانْشَقَّتْ وتَناثَرَتِ الكَواكِبُ وفَزِعَتِ المَلائِكَةُ، وفي الأرْضِ نُسِفَتِ الجِبالُ وغارَتِ المِياهُ.
﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأسِيرًا﴾ أيْ يُطْعِمُونَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةَ الأصْنافِ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ لَدَيْهِمْ وقِلَّتِهِ عِنْدَهم.
قالَ مُجاهِدٌ: عَلى قِلَّتِهِ وحُبِّهِمْ إيّاهُ وشَهْوَتِهِمْ لَهُ؛ فَقَوْلُهُ عَلى حُبِّهِ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ: أيْ كائِنَيْنِ عَلى حُبِّهِ. ومِثْلُهُ قَوْلُهُ:
﴿لَنْ تَنالُوا البِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٢] وقِيلَ عَلى حُبِّ الإطْعامِ لِرَغْبَتِهِمْ في الخَيْرِ.
قالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ: عَلى حُبِّ إطْعامِ الطَّعامِ.
وقِيلَ الضَّمِيرُ في حُبِّهِ يَرْجِعُ إلى اللَّهِ: أيْ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّ اللَّهِ: أيْ يُطْعِمُونَ إطْعامًا كائِنًا عَلى حُبِّ اللَّهِ.
ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ:
﴿إنَّما نُطْعِمُكم لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ والمِسْكِينُ ذُو المَسْكَنَةِ، وهو الفَقِيرُ، أوْ مَن هو أفْقَرُ مِنَ الفَقِيرِ، والمُرادُ بِاليَتِيمِ يَتامى المُسْلِمِينَ، والأسِيرُ الَّذِي يُؤْسَرُ فَيُحْبَسُ.
قالَ قَتادَةُ، ومُجاهِدٌ: الأسِيرُ: المَحْبُوسُ.
وقالَ عِكْرِمَةُ: الأسِيرُ: العَبْدُ.
وقالَ أبُو حَمْزَةَ الثُّمالِيُّ: الأسِيرُ: المَرْأةُ.
قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَسَخَ هَذا الإطْعامَ آيَةُ الصَّدَقاتِ وآيَةُ السَّيْفِ في حَقِّ الأسِيرِ الكافِرِ، وقالَ غَيْرُهُ: بَلْ هي مُحْكَمَةٌ، وإطْعامُ المِسْكِينِ واليَتِيمِ عَلى التَّطَوُّعِ، وإطْعامُ الأسِيرِ لِحِفْظِ نَفْسِهِ إلى أنْ يَتَخَيَّرَ فِيهِ الإمامُ، وجُمْلَةُ
﴿إنَّما نُطْعِمُكم لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ بِتَقْدِيرِ القَوْلِ: أيْ يَقُولُونَ إنَّما نُطْعِمُكم، أوْ قائِلِينَ إنَّما نُطْعِمُكم: يَعْنِي أنَّهم لا يَتَوَقَّعُونَ المُكافَأةَ ولا يُرِيدُونَ ثَناءَ النّاسِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ يَسْتَكْمِلُوا بِهَذا ولَكِنْ عَلِمَهُ اللَّهُ مِن قُلُوبِهِمْ فَأثْنى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ.
قالَ الواحِدِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ: لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهَذا ولَكِنْ عِلْمَهُ اللَّهُ مِن قُلُوبِهِمْ فَأثْنى عَلَيْهِمْ وعَلِمَ مِن ثَنائِهِ أنَّهم فَعَلُوا ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ اللَّهِ ورَجاءَ ثَوابِهِ
﴿لا نُرِيدُ مِنكم جَزاءً ولا شُكُورًا﴾ أيْ لا نَطْلُبُ مِنكُمُ المُجازاةَ عَلى هَذا الإطْعامِ ولا نُرِيدُ مِنكُمُ الشُّكْرَ لَنا، بَلْ هو خالِصٌ لِوَجْهِ اللَّهِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها؛ لِأنَّ مَن أطْعَمَ لِوَجْهِ اللَّهِ لا يُرِيدُ المُكافَأةَ ولا يَطْلُبُ الشُّكْرَ لَهُ مِمَّنْ أطْعَمَهُ.
﴿إنّا نَخافُ مِن رَبِّنا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ أيْ نَخافُ عَذابَ يَوْمٍ مُتَّصِفٍ بِهاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، ومَعْنى عَبُوسًا: أنَّهُ يَوْمٌ تَعْبِسُ فِيهِ الوُجُوهُ مِن هَوْلِهِ وشِدَّتِهِ، فالمَعْنى: أنَّهُ ذُو عَبُوسٍ.
قالَ الفَرّاءُ، وأبُو عُبَيْدَةَ، والمُبَرِّدُ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وقُماطِرٌ: إذا كانَ صَعْبًا شَدِيدًا، وأنْشَدَ الفَرّاءُ:
بَنِي عَمِّنا هَلْ تَذْكُرُونَ بَلاءَنا ∗∗∗ عَلَيْكم إذا ما كانَ يَوْمَ قُماطِرَ
قالَ الأخْفَشُ: القَمْطَرِيرُ أشَدُّ ما يَكُونُ مِنَ الأيّامِ وأطْوَلُهُ في البَلاءِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
فَفِرُّوا إذا ما الحَرْبُ ثارَ غُبارُها ∗∗∗ ولَجَّ بِها اليَوْمُ العَبُوسُ القُماطِرُ
. قالَ الكِسائِيُّ: اقْمَطَرَّ اليَوْمَ وازْمَهَرَّ: إذا كانَ صَعْبًا شَدِيدًا، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
بَنُو الحَرْبِ أوْصَيْنا لَهم بِقَمْطَرَةٍ ∗∗∗ ومَن يَلْقَ مِنّا ذَلِكَ اليَوْمَ يَهْرُبِ
وقالَ مُجاهِدٌ: إنَّ العُبُوسَ بِالشَّفَتَيْنِ، والقِطْمِيرُ بِالجَبْهَةِ والحاجِبَيْنِ، فَجَعَلَهُما مِن صِفاتِ المُتَغَيِّرِ في ذَلِكَ اليَوْمِ لِما يَراهُ مِنَ الشَّدائِدِ، وأنْشَدَ ابْنُ الأعْرابِيِّ:
يَقْدِرُ عَلى الصَّيْدِ بِعُودٍ مُنْكَسِرْ ∗∗∗ ويُقَمْطِرُ ساعَةً ويَكْفَهِرْ
قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: يُقالُ: قَمْطَرِيرٌ: أيْ مُنْقَبِضٌ ما بَيْنَ العَيْنَيْنِ والحاجِبَيْنِ.
قالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ اقْمَطَرَّتِ النّاقَةُ: إذا رَفَعَتْ ذَنَبَها وجَمَعَتْ قُطْرَيْها ورَمَتْ بِأنْفِها ما يَسْبِقُها مِنَ القَطْرِ، وجَعَلَ المِيمَ مَزِيدَةً.
﴿فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ﴾ أيْ أعْطاهم بَدَلَ العُبُوسِ في الكُفّارِ نَضْرَةً في الوُجُوهِ وسُرُورًا في القُلُوبِ.
قالَ الضَّحّاكُ: والنَّضْرَةُ البَياضُ والنَّقاءُ في وُجُوهِهِمْ.
وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، الحُسْنُ والبَهاءُ، وقِيلَ النَّضْرَةُ أثَرُ النِّعْمَةِ.
﴿وجَزاهم بِما صَبَرُوا﴾ أيْ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلى التَّكالِيفِ، وقِيلَ عَلى الفَقْرِ، وقِيلَ عَلى الجُوعِ، وقِيلَ عَلى الصَّوْمِ.
والأوْلى حَمْلُ الآيَةِ عَلى الصَّبْرِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ طاعَةً لِلَّهِ سُبْحانَهُ، وما مَصْدَرِيَّةٌ، والتَّقْدِيرُ: بِصَبْرِهِمْ
﴿جَنَّةً وحَرِيرًا﴾ أيْ أدْخَلَهُمُ الجَنَّةَ وألْبَسَهُمُ الحَرِيرَ، وهو لِباسُ أهْلِ الجَنَّةِ عِوَضًا عَنْ تَرْكِهِ في الدُّنْيا امْتِثالًا لِما ورَدَ في الشَّرْعِ مِن تَحْرِيمِهِ، وظاهِرُ هَذِهِ الآياتِ العُمُومُ في كُلِّ مَن خافَ مِن يَوْمِ القِيامَةِ وأطْعَمَ لِوَجْهِ اللَّهِ وخافَ مِن عَذابِهِ، والسَّبَبُ وإنْ كانَ خاصًّا كَما سَيَأْتِي فالِاعْتِبارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ ويَدْخُلُ سَبَبُ التَّنْزِيلِ تَحْتَ عُمُومِها دُخُولًا أوَّلِيًّا.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ:
﴿هَلْ أتى عَلى الإنْسانِ﴾ قالَ: كُلِّ إنْسانٍ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: أمْشاجٍ قالَ أمْشاجُها عُرُوقُها.
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ أمْشاجٍ قالَ: العُرُوقُ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ
﴿مِن نُطْفَةٍ أمْشاجٍ﴾ قالَ: ماءُ الرَّجُلِ وماءُ المَرْأةِ حِينَ يَخْتَلِطانِ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ قالَ: أمْشاجٍ ألْوانٍ: نُطْفَةُ الرَّجُلِ بَيْضاءُ وحَمْراءُ، ونُطْفَةُ المَرْأةِ خَضْراءُ وحَمْراءُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: الأمْشاجُ الَّذِي يَخْرُجُ عَلى أثَرِ البَوْلِ كَقِطَعِ الأوْتارِ ومِنهُ يَكُونُ الوَلَدُ.
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: وأسِيرًا قالَ: هو المُشْرِكُ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ
«عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في قَوْلِهِ: مِسْكِينًا قالَ: فَقِيرًا ويَتِيمًا قالَ لا أبَ لَهُ وأسِيرًا قالَ: المَمْلُوكُ والمَسْجُونُ» .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ:
﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ﴾ الآيَةَ. قالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ وفاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ .
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ:
﴿يَوْمًا عَبُوسًا﴾ قالَ: ضَيِّقًا قَمْطَرِيرًا قالَ: طَوِيلًا وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ
«عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في قَوْلِهِ: ﴿يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ قالَ: يَقْبِضُ ما بَيْنَ الأبْصارِ» .
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: القَمْطَرِيرُ الرَّجُلُ المُنْقَبِضُ ما بَيْنَ عَيْنَيْهِ ووَجْهِهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ
﴿ولَقّاهم نَضْرَةً وسُرُورًا﴾ قالَ: نَضْرَةً في وُجُوهِهِمْ وسُرُورًا في صُدُورِهِمْ.